«كيفية إرضاء الجمهور، هذا هو الاختبار، لكن في الوقت الحاضر أجد أنني في وضع صعب. أعلم أنهم ليسوا معتادين على الأفضل، لكنهم جميعاً قرأوا الكثير وهم يعرفون الحيل. إذاً، كيف نستطيع أن نعطي شيئاً جديداً ومنعشاً وجدّياً ولكن مسلّياً أيضاً؟»
غوتة


بعد الـ72 ساعة الشهيرة، أعلن الرئيس الحريري عمّا أسماه ورقة إصلاحية، وهي تمثّل نوعاً من خارطة طريق، ليس فقط لموازنة 2020 بل لبعض السياسات الاقتصادية المختلفة من الخصخصة إلى مكافحة الفقر. اللافت، كان التركيز على المقدرة الكبيرة على خفض العجز إلى 0.6% من الناتج المحلّي الإجمالي من دون وضع ضرائب جديدة استهلاكية، أي من دون تنفيذ الوعود التي تقدّمت بها الحكومة اللبنانية في مؤتمر «سيدر»، والتي كانت بدايات تطبيقها الشرارة الأولى في اندلاع انتفاضة السابع عشر من أكتوبر. في ظاهر الأمر، ولهذا السبب، نالت الورقة بعض «الإعجاب» من بعض السياسيين وغيرهم من الذين وصفوها بـ«المهمّة»، وبالتالي حاولوا أن يبادلوا انتفاضة الشعب اللبناني بها. طبعاً، كان ردّ الانتفاضة رفض هذه الورقة الإصلاحية، ليس لأنه تمّ درسها من قبل المنتفضين، بل لأن الانتفاضة التي بدأت اقتصادية مع «ضريبة الرأس» على الاتصالات، أصبحت مطالبها سياسية-اقتصادية في استقالة الحكومة وتشكيل حكومة انتقالية وانتخابات مُبكرة وتغيير حقيقي في السياسات الاقتصادية.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

هذا التحوّل السياسي في الانتفاضة، والذي حصل سريعاً، يعكس مدى عمق الأزمة الاقتصادية التي لا يمكن حلّها بأن يُختصر بالعنوان الكبير للورقة الإصلاحية، أو خفض العجز، لأن هذا الأمر تقني، والأهمّ لا يتجاوب مع ما دفع الشباب إلى الشارع وهو البطالة بينهم وانعدام الفرص أمام الطلاب، والبُعد الذي يفصل بين «قمم السياسة» في لبنان وآمال وتطلّعات الشباب اللبناني. فهم لا يريدون اقتصاداً يخدم القلّة حتى لو كان بعضهم منها، وهم لا يريدون اقتصاداً يعملون فيه في مجالات هامشية أو رتيبة غير خلّاقة، وهم لا يريدون أن يصبحوا موظّفين في مؤسّسات أكثرها عائلية وتسلّطية وتنخرها المذهبية، وهم لا يريدون الهجرة بعد اليوم. أصبح الشباب يعلمون أن هذا ما تفعله بهم بالتحديد الطبقة الأوليغارشية والارستقراطية المالية التي صنعت اقتصاداً مُغلقاً لا ينتج الوظائف اللائقة ولا يتماهى مع القدرات العلمية والفكرية للشباب اللبناني. في المقلب الآخر، أيضاً النظام الطائفي الذي يغلق أمامهم آفاق العمل السياسي وتحقيق أفكارهم خارج عالم المال والحاجة والعمل، فالسياسة في لبنان هي الصورة في المرآة للاقتصاد الأوليغارشي، فهي شبه-إقطاعية مذهبية تدمّر المجتمع السياسي المستقلّ عن الطائفة في نظام محاصصة طائفي يتجلّى سياسياً وإدارياً.
والشباب اليوم يرون أيضاً التباعد بين ما يتعلمونه في المدرسة والجامعة وبين هذا النظام السياسي المحافظ المتقادم الذي يشبه أنظمة ما قبل الثورة الفرنسية، حيث الفرد كان يخضع للسيطرة الثقافية والسياسية من قبل المجموعة، وهذا ما يرفضه شباب اليوم. كما انتفض الشباب اللبناني ضدّ الانحياز العنصري لهذا النظام والذي ينتقل إلى نهايته المنطقية من هيمنة الطائفة الواحدة، إلى المحاصصة إلى الفدرلة إلى العنصرية. وهكذا من الصحيح أن الانتفاضة لم تسمع سعد الحريري وهو يتكلّم، لأنها لم ترِد أن تسمع، فهي أصبحت خارج هذا السياق من التلقين والفوقية والبطريركية التي أرسيت في 30 عاماً من نظام الطائف.
طبعاً، الورقة الإصلاحية هي أيضاً غير صالحة حتى على الصعيد الاقتصادي وليس فقط سياسياً. ومن المهم جداً رفضها أيضاً على هذا الصعيد، لأن الأحزاب الحاكمة تحاول أن تسوّق لها، وكأنها فعلاً بداية طريق الإصلاح إن لم تكن الإصلاح نفسه، وفي هذا خطورة كبيرة. فالانتفاضة التي ابتدأت اقتصادية، ثم تحوّلت إلى سياسية، لا بدّ، مهما كان شكل «الحلّ» السياسي، من أن تعود اقتصادية لأن الظروف المادية للتغيير ستُخلق في الاقتصاد.
وفي هذ الإطار، بعض النقاط حول الورقة الإصلاحية:
أولاً، إن الشعبوية هي الصفة العامّة لهذه الورقة ومصدر كل قراراتها وبنودها. فالحكومة أرادت تحقيق ثلاثة أهداف في آنٍ: إرضاء المجتمع الدولي أو المانحين، وإرضاء الشعب اللبناني أو المنتفضين، وكذلك إرضاء الرأسمال. في العادة، في هذه الأحوال، عندما يكون الهدف يحمل في طيّاته تناقضات كثيرة تطلّ الشعبوية برأسها. وهكذا كانت مثلاً، الإجراءات العقابية على النفس، في الظاهر، والمعادية للديموقراطية في الجوهر، وهي خفض أجور النواب والوزراء. لكن الأهم كان في مكان آخر أيضاً، إذ أن الورقة وعدت أنه لن يكون هناك ضرائب استهلاكية بعد سلسلة من الضرائب المحقّقة والمحتملة من الواتساب إلى الدخان إلى البنزين إلى ضريبة القيمة المضافة، فهي كلّها اختفت فجأة. وهنا كان لا بدّ من إيجاد طريقة لإرضاء المانحين الذين ينظرون إلى مؤشر عجز الخزينة اللبناني بفارغ الصبر، فبدلاً من خفض واحد أو اثنين بالمئة (وكان هذا كافياً)، خُفِّضَ العجز من 7.6 إلى 0.6 بالمئة، ما جعل لبنان يبدو، على الأقل في الظاهر، الدولة الوحيدة التي استطاعت ذلك بهذه السرعة. يبدو أن الحكومة ظنت أن المانحين سيهزّون رؤوسهم بالإعجاب. أما الرأسمال، الذي كان موضوعاً في الزاوية، في لعبة الإرضاء هذه، فإن لسان حاله كان يقول إذا كان العجز سينخفص لإرضاء المانحين، ومن دون ضرائب استهلاكية لإرضاء الشعب، فمن سيدفع الثمن؟ وهنا نأتي إلى النقطة الثانية.
ثانياً، عندما اتّخذت الحكومة القرار لإرضاء المانحين والشعب في آنٍ، كان لا بدّ لأحد أن يدفع الثمن وهذا الأحد هو الرأسمال. في وضع مثل هذا كان يمكن رفع الضرائب على الأرباح ووضع ضريبة على الثروة وغيرها من الإجراءات الضريبية التي تطال مداخيل وثروات القلّة ويمكن أن تؤدّي إلى خفض العجز بشكل مستدام، أي سنة بعد سنة. وهذا الأمر بالطبع، ليس مُقتصراً على لبنان في مثل هذه الأحوال. ففي تشيلي، حيث ينتفض الشعب ضدّ الحكومة أيضاً، تحاول الحكومة (بالإضافة إلى القمع)، القيام بإجراءات اجتماعية بنحو 0.4% من الناتج المحلّي (أي أقل بكثير من تغيير العجز في لبنان). في هذا الإطار، اقترح الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش تمويل هذه الإجراءات بضريبة 2% على الثروة، ليس على الأغنياء بشكل عام، لكن فقط على المليارديرات التي تعادل ثرواتهم 25% من الناتج المحلّي. ويقول ميلانوفيتش: «إن عدم المساواة في تشيلي كبيرة جداً، بحيث يمكننا تقديم اقتراحات عبر الحسابات السريعة على ظهر الظرف»، أي من دون الحاجة إلى دراسات معمّقة أو نمذجة اقتصادية. في المقابل، في لبنان، فإن بضعة المليارديرات يملكون ثروات تعادل 30% من الناتج المحلّي! وكان بإمكان الحكومة اللبنانية أن تقوم بهكذا حسابات سريعة في الـ72 ساعة تلك. لكن، بدلاً من أن تقوم الحكومة بوضع ضرائب كهذه، استعملت الوقت لإنجاز صفقة، غير واضحة حتى الآن معالمها، مع الرأسمال المصرفي بأن تكون له مساهمة في 2020 بخفض العجز بالتعاون مع المصرف المركزي. وهذا سيضمن 3.4 مليار دولار كواردات للخزينة، وهي مساهمة، كما الكثير من الأمور في لبنان، تبدو حتّى الآن، لمرّة واحدة فقط. بالطبع، هذه كلفة على الرأسمال المالي، ولكنه خرج بأقل الخسائر المُمكنة في ظل أهداف الحكومة المتضاربة. هنا يأتي السؤال الذي يساوي المليون، كما يقال: ماذا بعد؟ ماذا سيحصل في عام 2021؟ إذ أن تراكم الدَّيْن العام لن يتوقّف إلّا إذا كانت العجوزات متدنّية لسنين عديدة، وليس لسنة واحدة فقط. وإذا خضعت المالية العامّة لنفس المنطق في كلّ سنة بعد الآن، سيتمّ انتزاع «مساهمة» أو «تبرّع» من القطاع المصرفي أو الرأسمال لخفض العجز. هذا يسمّى في الاقتصاد: الضريبة.
في خضم مطالبة المنتفضين بإزالة النظام الطائفي، علينا بناء الدولة لا بيعها، لأن إنهاء نظام المحاصصة، لا يمكن إلّا أن يكون ببناء الدولة الديموقراطية الاجتماعية


ثالثاً، يقول بول كوليير إنه بين 1945 و1970 «اختبرنا ازدهاراً ازداد باستمرار بواسطة الدولة التي استهدفت استخدام الرأسمالية من أجل منفعة المجتمع». في الورقة الإصلاحية، تحاول الدولة في لبنان أن تفعل العكس، أي استخدام المجتمع لمنفعة الرأسمال. فالحديث المتكرّر عن الخصخصة في الاتصالات وغيرها ومسح أراضي الدولة للانتفاع منها كان المُسيطر على الورقة. فبعد أن قام نظام الطائف بتدمير الدولة وتحويلها إلى فضاء للمحاصصة المذهبية، تأتي بقايا الدولة لتحاول أن تحلّ الأزمة المالية للدولة عبر بيع المؤسّسات التي تملكها. وبذلك تحقّق الجزء الثاني، من استعمال الدولة لدعم القطاع الخاص. ففي الجزء الأوّل الذي كان عبر الاستدانة العامّة، نقلت الثروة والدخل من الأكثرية إلى القلّة، واليوم الورقة الإصلاحية ستتيح لهؤلاء الذين راكموا الثروات أن يشتروا بها مؤسّسات الدولة. اليوم، في خضم مطالبة المنتفضين بإزالة النظام الطائفي، علينا بناء الدولة لا بيعها، لأن إنهاء نظام المحاصصة، لا يمكن إلّا أن يكون ببناء الدولة الديموقراطية الاجتماعية التي كما قال كوليير عنها: «إن تراثها كان تحويل كل وطن إلى جماعة كبيرة، وإلى مجتمع بهوية مشتركة، يسوده الحسّ بالواجب والتبادلية». هذا ما نحن بحاجة إليه اليوم في لبنان. فمحاربة الفقر، مثلاً، يجب ألّا تتم بالاستدانة، بل بقبول الأغنياء أن يتحمّلوا ضرائب تصاعدية عليهم كما قبلت الطبقات الغنية بذلك في أوروبا وأميركا في منتصف القرن العشرين.
اليوم في تشيلي ولبنان حصلت انتفاضات متزامنة وللأسباب نفسها. فهي انتفاضات أتت ليس لتحقيق مطلب بل لإنهاء حقبة وبدء حقبة جديدة. في تشيلي يطالبون بجمعية تأسيسية وفي لبنان تطالب الانتفاضة بحكومة انتقالية وانتخابات مُبكرة لإنهاء الوضع الحالي. فالانتقال من ضريبة على الاتصالات، أو من رفع تعرفة المترو، إلى هذه الأمور يعني أن الأزمة الاقتصادية والسياسية كانت عميقة، ولم تكن تلك إلّا الشرارات الأولى. بالتالي، فإن الزمن هو زمن الانتفاضات وليس زمن الصفقات. وهي إن حصلت ستكون من دون طلاسم والذي يؤيّدها يعلم ماهيتها. فاليوم، في لبنان الصفقة التي حصلت لم تكن فقط بين الحكومة والرأسمال، وإنما بين الأحزاب الحاكمة في ما بينها في مواجهة الانتفاضة، وهنا تمظهر، وإن لم يكن مسلياً، وجهها الفاوستي الواضح للجميع.