أُعلنت في الأسبوع الماضي أسماء الفائزين بما يُعرف بجائزة نوبل للاقتصاد، وهم أبهيجيت بانيرجي وإستر دوفلو ومايكل كريمر، وذلك لمجهودهم في تحسين "قدرتنا على مكافحة الفقر على مستوى العالم" وتحويل علم التنمية الاقتصادية إلى "مجال مزدهر للأبحاث" عبر مقاربتهم القائمة على التجربة. وأعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم أن: "الفائزين لهذا العام وضعوا نهجاً جديداً للحصول على إجابات يُعتدّ بها بشأن أفضل السبل لمكافحة الفقر على مستوى العالم. وباختصار، يقوم النهج على تقسيم هذه المشكلة إلى مسائل أصغر وأكثر قابلية للإدارة، مثل التدخلات الأكثر فعّالية لتحسين النتائج التعليمية أو صحة الطفل. وقد أظهروا أنّ هذه المسائل الأصغر والأكثر دقّة غالباً ما تكون هي الإجابات الأفضل لها عبر اختبارات مصمّمة بعناية تُجرى على الناس الأكثر تأثّراً".
وعلى غرار كل عام، اصطفّ علماء الاتجاه السائد في الاقتصاد للترحيب بالخيار. وأعلن داني رودريك أنّه "اعتراف استحقّوه بجدارة". فيما هنّأ ريتشارد ثالر، الذي فاز بالجائزة عام 2017، بانيرجي ودوفلو وكريمر واللجنة على "جائزة بدت محتومة عاجلاً أم آجلاً". أما بول كروغمان، الفائز بجائزة نوبل عام 2008، فأشار إلى أنّها "جائزة تُثلج الصدر، لعلوم الاقتصاد القائمة على الأدلّة والتي تتمتع بهدف اجتماعي".
لا جديد هنا. فلطالما اغتنم علماء الاتجاه السائد في الاقتصاد مناسبة جائزة نوبل لتهنئة أنفسهم ومقاربتهم المشتركة للتحليل الاقتصادي والاجتماعي، والاحتفال بالملكية الخاصة والأسواق الحرة والحوافز الفردية.
الجديد ربما اليوم هو أنّ من بين الفائزين أول عالمة اقتصاد تفوز بالجائزة (دوفلو) وثالث اقتصادي غير أبيض فقط (بانيرجي).*
ولكن ماذا عن مضمون عملهم؟ سبق أن ناقشت عمل دوفلو وبانيرجي في مناسبات عدّة. وقد كتبت تعليقاً أطول حول "علم التنمية الاقتصادية" كجزء من حلقة دراسية حول كتابي Development and Globalization: A Marxian Class Analysis سيُنشر في مجلة Rethinking Marxism.
أبدأ بالإشارة إلى أنّ الفكرة التي يطرحها بانيرجي ودوفلو وكريمر والاقتصاديون المتخصّصون في التنمية الجديدة هي أنّ طرح "الأسئلة الكبرى" (مثلاً عمّا إذا كانت المساعدة الخارجية مفيدة) أقل أهمية من الأسئلة ذات النطاق الأصغر المتعلّقة بتحديد ما هي مشاريع التنمية التي يجب تمويلها وكيف يجب أن تنظّم. ولهذا الغرض، يقترحون اختبارات ميدانية واختبارات تحكّم عشوائية - لتصميم مشاريع تنمية تُعطي الناس "دفعة" عبر حوافز مناسبة، للانتقال إلى أنواع سلوكيات ونتائج مفترضة في النظرية الاقتصادية السائدة.
نحن هنا إذاً في مرحلة ما بعد الركود العظيم الثاني ـ في مرحلة الانتعاش المتفاوت من أخطر أزمات الرأسمالية منذ الركود العظيم في ثلاثينيّات القرن الماضي، وفي الوقت نفسه في مرحلة يزهر فيها الاهتمام بالاشتراكية، وتُناقش على نطاق واسع ـ ولكن أفضل ما يمكن أن يقدّمه علماء الاتجاه السائد في الاقتصاد هو خليط من البيانات الضخمة والتجارب الميدانية والاختبارات العشوائية. كيف يكون ذلك رداً مناسباً على مستويات التفاوت الاقتصادي المرتفعة (كما يظهر مثلاً في أعمال مختبر التفاوت العالمي World Inequality Lab)، وعلى العمالة غير المستقرة لمئات الملايين من العمال الجدد والقدامى (وهو ما أظهرته أيضاً منظمة العمل الدولية)، وفي ظل توقّعات ببقاء نصف مليار شخص دون خط الفقر المدقع بحلول عام 2030 (وفقاً للبنك الدولي)، وعلى تناقص حصة الأجور في العديد من البلدان (الذي يصدّق عليه صندوق النقد الدولي)، مع اضطرار معظم سكان العالم إلى منح قدرتهم على العمل لمجموعة صغيرة نسبياً من أرباب العمل مقابل أجور راكدة؟ أو على استيقاظ التقليد الاشتراكي الغني، كنقد للرأسمالية وكوسيلة لوضع تصوّر لمؤسسات اقتصادية واجتماعية بديلة وتأسيسها على حد سواء.
أطرح تالياً مسائل حسّاسة ثلاثاً تتعلّق بنوع علوم التنمية الاقتصادية الذي كرّمته جائزة نوبل هذا العام. أولاً، إنّ الافتراض أنّ تقنيات التحليل حيادية وأنّ الحقائق وحدها يمكنها أن تحكم النقاش بشأن أية مشاريع تنموية ستنجح وأية مشاريع لن تنجح، افتراض يقوم على أساس معرفي ـ تجريبي ساذج بشكل خاص ـ اعتقد كثيرون بيننا أنّهم تحدّوه بكفاءة واستبدلوه ضمن النظرية الاقتصادية والاجتماعية. من الواضح أن علماء اقتصاد التنمية السائد يتجاهلون أن يرفضوا فكرة أنّ النظريات المختلفة لديها، كشروط وتداعيات، تقنيات مختلفة للتحليل ومجموعة مختلفة من الحقائق.
الطبقة عنصر مفقود في أي عمل مرتبط بالسياسة يُجريه علماء اقتصاد التنمية السائد اليوم


النقطة الثانية هي أنّ الطبقة عنصر مفقود في أي عمل مرتبط بالسياسة يجريه علماء اقتصاد التنمية السائد اليوم، على الأقل كمفهوم يُناقش علناً ويُستخدم في بحثهم. قد يُحاجج المرء بأنّ الطبقة تكمن في الخلفية ـ كشبح يطارد كل محاولة لـ"فهم كيف يتخذ الفقراء القرارات" لتصميم برامج فعّالة لمكافحة الفقر ومساعدة العمّال في اكتساب مهارات أفضل لكي يُكَافَؤوا بأجور أعلى وهكذا دواليك. ولكنها الطبقات التي ضبطتها وعاقبتها مجموعة المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، والقلق بالطبع هو أن المؤسسات فقدت شرعيتها تحديداً بسبب الآثار الطبقية غير المتكافئة التي تسببها. وبالتالي، قد تكون التوترات الطبقية تتأجّج تحت السطح، ولكن ذلك يختلف عن مناقشتها ونشرها بشكل علني ـ من الناحية النظرية والتجريبية على حد سواء ـ لفهم ويلات الرأسمالية المعاصرة. ولكن هذه الخطوة لا تزال خارج علم اقتصاد التنمية السائد.
المشكلة الثالثة هي أنّ علماء التنمية الجدد مثل زملائهم في مجالات أخرى من علم الاقتصاد السائد، يأخذون ذاتية الاقتصاديين والفاعلين الاقتصاديين كأمر مسلّم به ومتجانس. ولكن الاقتصاديين (سواء كانت عقليتهم عقلية منظّر أو مهندس أو سبّاك) يعتبرون خبراء لامبالين ينظرون إلى المشكلة الاقتصادية (مشكلة التراكم الهائل للسلع من قبل الأفراد والدول) كظاهرة عابرة للتاريخ وللثقافات ويكمن دورهم في اطلاع صنّاع السياسة والفقراء والعمّال على المشاريع التي ستُحقق الأهداف المحددة والمشاريع التي ستفشل في ذلك. أما الفاعلون الاقتصاديون، أصحاب أهداف النظرية والسياسة الاقتصادية، فيُعتبَرون صنّاع قرار عقلانيين يحاولون (من خلال قراراتهم المتعلقة بالادّخار والإنفاق ومشاركتهم في أسواق العمل وغير ذلك) الحصول على أكبر عدد ممكن من السلع والخدمات. الأهم من ذلك، أنّه لا الاقتصاديون ولا الفاعلون الاقتصاديون قد تشكلوا ـ بطرق متعددة ومتغيرة ـ من خلال النظريات المختلفة والمتنافسة التي تشكّل ساحة الخطاب الاقتصادي.
كرّمت لجنة نوبل أعمال بانيرجي ودوفلو وكريمر على أنّها "تساعد في تخفيف حدّة الفقر على مستوى العالم". إلّا أنّ رأيي الخاص أنّها أثبتت مجدداً فقر الاتجاه السائد في علم الاقتصاد.

* ترجمة: لمياء الساحلي
anticap.wordpress.com*

* المرأة الأخرى الوحيدة في تاريخ الفائزين بجائزة نوبل للاقتصاد كانت إلينور أوستروم (2009) وهي عالمة سياسية، والفائزان الآخران من غير البيض هما سير آرثور لويس (1979) وأمارتيا سن (1998).