عندما يردّد بعض المسؤولين والمعلّقين أن لبنان ليس بلداً مفلساً ولديه الإمكانيات لتجاوز أزمته الحالية، فهم يقصدون غالباً أنه يمتلك رأس مال وفيراً، وعدداً كبيراً من السكّان المتعلّمين أو العمّال المهرة، وموارد طبيعية يجري البحث عنها في البحر!بالأرقام، تبدو الصورة مذهلة ويُفترض أن تدفع إلى الطمأنينة لا القلق:
على صعيد توافر رأس المال: تبلغ موجودات القطاع المصرفي اللبناني أكثر من 250 مليار دولار، وهي توازي 4 مرّات ونصف المرّة حجم الناتج المحلّي الإجمالي السنوي، وهي بمعظمها ودائع للقطاعَين الخاص والعام (175 مليار دولار) وأموال خاصّة للمصارف (21 مليار دولار).
على صعيد التعليم: يوجد في لبنان 52 جامعة، ضمّت في العام الدراسي الماضي نحو 210 آلاف طالبة وطالب في كلّ الاختصاصات، أكثر من 27 ألفاً منهم كانوا في مرحلتَي الماستر والدكتوراه. وفي العام نفسه، كان هناك أكثر من 83 ألف طالبة وطالب في مراحل التعليم المهني والتقني. وبلغ عدد الملتحقين بالتعليم ما قبل الجامعي (باستثناء التعليم المهني) نحو مليون و96 ألف تلميذة وتلميذ. وهذا يعني أن نحو 1.3 مليون نسمة على الأقل من سكّان لبنان هم الآن على مقاعد الدراسة.
على صعيد الموارد الطبيعية: تفيد تقديرات هيئة إدارة قطاع البترول (هناك شكوك بدقّتها) أن المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان قد تحتوي على نحو 50 تريليون قدم مكعب من الغاز، ويمكن أن تدرّ على الشركات والدولة إيرادات بقيمة تتراوح ما بين 2.5 مليار و5 مليارات دولار سنوياً في حال تمّ استخراجها (يحتاج ذلك إلى 8 سنوات على الأقل).
هذه الأرقام تفسح المجال أمام تخيّل وضع مختلف بمقاييس عدّة. وهي تمثّل وزناً كبيراً في بلد صغير وعدد سكّانه قليل (حتى مع احتساب اللاجئين والعمّال المهاجرين) وحجم دخله السنوي (مجمل الناتج المحلّي) لا يصل إلى 59 مليار دولار. ولكنّها، في الواقع، لا تبعث سوى الكثير من الأوهام الإحصائية والسياسية. فهذا النوع من الموارد (الودائع، العمّال المتعلمون، البترول) ليس الأكثر عرضة للخمول والهجرة والإهدار فحسب، بل يتميّز في الحالة اللبنانية بدرجة عالية جدّاً من التركّز واللامساواة والنزف والفساد والميل الريعي والاستهلاكي... وقد شكّل تاريخياً عوارض للمرض لا وسائل للعلاج.
يصف ماركس رأس المال الحامل للفائدة أنه «أكثر أشكال العلاقة الرأسمالية سطحية وصنمية». فالودائع المُكدّسة في المصارف هي المثال على خمول رأس المال، وهي صورته الوهمية، التي تصوّره كأنه «منبع مستقلّ للقيمة»، يدرّ ربحاً (فائدة) من ذاته، ويمكن أن يتراكم باستمرار بمعزل عن أي عملية اجتماعية كالتي ترافق الإنتاج وتجديد الإنتاج والتداول. انطلاقاً من هذه الصورة الخيالية، يتعامل الاقتصاد السياسي المُبتذل مع تراكم الودائع والرساميل المصرفية بوصفه تراكماً للثروة، مظهراً من مظاهر البحبوحة والوفرة ومصدراً للثقة والطمأنينة. ولكن هل هذه هي الحقيقة؟ هل تتمتّع موجودات المصارف بهذه الصفات الحميدة؟
النقد لا يخلق نقداً، وبالتالي لا يتراكم من لا شيء. فالفوائد التي تجنيها الودائع والأرباح التي يحقّقها رأس المال المصرفي لا بدّ أن يتمّ اقتطاعها من الفائض الاجتماعي، أو من فائض القيمة الذي ينتج من العمل ويتحقّق من الاستهلاك. وهنا يكمن أحد أهم المعضلات في النموذج الاقتصادي اللبناني، إذ إن اقتصاداً صغيراً وضعيفاً وهشّاً ومحدوداً ومريضاً يتوجّب عليه خدمة ودائع ورساميل مصرفية ضخمة، تفوقه مرّات عدّة وتتراكم بوتيرة أسرع بأشواط من وتيرة نموّه البطيئة ويستحوذ عليها عدد ضئيل جدّاً من فاحشي الثراء. لقد باتت مدفوعات الفائدة تقتطع أكثر من ربع الدخل السنوي المُتاح للمجتمع اللبناني، أي أن المودعين والدائنين والمساهمين في المصارف يحصلون على جزء مهمّ من ناتج عمل المجتمع كلّه من دون يقدّموا أي مقابل حقيقي سوى إخضاع هذا المجتمع للمزيد من الديون العامّة (الحكومة ومصرف لبنان) والخاصّة (الشركات والأسر والأفراد).
لا تنمو الودائع من دون الديون، لذلك تجادل النظرية الكلاسيكية أن المسألة لا تتعلّق بتراكم الودائع بل بكيفية توظيف الديون. يشرح توماس بيكتي (في كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين) أن عمليّات الإقراض التي تمارسها المصارف تؤدّي (بحكم التعريف) إلى خلق أصول وخصوم مالية متقابلة في اللحظة نفسها، فعندما يخلق البنك قرضاً لك بقيمة 100 دولار مثلاً (مع الفائدة)، يصبح البنك دائناً لك بهذه القيمة وأنت مدين له بالقدر نفسه، وبالتالي لا يتغيّر صافي الثروة بأي شكل من الأشكال جراء حصول تلك العملية، فالأمر كلّه يعتمد في ما بعد على أثر هذه العملية على الاقتصاد الحقيقي، وما إذا كان هذا القرض سيساهم بزيادة الثروة الإجمالية أو يمنع انخفاضها على الأقل.
في الحالة اللبنانية، هناك حالياً أكثر من 140 مليار دولار من الموجودات المصرفية مودعة لدى مصرف لبنان، يُسدِّد عليها كلفة عالية بغرض امتصاص السيولة ودعم أسعار الفائدة المرتفعة وضخّ الأرباح إلى المصارف وتعزيز رسملتها. ويوجد نحو 33 مليار دولار من هذه الموجودات كديون على القطاع العام، لم يجرِ توظيفها في الاستثمار أو التنمية الاجتماعية بل في خدمة الديون نفسها، إذ إن مدفوعات الفائدة على الديون الحكومية استأثرت بثلث إنفاق الموازنة العامّة ونصف إيراداتها على مدى ربع قرن. ويوجد أيضاً نحو 22 مليار دولار من الموجودات الموظّفة خارج لبنان، بما فيها القروض لغير المقيمين. أي أن أكثر من 78% من مجمل موجودات المصارف موظّفة في ديون الدولة، ولا سيّما مصرف لبنان، وفي الموجودات الخارجية، في حين تبلغ قيمة القروض للقطاع الخاصّ المقيم نحو 50 مليار دولار، معظمها موظّف في العقارات والقروض السكنية، علماً أن أكثر من 20 مليار دولار من هذه القروض هي استهلاكية مترتبة على الأسر مباشرة.
الواضح أن تضخّم الودائع والرساميل المصرفية لم يساهم بتضخّم مماثل في الثروة الإجمالية، بل قد يكون مساهماً في تقليص صافي هذه الثروة. ففي حين تبلغ الديون على الدولة والقطاع الخاص المقيم نحو 223 مليار دولار، يقدّر البنك الدولي قيمة مجمل الثروة المادية اللبنانية (رأس مال مُنتج وموارد طبيعية) بنحو 197 مليار دولار، معظمها ناتج عن تقدير قيمة «الأراضي الحضرية»، أو بمعنى أوضح «العقارات المبنية والمعروضة للبناء». هذا لا يعني فقط أن الديون لم تزد ثروة المجتمع، بل يعني تحديداً أن نمو الودائع والرساميل المصرفية تمّ عبر القضم من ثروة المجتمع نفسها. ووفق إحصاءات مصرف لبنان، يوجد أقل من 25 ألف حساب مصرفي (0.86% فقط من مجمل الحسابات) يحتوي على 51.9% من مجمل ودائع الزبائن (ثلثا الودائع بالدولار وثلث الودائع بالليرة)، وأصحاب هذه الحسابات يمثّلون الفئة الوحيدة التي تزداد ثراءً في مقابل ازدياد فقر الفئات الأخرى، وهي الفئة التي تهدِّد بالخراب في حال لم يستمرّ إخضاع المجتمع لمصالحها وخدمة تراكم ثرواتها الشخصية وامتيازاتها، وهي الفئة التي ترفض دفع الضرائب على الثروة والدخل لتمويل الإنفاق العام، وهي التي تقرض الدولة لسدّ العجز وتثبيت سعر الصرف، وهي التي تدعو إلى التقشّف كي تضمن مواصلة دفع الفوائد، وهي التي تبدي استعداداً لشراء الأصول العامّة بأبخس الأثمان والاستحواذ على احتكارات القطاع العام بحجّة تخفيض العجز المالي والحاجة إلى التمويل.
المفارقة في هذا السياق، أن خدمة تراكم هذا الرأسمال الخامل غير المُنتج تستدعي، وفق طريقة عمل النموذج الاقتصادي القائم، المزيد من التفريط بما يعتبره الاقتصاد السياسي المُبتذل موارد بشرية وطبيعية يتمتع بها لبنان. فهجرة العمّال المهرة وروّاد الأعمال وأصحاب المشاريع مثّلت مصدراً مهمّاً للتحويلات وزيادة الودائع، وشكّلت بديلاً عن أمور كثيرة كان يجدر القيام بها للوصول إلى التوظيف الأمثل للودائع والرساميل المصرفية المتراكمة. إذ تقدّر قيمة تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج بنحو 8 مليارات دولار سنوياً، أي أكثر من مساهمة الصناعة والزراعة معاً في مجمل الناتج المحلّي، وأكثر بثلاث مرّات من الصادرات السلعية.
لقد أوصت «ماكينزي» بالإمعان في تخصّص التعليم بأغراض الهجرة لا الإنتاج، طمعاً بالمزيد من التحويلات، وذلك بانتظار اكتشاف الغاز واستخراجه وتصديره كمصدر إضافي للتدفّقات الخارجية وتمويل الاستهلاك ومدفوعات الفائدة المتعاظمة... بمعنى ما، إن المعروض على المجتمع اللبناني باختصار هو رهان وحيد أسفر حتّى الآن عن خسارة ما يسمّى «رأس المال البشري» وقد يسفر عن خسارة «رأس المال الطبيعي» بهدف مراكمة المزيد من الرساميل الخمولة وخدمتها، التي لا تساهم إلّا بإثراء أصحابها والمتحكّمين بها وتسمح لقلّة من المجتمع بأن تتلاعب بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية لاستدرار الريوع ولو على حساب تدمير سبل عيش الأكثرية.
ربّما، لدى لبنان موارد مهمّة، ولكن الأكيد أنها مهدورة وباتت تمثّل عبئاً ثقيلاً ومصدراً من مصادر المشكلة بسبب سوء استغلالها وتوزيعها. وهذا الذي يدفع إلى القلق بدلاً من الطمأنينة.