شهدنا ثلاث أزمات في العملة من التي قد تطرأ على اقتصاد صغير ومفتوح مثل لبنان:- الأولى ناتجة عن اتّساع الصراعات وتباعد الاتّجاهات بين نظام تثبيت سعر الصرف والسياسات المالية العامة التي تضغط على احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. هذا الأمر كان ظاهراً في 2016، وفتح الباب أمام قيام مصرف لبنان بتنفيذ عمليات مالية (هندسات مالية) مُكلفة.
- الثانية لحقت الأولى وتشكّلت عندما استمرّ انعدام الشفافية والتأخّر في تطبيق الإصلاحات، ما خلق شعوراً عاماً في الأسواق حول الصعوبات والكلفة الكبيرة المترتبة على مصرف لبنان للحفاظ على تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وفي النهاية قاد ذلك إلى أزمة ثقة. هذا الأمر بدأ في مطلع 2019 من دون أن يواجَه من صنّاع السياسات.
- الثالثة تبعت الثانية، وظهرت عندما عانى النظام من أزمة عملات أجنبية متزامنة مع أزمة تمويل، هذا ما بدأنا نشهده اليوم، ونحتاج لتجنّبه بأيّ كلفة. هذا الأمر تفاقم مع التوقّف الفجائي لتدفقات الرساميل إلى لبنان مقابل زيادة في خروجها منه، مسبّبة ضغطاً على سيولة المصارف.
عندما نواجه أزمة كهذه، من الضروري الاستجابة سريعاً وعدم الرهان على الوقت وعلى تسامح الأسواق للمساعدة على التصحيح. في عقلنا الجماعي، يمكن للأمور أن تتطوّر من سيئ إلى أسوأ. خطابات صانعي السياسات كانت سماتُها قلقة ومحايدة حتى الآن رغم الحاجة إلى تدخّل ملموس لتخفيف المخاطر.
على صعيد سوق الدولار، بات ضرورياً تخفيف الضغط وإعادة مسارات سعر الصرف الرسمي والموازي إلى مستوى واحد، خصوصاً أن سعر الصرف في السوق الموازية أصبح مرجعاً لسلّة استهلاك السلع الغذائية، وبات يُستعمل أكثر فأكثر في العمليات التجارية الصغيرة.
برأيي، الاحتواء السريع يمكن أن يكون عبر فرض استعمال الليرة وحدها في العمليات المحلية بدلاً من فرضها كأداة تسعير كما اقترح وزير الاقتصاد أخيراً. نحتاج لتقوية عملية التحويل من الدولار إلى الليرة، أي التخفيف من الدولرة في الاقتصاد لتقليل حاجة الناس من الطلب على الدولار. يجب أن يترافق هذا الأمر مع خطوات من مصرف لبنان تشمل الإلغاء الفوري لعمليات المقاصة على الشيكات والتحويلات بالدولار.
تبلغ قيمة الشيكات المتقاصة بالدولار نحو 48 مليار دولار في 2018، أمّا قيمة التحويلات المحلية بالدولار وقيمة العمليات عبر بطاقات الائتمان بالدولار فهي غير متاحة، لكن جميع هذه العناصر تمثّل رقماً هائلاً. وبالتوازي، هناك ما لا يقلّ عن 15 مليار دولار من الأموال في الحسابات الجارية بالدولار تموّل العمليات المحلية. يجب أن نعيد السيادة لليرة اللبنانية لتكون وسيلة التعامل الوحيدة محلّياً، وهذا الرقم يجب أن يتحوّل إلى الليرة. من مفاعيل هذا الأمر، أن مصرف لبنان سيتمكّن من تغذية احتياطاته بالعملة الأجنبية بقيمة 15 مليار دولار، ما يوفّر له القدرة على تأمين الاستقرار ويعيد توحيد سعرَي الصرف الرسمي والموازي، ويتيح له أن يكون مرناً أكثر في دعم المصارف بالسيولة الدولارية على المدى القصير.
هذه ليست سوى خطوة أولى لتخفيف الضغط وتجنّب انزلاق سعر الصرف الذي يقود بحسب البنك الدولي إلى معدّلات فقر بحدود 50%. إنها مسألة أمن وأمان قوميّ. يجب أن نتوقف عن محاولة تربيع الدوائر من خلال القيود الرسمية أو غير الرسمية الزائفة على السحب والتحويل، والتي تخلق ارتباكاً واسعاً وتزيد القلق والتوتر بين المصارف وزبائنها.
كلّنا نعلم أن هناك حاجة لإعادة النظر في النموذج كلّه. الدولرة في هذا الاقتصاد الصغير والمفتوح، اقتصاد استهلاكي يعتمد على الاستيراد (80% نسبة استهلاك الأسر من الناتج المحلي الإجمالي، و40% من استهلاك الأسر هو مستورَد). هذا النموذج غير مستدام. هذه التغييرات تحتاج إلى وقت وليس لدينا ترف الوقت.
نحن نواجه أزمة حقيقية في ملاءة الاحتياطات بالعملات الأجنبية، نظراً إلى النفقات الهائلة بالعملات الأجنبية الناتجة عن المالية العامة والتجارة وحاجات الشركات والمؤسسات. يتطلّب الأمر تحديد كوتا ومعايير للاستيراد والتحويلات والنفقات العامة بالعملات الأجنبية. سموّها ما شئتم، «كابيتال كونترول» أو أيّ أمر آخر. يجب اللجوء إلى أدوات أخرى سريعة ومؤقتة من بينها المحاكم الخاصة.
يجب أن نحرّر أنفسنا من الأحكام المُسبقة والأفكار المعلّبة بالنسبة لإجراءات الكابيتال كونترول، بما تمثّل من خطر محدق يتحوّل تدريجاً إلى ضرر على التدفقات المستقبلية. نحتاج إلى شجاعة لكسر الاعتبارات السابقة التي لم تعُد ملائمة لاقتصادنا ولمستوى المعيشة اللائق. الاحتياط من خطر مستقبليّ في مقابل خطر قائم حالياً، لا معنى له.

* مصرفي سابق أعدّ هذه الورقة ونوقشت في ورشة عمل خاصة