«في حال أنّ أحدهم نسي أو يظن العكس، أعيدها مرّات عديدة: إننا لا نعيش في أفضل العوالم»
لويس بونيويل


من الواضح للبنانيين جميعاً، أنّ هناك شيئاً سيّئاً يحدث في بلدهم. فمن الصراعات المذهبية، التي تنفجر من فترة إلى أخرى على وسائط التواصل الاجتماعي وتنذر بالشؤم في حال انحدارها إلى أرض الواقع، إلى الوضع الاقتصادي الذي يخنق الطبقات الوسطى والعاملة، إلى تراكم الدَّيْن العام الذي أصبح شبحه يهدّد بالانهيار، وصولاً إلى تردّي الفضاء المعيشي من طرقات وتلوّث وعدم وجود حيّز عام. طبعاً، تجري هذه الأمور وتعاني الأكثرية، بينما تناقش الطبقة الحاكمة، بأجنحتها المذهبية، الموازنة مُركزة على أمر واحد، هو كيفية تحقيق هدف، يبدو متحرّكاً أكثر فأكثر، ألا وهو مقدار عجز الخزينة، الذي يأتي ضمن شروط العَقْد الأخير من سلسلة المؤتمرات الدولية التي تتوالى لإنقاذ الطبقة الحاكمة من مآزقها المتتالية. فخلال حكمها منذ أكثر من 25 سنة عاماً، وهي تبحث عمّا يسمّيه النيوكلاسيكيون «الغذاء المجّاني» من الخارج، من سياحة و«صيفيات واعدة» وتحويلات المغتربين واستثمار خارجي وأموال للتدفّق إلى ودائع في المصارف وأموال مؤتمرات ومساعدات لتسليح الجيش وتبرّعات لإعادة الإعمار بعد الحروب، وغيرها.
في ظلّ كلّ هذا، يستمرّ لبنان بالانحدار، وتدمّرت الدولة على عكس ما يظنّ البعض، فانتفاخها اليوم ما هو إلّا الشكل الآخر للنظام الذي بُني بعد الطائف (انظر مقالة الدولة التي على اليسار ألّا يدافع عنها). وفي هذا الاتكال على الخارج تبدو البورجوازية اللبنانية ضائعة، تبحث عن شيء ليجمعها أو لينقذها من نفسها، وبالتالي يأخذ هذا الاتكال أشكالاً أكثر مباشرة أو أوضح، وفي بعض الأحيان يبدو ذلك سوريالياً. والتالي، مثالان على ذلك.

الاقتصاد الخارجي مهمّ ولكن؟
منذ فترة، وفي ندوة مُغلقة، قال أحد المسؤولين المصرفيين الكبار إن المخاوف من حجم الدَّيْن العام إلى الناتج، البالغ 150% وهو الثالث عالمياً، مبالغٌ بها، لأن الناتج المحلّي ليس المقياس الحقيقي للدخل وللثروة في لبنان، وذلك بسبب إنتاج دخل اللبنانيين وثروتهم في الخارج، وبالتالي، إذا أخذنا مجمل الدخل اللبناني داخلياً مع دخل مع ما يمكن أن نسمّيه «الدياسبورا» خارجياً، فإن الدَّيْن إلى الدخل الإجمالي قد يصبح عندها 70%، وحتّى أقل من ذلك بكثير. هذا الطرح منطقي (حتّى الآن)، وبالتالي كان جوابي أنني موافق على الطرح مبدئياً، ولكن الدخل الذي يجب أن يُستعمل في تحديد مقدرة البلد على دفع دَيْنِه العام، هو الدخل الذي يخضع للضريبة ويحقّق مداخيل للدولة، لأن الدَّيْن الذي نتكلّم عنه دَيْن على الدولة وليس ديناً على الأفراد أو الشركات أو القطاع الخاص.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

وبالتالي، فإمّا نُبقي على الناتج المحلّي كمقياس، وبالتالي نعود إلى 150%، وإمّا يجب علينا فرض ضرائب على دخل اللبنانيين في الخارج، وعندها صحيح، يمكن أن تصبح هذه النسبة 70% أو حتّى أقلّ! لكن من دون هذا، فإن دخل اللبنانيين في الخارج لن يُحدث فرقاً، على الرغم من إمكانية إحداث هذا التغيير الكبير من 150% إلى 70%. هذا الفرق بين الرقمين يعني أن هناك أمراً بنيوياً في الاقتصاد اللبناني يجعله إلى حدّ كبير في نادٍ وحده. فإذا أخذنا الـ500 ألف لبناني الذين يعملون في الخليج، فإن هؤلاء يشكّلون نحو ربع مجمل القوى العاملة، أو ثلث القوى العاملة في داخل لبنان. إذاً، حجم القوى العاملة في الخارج كبير جدّاً، ويكاد يكون البلد الوحيد التي يعمل ربع قواه العاملة خارجه، وبالتالي، من الصحيح ألّا تكون مداخيل الدياسبورا اللبنانية وثرواتها خارج الحسابات الاقتصادية كما هي الحال اليوم. لكن هنا أمران: أوّلاً، علينا ليس فقط إدخالها في تلك الحسابات، بل ربطها بالاقتصاد الداخلي. ثانياً، هذا الربط بين الاقتصادين الداخلي والخارجي لا يمكن أن يكون عبر تحويلات العاملين في الخارج فقط، أو عبر الزيارات التي يقوم بها هؤلاء، أو عبر شراء الأصول في لبنان وخصوصاً العقارات، فيجب جعل هذا الربط عبر النظام الضريبي. وهنا يكمن بيت القصيد، كما يُقال، الذي لن تقترب منه الطبقة الحاكمة، لا «حرصاً» على العاملين في الخارج، بل دفاعاً عن مصالحها في الداخل لئلا تتدحرج كرة الثلج الضريبية فتصيبها هي أيضاً، وهذا ما لا تريده أبداً لأنها تريد كلّ شيء أن يكون مجّانياً. ومن دون ذلك، يبقى هذا الربط ضعيفاً ولا يمكن فقط بطريقة محاسباتية أو «دفاعية» استعماله في رفع «المخاوف» من ارتفاع الدَّيْن العام. ومن دون الربط الضريبي، لا يمكن استعمال هذه الموارد «الخارجية» في بناء البنية التحتية وبناء قدرة الدولة. وهنا نأتي إلى المثال الآخر.

مراقبة المحارق... أوروبياً؟
في 25 حزيران/ يونيو الماضي، وفي مقدمة جريدة «دايلي ستار» لمقابلة مع وزير البيئة اللبناني، قالت إنه «يريد من خبراء الاتحاد الأوروبي أن يراقبوا محارق النفايات، لأن الحكومة لا تملك الإمكانية لمراقبة هذه التكنولوجيا التي تنتج مواد سامّة». السؤال الذي يطرح نفسه مباشرة: لماذا في بلد، وفق تقرير «المنتدى الاقتصادي العالمي»، يحتلّ المرتبة 15 في العالم في توافر المهندسين والعلماء، لا يملك القدرة على مراقبة هذه التكنولوجيا؟ خصوصاً أننا نتحدث هنا عن مراقبتها، لا إنتاجها! وهذا الطلب من الوزير يُذَكِّر باحتجاج و«عتب» منذ سنوات على قبرص لأنها لم ترسل طوافات لإخماد الحرائق في لبنان التي اندلعت آنذاك، وكان لبنان للتوّ قد رفض فكرة بيع المياه لها عندما كانت تعاني هي من شحّه! وفي المقابلة مع الوزير، الأمور تتدحرج بسرعة، فيتبيّن أن الوزارة لديها موازنة تبلغ 9 ملايين دولار أميركي فقط، وستخضع هي أيضاً للتقشّف لتصبح 8 ملايين دولار في 2019! ولكن يقول إنه لن يعارض هذا الخفض، فهو في المقابل يحصل على تمويل من «البنك الدولي» و«البرنامج الإنمائي للأمم المتّحدة»، ويعطي مثلاً عن منحة من الأخير بقيمة 150 ألف دولار أميركي ذهبت جزئياً لشراء طابعات وحبر! إن هذا الوضع بمجمله، السوريالي شكلاً والتراجيدي مضموناً، أمر ينسحب على الدولة اللبنانية كلّها. وهنا لا بدّ من طرح بعض الأسئلة على منوال سؤال جيرالد كوهين في كتابه «إذا كنت مع المساواة، فلماذا أنت غني إلى هذه الدرجة؟».
في بحثها عن الحلّ من وراء البحار، تتوهّم البورجوازية اللبنانية العيش في أفضل العوالم، وتعتقد أن العالم دائماً مدين لها بشيء

فإذا كان لبنان، وفق الكثير من المؤشّرات، بلداً غنياً نسبياً في داخله وخارجه، فعندها يمكن السؤال: إذا كان لبنان غنياً لهذه الدرجة، فلماذا يطلب من الاتحاد الأوروبي مراقبة محارق نفاياته؟ إذا كان لبنان غنياً لهذه الدرجة، فلماذا يعاني من انقطاع الكهرباء مثل أفقر الدول في العالم؟ إذا كان لبنان غنياً لهذه الدرجة، فلماذا لا يستطيع تسليح الجيش؟ (وهنا تخترع الطبقة الحاكمة مقولة أن الجيش اللبناني ممنوع عليه التسلّح ويُصدّقها الجميع!). إذا كان لبنان غنياً لهذه الدرجة، فلماذا لا يستطيع أن يكمل بناء أوتوستراد من مدينة أ (صيدا) إلى مدينة ب (صور) خلال أكثر من عشر سنوات؟ إذا كان لبنان غنياً لهذه الدرجة، فلماذا يطلب دائماً المساعدات لإعمار البنية التحتية؟ ولائحة الأسئلة تطول.
في هذا الإطار، لقد أُوهِم اللبنانيون عمداً بأنّ لبنان فعلاً لا مقدرة مالية لديه للقيام بكلّ هذا، وهذا الأمر غير صحيح. فالمعضلة أن لبنان ليس لديه نظام ضريبي، مثل الدول المتطوّرة، يضع الضرائب بشكل أكبر حيث يجب، أي حيث تتمركز الثروة ويتمركز الدخل. وهذا ما يمنع المقدرة على تحويل الموارد من الاقتصاد الخاص نحو بناء دولة عصرية تستطيع أن تقوم بكلّ ما تقدم في الأسئلة. فالضريبة أساس بناء الدولة وتقدم الاقتصاد أيضاً. وهنا يمكن طرح الأمر بهذا النحو: هل اقتصادياً أفضل، تراكم الثروة لدى القلّة وانهيار الاقتصاد وتراكم الدَّيْن العام وانهيار البنية التحتية، أم قيام نظام ضريبي يحوّل المال الفائض والثروة المتركّزة إلى رأسمال مادي ووظائف واستقرار نقدي واقتصاد ديناميكي، ودولة مركزية قوية؟
طبعاً نحن بعيدون عن الإجابة عن سؤال كهذا، فالبورجوازية اللبنانية تبحث ضائعة عن «العشاء» في الخارج مهما تعدّدت أشكاله، ولكنّها، على عكس بورجوازية بونيويل، لا تملك سحراً، وفي بحثها عن الحلّ من وراء البحار تتوهّم العيش في أفضل العوالم، وتعتقد أن العالم دائماً مدين لها بشيء. وفي هذا استبدلت السحر، إذا كانت امتلكته يوماً، بالخبث، لأنّ من الواضح جدّاً أنها تدافع عن مصالحها الضيّقة ولا تملك إمكانية أن تكون طبقة متنوّرة، فهي نزعت شيئاً فشيئاً كل أقنعتها، ولم يعد هناك أي شيء يخفي فشلها في عدم المقدرة على بناء وطن. الآن فقط نهاية حكمها غير واضحة.