«عندما يلتقي من هم في نفس أعمال التجارة، حتّى ولو من أجل الترفيه، من النادر ألّا تذهب محادثاتهم إلى حياكة المؤامرات ضدّ الجمهور العامّ أو لفبركة زيادة الأسعار»
آدم سميث


حسناً فعلت الأحزاب الحاكمة الأسبوع الماضي بالاجتماع في بعبدا والإعلان عن «حالة طوارئ اقتصادية»، لأنها برهنت بذلك، مرّة أخرى، على عقم نظام الطائف وعدم مقدرته على اتخاذ القرارات خارج إطار الدعاية والإعلان. دخل المجتمعون إلى الاجتماع بورقة اقتصادية حاولت بيأس واضح أن تُقارب الأزمة الاقتصادية، والتي أصبحت مُزمنة، بمجموعة إجراءات غير مترابطة، تبدو أنها «لائحة غسيل» (laundry list) أكثر منها مقاربة عميقة للأزمة وحلولها. وخرجوا في نهاية الاجتماع، بإعلان من رئيس مجلس الوزراء تضمّن لائحة مصغّرة أو «منظّفة» من هذه الورقة. انتهت أخيراً، بعد أيام عدّة، بمعلومات عن أن «غولدمان ساكس» هي التي ساعدت في عملية الإنقاذ الخارجية، عبر جذب الـ1.4 مليار دولار التي أعلن عنها مصرف لبنان، وهو مشهد أصبح مألوفاً في هذا النموذج الاقتصادي منذ بداياته في تسعينيات القرن الماضي.

الورقة و«تنظيفها»
تضمّنت الورقة الاقتصادية بعض الأفكار الجيّدة حول النموذج الاقتصادي اللبناني وصولاً إلى الاعتراف بتفاوت الدخل والثروة، وهو يوضع للمرّة الأولى في ورقة شبه رسمية. في المقابل، أتت الإجراءات عشوائية إلى حدّ ما، وتضمّنت من جهة، إجراءات تقشّفية وضرائب، أو رفع أسعار، تقع على كاهل الطبقات الوسطى والعاملة (تحديد حدود لسعر البنزين، وخفض عجز الكهرباء، وتجميد الأجور في القطاع العام، ...) ومن جهة أخرى، ضرائب على الرأسمال (زيادة الضريبة على الفائدة إلى 11% وجعلها دائمة) وضرائب على استهلاك الطبقات الوسطى العالية والغنية (رفع ضريبة القيمة المضافة على الكماليات إلى 15%).

أنجل بوليغان ــ المكسيك

إلّا أن هذه الإجراءات الضريبية تمّ التخلي عنها كلّها في إعلان ما بعد الاجتماع، باستثناء خفض عجز الكهرباء إلى 1500 مليار ليرة في 2020، والذي بقيت كيفية تحقيقه غير واضحة أيضاً.
طبعاً هذه «الفلترة» حصلت لسببين: الأوّل، مصالح الرأسمال الذي يرفض أيّ ضرائب إضافية أو رفع تلك الموجودة عليه. الثاني، مصالح الأحزاب الطائفية الحاكمة التي تريد أن تحمي جماهير الطوائف من التقشّف والضرائب خوفاً من انفلاتها من قبضتها شبه-الإقطاعية. لكن هذه المرّة أيضاً، أعتقد أنه كان هناك خوف من «مقدّمة» الورقة. والأسوأ كان هناك خوف من أن ترتفع الأصوات لربط الإجراءات بعضها ببعض، وأن تتحوّل من بنود عشوائية إلى مساومة بين زيادة الضرائب على الرأسمال وبين زيادة الضرائب على الطبقات الوسطى والعاملة. هذه المساومة يرفضها الرأسمال رفضاً قاطعاً، فهو لا يريد أن يعترف أن له مصالح يدافع عنها، وأن للآخرين مصالح يدافعون عنها أيضاً.

ما أظهرته الورقة والاجتماع والإعلان
طبعاً، تابع اللبنانيون باهتمام بالغ اجتماع بعبدا بعد أن صُوِّر لهم بأنه سيكون المنقذ من الأزمة الاقتصادية ومن شبح الانهيار المالي الذي شاع تداوله على نطاق واسع في الآونة الأخيرة. لكن ما حصل يثبت أن الأمور لا تزال كما هي لا تتغيّر، كما يثبت الاجتماع أموراً أخرى:
أوّلاً، نظام الطائف غير قادر بنيوياً على إقامة سياسات اقتصادية تقارب الأزمة الاقتصادية اليوم. فهو عانى لفترة طويلة من تجيير السياسات إلى كانتونات غير مترابطة في إطار «تقسيم العمل»، أو الأصحّ تقسيم النفوذ بين أطراف السلطة، كما أنه يفتقر إلى ميكانيزمات داخلية لاستنباط برامج أو حلول أو رؤى. وبالتالي، على الرغم من المقاربة الجديدة نوعاً ما، وإشراك جميع الأطراف في استنباط الحلول، إلّا أن النظام لا يزال أسير الخطاب الاقتصادي المُسطّح للمرحلة الحريرية، التي وإن انتهت فعلياً، إلّا أن خطابها لا يزال مسيطراً في نهاية الأمر. فالنظام يستميت كي يستعيد الخلطة السحرية (السوداء أصلاً) التي يعتقد أنها ستعيد الاقتصاد إلى «الفترة الذهبية» في التسعينيات. كما أن هناك درجة من البلادة الفكرية واتّباع التقاليد والانغماس في المحاصصة المذهبية والاتكال على الخارج والعيش بمركنتيلية وانتظار المعجزات.
بالإضافة إلى ذلك، يكون النظام، عادة، بحالة ممتازة إذا كان الاقتصاد ينمو أو بحالة انتعاش (جزء من التسعينيات، بعد باريس 2، بين 2007 و2011). أمّا إذا دخل الاقتصاد في أزمة، كما بعد 2011، يفقد النظام القدرة على الفعل، أو حتّى التفكير، ما يعني أن هناك عدم تناظر في السياسة الاقتصادية، يفقد النظام القدرة في الأزمات. فضلاً عن أن انتقال تنظيم وإدارة النموذج الاقتصادي من كونه بسيطاً إلى معقّد، كما نرى في سياسة المصرف المركزي، يفقد النظام هذه القدرة أيضاً. ومثال على ذلك، ما حصل مع الفوائض الأوّلية في الموازنات بعد 2006، التي أدّت إلى انخفاض معدّل الدَّيْن العامّ إلى الناتج المحلّي بعد أن وصل إلى حدّه الأقصى في ذلك العام (180 في المئة). فهذه الفوائض الأولية حصلت في ظلّ عدم وجود موازنات. وبينما كان اللبنانيون يتلهّون بدستورية أو عدم دستورية تمديد الإنفاق الإثني عشري من سنة إلى سنة، كان الدَّيْن العام إلى الناتج ينخفض، والنموّ يزيد مدعوماً بفورة عقارية. كان كلّ شيء على ما يرام بالنسبة إلى النظام (على الرغم من أن البنية التحتية كانت تنهار، والإنفاق الاجتماعي يتراجع، وأجور القطاع العام مجمّدة!). في هذا الوقت، وبدلاً من التفكير بسياسات جديدة، كانت الاتكالية سائدة، وساد الاعتقاد أن هذه الفترة هي «معجزة» لبنانية جديدة، واستمرّ الاقتصاد على وتيرة التسيير الذاتي.
ثانياً، كان تحليل موقع الفوائد في الاقتصاد السياسي اللبناني، الغائب الأكبر عن الورقة. فالفائدة هي ميزان حرارة النموذج الاقتصادي اللبناني، وهي تحدّد كلفة الدفاع عن الليرة طالما لا نزال بعيدين جدّاً عن شعار رئيس الجمهورية الذي ذكرته الورقة في مقدّمتها، أي «حماية الليرة بالإنتاج لا بالدَّيْن»! فكلفة الـ1.4 مليار دولار الأخيرة هي الفوائد العالية، وكذلك كلفة اكتتاب المصارف والرأسمال الداخلي والخارجي بأدوات الدَّيْن اللبنانية، وأيضاً كلفة وضع الودائع المصرفية لدى مصرف لبنان. وبالتالي، لا بدّ من مواجهة هذا الأمر، لأن استمراره سيفجّر الدَّيْن العام ويخنق الاقتصاد أكثر.
لبنان الآن على مفترق طرق: إمّا انهيار سعر صرف العملة، وبما أن المصارف لديها مطلوبات بالدولار الأميركي سيكون لذلك آثار كارثية. وإمّا الانكماش الداخلي، وكلفته الركود العميق.
يقول الاقتصادي باري أيكنجرين: «من أجل عدم وقف دفع مستحقّات الديون، قد تقوم السلطات في الدول المَدينة باستنفاد احتياطاتها، ورفع معدّلات الفائدة، ووضع اقتصادها في دوّامة الانكماش، وكلّ هذا بكلفة عالية على المجتمع» (هل يبدو هذا مألوفاً؟!).
في هذا الإطار، نستطيع إعادة هيكلة الدَّيْن من دون تعريض لبنان لاهتزاز صورته الائتمانية الخارجية، لأن الدَّيْن أكثره داخلي ويحمله دائنون مؤسّساتيون، أي المصارف والمصرف المركزي. كما أن الخوف من إعادة الهيكلة، حتّى لو حصل مع الدَّائنين الدوليين، هو أمر مبالغ به. فالتغنّي بأن لبنان دفع ديونه كاملة دائماً حتّى خلال الحرب هو أمر ساذج، لا بل يخدم حملة الدَّيْن وليس بالضرورة لبنان واقتصاده.
ليس الهدف من الضرائب على الثروة، تأمين مداخيل للدولة أو تحقيق العدالة الاجتماعية فقط، بل كسر النموذج الاقتصادي القائم

خصوصاً أن إعادة الهيكلة حصلت في دول عديدة، واستطاعت العودة إلى الأسواق العالمية بعدها، بدءاً من أميركا اللاتينية في الثمانينيات، وصولاً إلى باكستان وروسيا وأوكرانيا لاحقاً. بالإضافة إلى أن الفوائد العالية التي دفعها لبنان على الدَّيْن منذ عام 1993 وحتّى الآن تحمل في طيّاتها «احتمال عدم الدفع»، لأنه لو لم يكن ذلك الاحتمال وارداً لكانت الفوائد متدنية، كما اقترح الاقتصادي أندرو شلايفر في هذه الحالة بشكل عام. وبالتالي، الدائنون المزمنون، أي المصارف، هم أنفسهم الذين قبضوا هذه الفوائد العالية كلّ هذه السنوات، وبالتالي لا يمكنهم الآن أن يدّعوا البراءة، وينذروا بالكوارث في حال تمّ فرض إعادة هيكلة أو خفض قسري للفوائد عبر إعادة تسنيد الدَّيْن بفوائد متدنية. فهذا الأمر سيدفع الفوائد كلّها إلى الانخفاض، وسيرفع كاهل الدَّيْن عن مالية الدولة، والليرة اللبنانية، وتدفّق رؤوس الأموال، والاقتصاد الحقيقي.
ثالثاً، لا يمكن الهروب من فرض الضرائب على الثروات والمداخيل العالية إلى الأبد. بالطبع، ذرائع عدم وضعها كثيرة، ومنها، خلال الفورات: هل تريدون وقف النموّ؟ وخلال الركود: من يزيد الضرائب في الركود؟
لكن هذا الرفض ليس مرتبطاً بالاقتصاد وأحواله، وإنّما للحفاظ على مصالح القلّة فقط. وكما ذكرت، أتت مقدّمة ورقة بعبدا على التفاوت في توزيع الدخل والثروة، ولكنّها لم تربط الإجراءات بهذا التفاوت، ولم تربطه أيضاً بالنموذج الاقتصادي في لبنان، الذي يرتبط به ارتباطاً وثيقاً. وبالتالي، من أجل كسر النموذج، يجب وضع الضرائب على الثروة، فالهدف منها ليس تأمين مداخيل للدولة أو تحقيق العدالة الاجتماعية فقط.
من المؤكّد، إن أي انهيار مالي في ظلّ أي توتر مذهبي وضعف الحركة النقابية، سيجعل منه أداة للتفتيت وللصراعات الطائفية، وسيؤدّي إلى خسارة كبيرة في الأجور والعوائد المتأتية من العمل. بالتالي، يجب العمل على ألّا يحدث هذا الانهيار. وهو ما يتطلّب القيام بإجراءات جذرية تذهب أبعد بكثير من تلك التي صدرت عن اجتماع بعبدا، والتخلّي عن الفكر الاقتصادي الذي لا يزال يراهن على الإنقاذ الخارجي وعلى إبقاء النموذج الاقتصادي الريعي. المجتمعون في بعبدا يمثّلون كارتيلاً لنظام المحاصصة الطائفية، وبالتالي عندما يجتمعون فهم يتصرّفون كالنظير الطائفي للاحتكار الرأسمالي. وفي ظل رأسمالية ريعية مُسيطرة ترفض الخضوع حتّى لأقل بكثير من «القتل الرحيم»، كما أراد جون ماينارد كينز، فإن هذين الاحتكارين يشكّلان تركيبة متفجّرة، وقد آن أوان تفكيكها.