يعتقد العديد من الاقتصاديين أن الدفاع عن «نظام سعر الصرف الثابت»، في ظروف الاقتصاد اللبناني الراهنة والمُنتظَرة، بات بمثابة خيار سياسي متهوّر، باهظ الكلفة وغير مضمون النتائج. إلّا أن أحداً لا يجرؤ على مساندة دعوة صندوق النقد الدولي المُتكرّرة إلى تخفيض سعر الليرة والعودة إلى نظام سعر الصرف «المرن» أو «المُدار»، الذي كان معتمَداً في لبنان قبل عام 1998. فمثل هذه الدعوة دونها شروط كثيرة وصعبة، غير متحقّقة، ولا يبدو أن خبراء الصندوق يعيرونها أي أهمّية في سياق دعوتهم إلى إجراء مثل هذا التعديل المالي الكبير والموجع.قبل أيّ شيء، تحتاج عملية تخفيض سعر الصرف إلى إدارة سياسية واعية، تتمتّع بالحدّ الأدنى من الكفاءة والأهلية والتصميم. كما تحتاج إلى «توافق جديد»، يعيد توزيع الخسائر والأرباح، ويعوّض الخاسرين من حساب الفائزين. وهذان الشرطان الرئيسان هما أكثر ما نفتقده في مواجهة هذه الظروف الحرجة والخطيرة. فالثقة بأطراف السلطة الائتلافية معدومة، وهي، بالمفرق وبالجملة، لا تملك برنامجاً مغايراً لما جرّبناه حتّى الآن. وفي مواجهتها، لا يوجد أي برنامج بديل، قادر على استقطاب قاعدة اجتماعية واسعة أو بناء قوّة ضغط مؤثّرة. في ظلّ ذلك، تزداد هيمنة المصالح المالية والعقارية والتجارية، التي استأثرت سابقاً بالأرباح والمكاسب والامتيازات، وتحاول الآن أن تستأثر بالحماية والدعم وتفادي الخسائر ونقلها إلى كلّ المجتمع، ولا سيّما الفئات الأضعف فيه.
على الرغم من أن سعر الصرف هو مجرّد أداة اقتصادية، أي أنه ليس هدفاً لذاته وإنّما وسيلة لتحقيق أهداف السياسيين والفاعلين الاقتصاديين وكبار المودعين والدائنين، إلّا أن تخفيض سعر أي عملة ينطوي على إعادة توزيع ضخمة للثروة والدخل والنفوذ، ويقال إنه الطريقة الأسرع والأكثر فعالية لتغيير أي مجتمع وإخضاعه لإعادة هندسة وفق المصالح المُهيمنة. فانخفاض سعر العملة المحلّية سيكون بمثابة ضريبة فورية مرتفعة، غير عادلة بطبيعتها، تقضم مباشرة وفوراً جزءاً من الدخل المُحرّر بهذه العملة، الذي يتألّف غالباً من أجور وتعويضات ومدخّرات العمّال والمهنيين وصغار الكسبة، ممن لا يتمتّعون بالمرونة الكافية في تحديد قيمة أجورهم ويُصعب عليهم تعويض الخسائر في قدراتهم الشرائيّة في الوقت المناسب. كما أنه يقوم بعمليات نقل واسعة للثروة بين المتحكّمين برأس المال، بفعل عوامل كثيرة من ضمنها المضاربات والإفلاسات وتآكل الديون المُحرّرة بالعملة المحلّية وارتفاع أسعار الفائدة والقيود التي يمكن أن تُفرض على حركة رأس المال عبر الحدود وحجم السيولة النقدية وعرض النقود وسحب الودائع والتحويل بين العملات... إلخ.
في الحالة اللبنانية، مثّل ثبات سعر صرف الليرة الهاجس المحلّي شبه الوحيد منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي. وهذا موقف مُستغرَب في ظل اقتصاد مدولر بنسبة تفوق الـ70% من الودائع والتسليفات والتعاملات التجارية والرساميل، وفي ظلّ بنية استهلاك مُفرطة في اتّكالها على الاستيراد لتلبية حاجات الأسر إلى السلع والخدمات، ومُدمنة على تحويلات اللبنانيين المهاجرين لتمويل استهلاك هذه الأسر. لقد لعبت السياسات المالية والنقدية أدواراً بارزة ومختلفة في إرساء هذا النموذج، وبالتالي حوّلت ثبات سعر الصرف إلى شرط رئيس من شروط استمراره.
بتبسيط شديد، قامت الآلية المُعتمَدة بعد الحرب بعكس الأهداف التي تسعى لتحقيقها سياسات إعادة الإعمار، فجرى تشجيع اللبنانيين على الهجرة بدلاً من استقطاب المهاجرين السابقين، طمعاً بزيادة تحويلاتهم إلى أسرهم المقيمة في لبنان والمساهِمة بتمويل عجز ميزان الحساب الجاري (صافي التعاملات مع الخارج). بهذا المعنى جرى استبدال نظرية الاعتماد على صادرات السلع والخدمات بنظرية الاعتماد على تحويلات اللبنانيين المهاجرين، وذلك لتوفير شرط من شروط تثبيت سعر صرف الليرة إزاء الدولار، وهو الحصول على تدفّقات خارجية كافية بالعملات الأجنبية ومراكمة أصول أجنبية تسمح بتسديد المدفوعات إلى الخارج، ولا سيّما فاتورة الاستيراد والفوائد للمقيمين وغير المقيمين وعوائد الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كذلك جرى تخفيض الضرائب المباشرة على الأرباح، في ظلّ إنفاق توسّعي في عقد التسعينيات، أسفر عن عجز مالي كبير، تعمد الحكومة إلى تمويله عبر الدَّيْن، وشيئاً فشيئاً تحوّل هذا الدَّيْن، ولا سيّما الدَّيْن بالعملات الأجنبية، إلى بديل عن الإنتاج كشرط آخر من شروط تثبيت سعر الصرف. في الحصيلة، أصبحت القدرة على مواصلة تثبيت سعر صرف الليرة مرهونة بهذين العاملين: الحصول على تدفّقات خارجية كافية باستمرار، وتحمّل كلفة خدمة دَيْن خارجي متعاظمة.
أدّت هذه الآلية إلى تكديس أصول في المصارف المحلّية، معظمها ودائع للزبائن، باتت تساوي قيمتها نحو أربع مرّات ونصف المرّة مجمل الناتج المحلّي، وفق الجداول غير المنشورة، المرفقة بالبيان الختامي لبعثة صندوق النقد الدولي الأخيرة. وأدّت أيضاً إلى مراكمة دَيْن خارجي، بما فيه ودائع غير المقيمين، تساوي قيمته مرّتين مجمل الناتج المحلّي، وبالتالي باتت الفوائد المدفوعة عبر المصارف وسندات الدَّيْن تقتطع الجزء الأكبر من فائض القيمة المُنتج في الاقتصاد المحلّي على حساب نموّ الأرباح والأجور معاً، وبات جزءاً مهمّاً من هذه الفوائد يتسرّب إلى الخارج كعوائد تجارية وأرباح من توظيف العملات الأجنبية في الودائع المصرفية ومديونية الدولة (الحكومة والبنك المركزي وسائر المؤسّسات العامّة). يقدّر العجز في الحساب الجاري حالياً بأكثر من ربع مجمل الناتج المحلّي السنوي، أي إن الاقتصاد اللبناني مضطر هذه السنة إلى اقتطاع نحو 16 مليار دولار من الدخل المُتاح لتسكير حساباته مع الخارج، وإلّا سيكون متوقفاً عن الدفع.
ما نواجهه اليوم، أن شروط مواصلة تثبيت سعر صرف الليرة باتت مُختلّة كلّياً، فالودائع تنخفض بالقيمة المطلقة، وصافي تحويلات العاملين في الخارج يتراجع باطّراد، والصادرات الضئيلة أصلاً تزداد ضآلة، والاستثمارات الأجنبية المباشرة شبه معدومة، ولا سيّما في ظلّ أزمة العقارات التي كانت المقصد الأساسي لهذه الاستثمارات، وقد خرج من لبنان نحو 18.5 مليار دولار أكثر ممّا دخل إليه في الفترة من عام 2011 حتى أيار/ مايو 2019، وهذا يعني، ولأسباب مختلفة محلّية وخارجية، أن التدفّقات المالية التي يحصل عليها لبنان من الخارج، على شكل تحويلات وديون خارجية واستثمارات أجنبية، لم تعد تكفي لتغطية الالتزامات على لبنان لمصلحة الخارج، وبات تمويل هذه الفجوة التي تزداد اتّساعاً يستنزف موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، وهي بمعظمها ودائع للزبائن معرّضة للخسارة في حال استمر هذا الاستنزاف. في المقابل، ترتفع الفوائد في الخارج وتتباطأ حركة رأس المال وتتضخّم فاتورة الاستيراد وتزداد المديونية وتتقلّص فرص الهجرة وتتدهور القيمة الشرائية للأجور والظروف المعيشية وبيئة الأعمال.
لا توجد خيارات كثيرة في مثل هذه الظروف، يقول الاقتصاديون، فعاجلاً أم آجلاً ستضطر الأطراف الحاكمة إلى مواجهة هذه الحقيقة. وهذا سيحصل عبر طريقتين: إمّا أن يُترك النظام النقدي القائم لينهار تحت وطأة الضغوط ويُترك الناس لمصيرهم الأسود، وإمّا أن تبدأ هذه الأطراف بالتفكير في إدارة عملية الانتقال إلى نظام نقدي جديد، يعيد الاعتبار للأهداف الاجتماعية والاقتصادية، وفي مقدّمها إعادة توزيع الثروة والدخل وتحويل موارد الريع إلى الإنتاج وعكس اتجاهات الهجرة والاستثمار في السكّان.
نحن الآن نعيش هذه اللحظة بالذات، ويستولي علينا التشاؤم.