منذ بداية الانتفاضة الشعبية مساء 17 تشرين الأول/ نوفمبر 2019، اتخذت المصارف اللبنانية قراراً بالإقفال التامّ في وجه جميع أنواع عمليات الزبائن، معلّلة الأمر في بيانات يومية بالتوتّرات الأمنية وإقفال الطرقات والخوف على سلامة الفروع والعاملين فيها. علماً أن بعض المصارف قام في الأيام الأخيرة بفتح الباب أمام بعض العمليات الداخلية، من قبيل تأمين الرواتب في حسابات التوطين الموجودة لديها وتوفير الأموال المطلوبة لذلك في أجهزة الصرف الآلي، من دون أن يشمل هذا التدبير أي عمليات مصرفية أخرى.عملياً، ثمّة ما يشير إلى أن التدبير لا يعود فعلياً إلى أي مخاوف ذات طابع أمني، خصوصاً أن المصارف عمدت في ظروف أمنية أخطر إلى متابعة عمليّاتها المصرفية المختلفة، بينما اقتصر الإقفال على الفروع التي تواجه مخاطر أو عقبات فعلية تهدد استمرار عملياتها المعتادة. ما تخشاه المصارف فعلاً، فهو حصول موجة من السحوبات النقدية والتحويلات التي تضغط على حجم الودائع الموجودة لديها، إذا قامت بفتح الفروع في ظل الأحداث الراهنة وقبل حصول تهدئة على الأرض تطمئن المودعين.


في الواقع، تشير الأرقام منذ بداية السنة إلى أن المصارف كانت تشهد فعلياً هذا الضغط على شكل موجات سحب قاسية قبل اندلاع الأحداث الأخيرة على الأرض. فحجم الودائع الإجمالي لدى المصارف اللبنانية شهد في ثلاثة أشهر من أصل ثمانية منذ بداية السنة (لغاية شهر آب/ أغسطس) موجات من السحوبات المرتفعة القيمة، ما أدّى إلى تغيّر سلبي في إجمال الودائع في هذه الأشهر الثلاثة. أعلى هذه الموجات كان في شهر كانون الثاني/ يناير حيث انخفض حجم الودائع الإجمالي بقيمة 2,176 مليون دولار، بينما انخفض حجم الودائع مجدّداً بقيمة 133 مليون دولار في شهر شباط/ فبراير، و1,855 مليون دولار في شهر أيار/ مايو. وفي المحصّلة يكون حجم الانخفاض في حجم الودائع في الأشهر الثلاثة التي شهدت موجات من السحوبات 4,164 مليون دولار.
في الواقع، كان الانخفاض في حجم الودائع في كلّ من الأشهر الثلاثة أكبر من جميع الارتفاعات التي شهدها حجم الودائع في الأشهر الخمسة الباقية، إذ أن النتيجة كانت انخفاضاً في حجم الودائع الإجمالي خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام بقيمة 1,741 مليون دولار. ووفق البيانات التي ينشرها مصرف لبنان، توزّعت هذه الانخفاضات على ودائع المقيمين وغير المقيمين على حدّ سواء، إذ انخفضت ودائع المقيمين بنسبة 1.04% حتّى شهر آب/ أغسطس الماضي، بينما انخفضت ودائع غير المقيمين بنسبة أكبر بلغت 1.86%.
كل ذلك يشير إلى أن المصارف تملك فعلاً الأسباب الكافية للتخوّف من أي موجة سحوبات مقبلة، وهي تدرك أثر ذلك على سيولتها، خصوصاً أن موجات السحوبات الثلاث جعلتها تشهد للمرّة الأولى منذ بداية السنة انخفاضاً فعلياً في حجم الودائع الإجمالي في ثمانية أشهر متواصلة. وعملياً يمكن لأي موجة سحوبات مقبلة في ظل الأحداث على الأرض أن تزيد هذا الضغط الذي يتركه الانخفاض في حجم الودائع لديها.
وبينما ينخفض حجم الودائع الإجمالي لدى المصارف، تتزايد الحاجات التمويلية من ناحية الدولة، لجهة إعادة تمويل الجزء المستحقّ من الدَّيْن العام وتمويل خدمة الدَّيْن من خلال الاستدانة، بالإضافة إلى تمويل العجز في الميزانية العامة. وبمعزل عن الضغط الناتج عن السحوبات من الودائع وانخفاض قيمتها، ثمّة ضغط موازٍ على حجم العملة الصعبة المتوفّر من خلال هذه الودائع، جرّاء تحويلها إلى الخارج، إذ بلغ صافي العجز في ميزان المدفوعات حتى شهر تموز/ يوليو الماضي 5,318 مليون دولار، وذلك وفق أرقام مصرف لبنان نفسه، وهو ما يعني المزيد من الضغط على احتياطي المصرف المركزي ومستوى قدرته على التدخّل في الأسواق من ناحية تأمين الحاجة إلى العملة الصعبة في السوق المحلّية.
كل ذلك يشير إلى أن مجموعة من الضغوط المالية والنقدية هي التي تقف خلف قرار تمديد إقفال المصارف خلال الفترة الماضية. وفي كل الحالات، تدرك المصارف أن قدرة المودع على التحويل تعتمد على تاريخ استحقاق الوديعة، وبينما تطول حالياً فترة إقفال المصارف، تتزايد نسبة المودعين الذين استحقّت ودائعهم خلال تواريخ مختلفة وباتوا قادرين على تحويل أو سحب الودائع، وهو ما يعني مواجهة موجة أكبر من السحوبات كلما طالت فترة الإقفال.