في خضمّ مناقشات مشروع قانون موازنة 2019 في مجلس الوزراء، تسلّم الوزراء مشاريع قوانين قطع الحساب للأعوام من 1997 حتّى 2017 (تنشرها «الأخبار»)، ولكنّها بقيت نائمة إلى أن أدرجت على جدول أعمال جلسة الغد. في هذا الوقت، بشّر رئيس ديوان المحاسبة القاضي أحمد حمدان، بأنّ «دراسة قطع حساب كلّ سنة تحتاج إلى أربعة أشهر»، أي أن الديوان لن ينجز مهمّته كلّياًً قبل 7 سنوات. معلناًً أنّ الديوان أنهى دراسة قطع حساب عام 2017 وحده لتسهيل إقرار الموازنة «خلافاً للدستور»!تنصّ المادة 87 من الدستور على «أن حسابات الإدارة المالية النهائية لكلّ سنة يجب أن تعرض على مجلس النواب ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة الثانية التي تلي تلك السنة». أي أن قانون موازنة عام 2019، المطروح على مجلس النواب حالياً، لا يصبح نافذاً إلّا بعد نشره في الجريدة الرسمية، وفق أحكام الدستور، ولا يمكن نشره إلّا بعد التصديق على قطع حساب موازنة 2017.
هذا في الدستور، أمّا في الواقع، فالأمور تجري بطريقة مخالفة جدّاً، وتتزايد الترجيحات بأن يُنشر قانون موازنة عام 2019، للمرّة الثالثة على التوالي، من دون التزام هذا الموجب الدستوري، على غرار نشر قانوني 2017 و2018، بذريعة إعطاء مهلة إضافية لديوان المحاسبة لإنجاز واجباته في الرقابة اللاحقة، قد تكون أطول من المهلة التي أعطيت سابقاً لوزارة المال لإنجاز واجباتها في وضع الحسابات نفسها.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

على الرغم من التصريحات النارية لعدد من النواب، ومنهم رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان، التي ترفض الاستمرار في مخالفة الدستور، وتشترط لإقرار موازنة 2019 تسليم المجلس النيابي مشاريع قوانين قطع الحساب عن كلّ السنوات الماضية، وعدم القبول بإحالة قطع حساب عام 2017 فقط، أو انتظار تقرير ديوان المحاسبة حوله. إلّا أن رئيس ديوان المحاسبة القاضي أحمد حمدان، مهّد للتسوية التي تُعدُّ في الغرف المُغلقة من أجل اختراع المخرج، فهو أقرّ بعدم إمكانية نشر موازنة عام 2019 قبل إقرار مشاريع قطع حسابات كلّ السنوات من 1997 حتّى 2017، ولكنّه أوضح أن الديوان تسلّم هذه المشاريع قبل شهرين فقط، معلناً أن «دراسة قطع حساب كلّ سنة من السنوات الـ21، تحتاج إلى أربعة أشهر من التدقيق ومطابقة حسابات النفقات وضبطها، ومقارنتها بالواردات، والتصديق على ما هو صحيح وتسليط الضوء على الحسابات غير المطابقة». بمعنى ما، يقول رئيس الديوان إنه سيحتاج إلى 7 سنوات حتّى تتسنّى العودة إلى الانتظام العام واحترام أحكام الدستور. فما المخرج المقترح الآن؟ أعلن القاضي حمدان أنّ «ديوان المحاسبة أنهى قطع حساب عام 2017، وسيُسلَّم للحكومة قريباً»، أي أن الديوان بدأ ينفّذ مهمّته بالمقلوب، من عام 2017 ونزولاً بدلاً من عام 1997 وصعوداً، وبالتالي أعدّ «المسرح» للإمعان في المخالفات الدستورية «ليتمكّن مجلس النواب من إقرار موازنة 2019 ونشرها في الجريدة الرسمية»، وفق تصريحاته. وقال: «إذا لم تأخذ السلطة التشريعية بقطع حساب عام 2017 وحده، عندها يمكنها إعطاء مهلة لديوان المحاسبة لإنجاز قطوعات الحسابات عن السنوات العشرين الماضية».
إذاً، هذا هو المخرج الجاري إعداده: إمّا القبول بإجراء «صوري» يقضي بإقرار قطع حساب سنة 2017 وحدها، وإمّا إعطاء مهلة إضافية للديوان ونشر قانون الموازنة مجدّداً من دون أي قطع حساب عن كلّ السنوات الماضية. وهما خياران مخالفان للدستور، بإقرار رئيس الديوان نفسه. وفي هذا السياق، يجدر الانتباه إلى أن قطع حساب سنة 2017 يقابله قانون للموازنة عن السنة نفسها، سبق أن أقرّه مجلس النواب بعد 11 سنة متتالية من الإنفاق والجباية من دون أي قانون يجيزهما، وهذا مصدر «وجع رأس» سياسي، فضلاً عن تاريخ طويل من الفوضى المالية التامّة، إذ إن ديوان المحاسبة لم يصدّق نهائياً على أي قطع حساب منذ عام 1979 حتّى اليوم، بل عمد سابقاً إلى الرضوخ للحكومة وأعطى موافقة مبدئية على حسابات غير نهائية وغير مدقّقة، آخرها يعود لعام 2003، وسمح بإقرار قوانين الموازنة حتى عام 2005، لم تلتزم الحدّ الأدنى من الشروط النظامية، ولم تكن شاملة كل الإنفاق، وهذا مصدر ثانٍ لوجع الرأس السياسي، إذ إن عشرات مليارات الدولارات جُبيَت وأُعيد توزيعها عبر الإنفاق العام من دون أي رقابة أو تدقيق أو مساءلة.
منذ أكثر من 10 أشهر تقريباً، أنجزت المديرية العامّة للمالية العامّة مشاريع قطع الحساب للسنوات من 1997 حتّى 2017، وتعذّر عليها إعادة تكوين حسابات السنوات بين 1993 و1996، نظراً لفقدان المستندات الثبوتية، إلّا أنها نجحت في تحديد ما يُعرف باسم «ميزان الدخول» في نهاية عام 1992، أي منذ تصفير الحسابات، الذي حال عدم تحديده سابقاً دون قيام ديوان المحاسبة بواجباته في الرقابة المؤخّرة على الحسابات. إلّا أن هذا الإنجاز لم يقتصر على إعداد مشاريع قطع الحساب فقط، بل تضمّن تقارير من آلاف الصفحات، مُعزّزة بالوثائق والمستندات والمراسلات والمحاضر، التي توثّق المخالفات والتعدّيات على المال العام ومسك الحسابات بطريقة خاطئة والتلاعب بقيودها لطمسها وإخفاء حقيقتها. لذلك، قد لا يكون مستغرباً أن تكتفي رئاسة مجلس الوزراء بتسليم الوزراء مشاريع قطع الحساب من دون هذه التقارير، كذلك لن يكون مستغرباً عدم إحالة هذه التقارير على مجلس النواب، فالمسألة كلّها تكمن في البحث عن طريقة تُعفي من فضح مضامين هذه التقارير وإبقائها طيّ الكتمان والتهرّب من المسؤولية.
تنشر «الأخبار» أعلاه جدولاً يختصر النتيجة الإجمالية لحسابات الدولة المالية بين عامي 1993 و2017 (يمكن الاطلاع على مشاريع قطع حسابات السنوات من 1997 حتى 2017 كما وزّعت على الوزراء)، وسنسعى في الأعداد اللاحقة إلى تحليل هذه الأرقام واستكشاف خلفيّاتها، إلّا أن معانيها السياسية الفعلية لن تظهر إلّا إذا تسرّبت التقارير المرفقة أو قرّر ديوان المحاسبة أن يقوم بعمله الرقابي بجدّية ومن دون مسايرة.
على أي حال، تظهر النتيجة الإجمالية، ما بات معروفاً، إذ بلغ العجز المتراكم بين عامي 1993 و2017، بما فيه السلفات والمبالغ المدفوعة للكهرباء والمؤسّسات العامّة، نحو 72.4 مليار دولار، علماً أن مدفوعات الفائدة بلغت وحدها نحو 68.4 مليار دولار، أي نصف مجمل الإيرادات التي جبتها الحكومة، والبالغة نحو 137.9 مليار دولار. وللتدقيق تتمّة.