فجّرت الأحداث الأخيرة على الساحة السياسيّة والاقتصاديّة كلّ تراكمات الأزمة الماليّة التي يشهدها لبنان منذ 2011. أصلاً هي تراكمات نتجت عن عيوب النموذج الاقتصادي القائم منذ نهاية الحرب الأهليّة. وفي ظلّ الأوضاع القائمة في القطاع المصرفي اليوم، يشغُل بال الجميع سؤال واحد: كم سيصمد النظام المالي على هذا النحو إذا لم يحصل أيّ تغيير جذري مالياً؟ ستُحدِّد الإجابة عن هذا السؤال عدّة عوامل، أبرزها قدرة مصرف لبنان على الاستمرار في تلبية الطلب على العملة الصعبة، سواءً من أجل الاستيراد أو تأمين السحوبات النقديّة في المصارف أو حتّى تمويل استحقاقات اليوروبوند المتوجّبة على الدولة في السنة المقبلة.الضغوطات على احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية لم تبدأ مع الأحداث الأخيرة، بل شهدت هذه الاحتياطات تناقصاً يعود إلى ما قبل 17 تشرين الأوّل نتيجة تسارع ظاهرة هروب الودائع باتجاه الخارج، وسحب اللبنانيين لودائعهم على شكل نقد ورقي للاحتفاظ بها في المنازل. هذا السلوك هو نتيجة طبيعيّة لانهيار ثقة المودعين بالنظام المالي وباستدامته. عملياً، بلغ عجز ميزان المدفوعات، الذي يمثّل صافي التحويلات الماليّة بين لبنان والخارج، نحو 4455.4 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من السنة، مقارنة بـ 1311.4 مليون دولار في الفترة المماثلة من السنة الماضية. وبنتيجة ذلك، بلغ احتياط مصرف لبنان بالعملات الصعبة 29.3 مليار دولار في أيلول 2019، مقارنةً بـ34.15 مليار دولار في أيلول 2018.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

مع اندلاع أحداث 17 تشرين الأوّل، انكشفت عوامل الضغط على السيولة بشكل واضح أمام المودعين الذين تهافتوا على سحب ما تيسّر من ودائعهم رغم القيود غير القانونية التي مارستها المصارف لضبط السيولة. وفي هذه الأجواء، أصبح استقطاب أي ودائع أو تحويلات جديدة مسألة شبه مستحيلة، خصوصاً أن دخول الودائع إلى النظام المالي اللبناني أصبح يعني دخولها في «سجن»، وخصوصاً أن السحوبات النقدية غير متاحة إلا ضمن سقوف منخفضة مقابل تعذّر التحويل إلى الخارج من دون إيداعات نقديّة بالدولار.
هذه التطورات تعدّ مؤشّراً مهماً على وتيرة النزف المستمرة والثابتة التي سيتعرض لها احتياط مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، ولو كانت بحدود القيود المفروضة من المصارف. «بنك أوف أميركا ميريل لينش»، أجرى محاكاة لفرضيات وتيرة نزف الاحتياط في تقرير صدر الأسبوع الماضي بعنوان «تقدير قيمة الاسترداد». نقطة انطلاق التقرير، كانت في تقدير الاحتياطات المتوفّرة في شهر تشرين الثاني الماضي بحدود الـ31.6 مليار دولار ونزفها بقيمة 0.9 مليار دولار في أسبوع واحد من العمليات المصرفية في شهر تشرين الثاني، أي بمتوسّط 3.6 مليار دولار خلال شهر واحد. علماً بأن هذا المستوى من النزف أخذ في الاعتبار القيود التي فرضتها المصارف على عمليّات السحب والتحويل إلى الخارج.
يخلص التقرير إلى أنه إذا استمرت وتيرة النزف الحالية فإن الاحتياطات ستكفي حتّى شهر حزيران 2020 لتصبح 0.5 مليار دولار فقط، ثم تصبح سلبية اعتباراً من شهر تموز وتبلغ 3.5- مليار دولار.
الفرضية الثانية التي احتسب على أساسها كفاية احتياط مصرف لبنان بالعملات الأجنبية وهي تشير إلى أن وتيرة النزف، ستكون نصف ما هي عليه في الأسبوع المذكور من شهر تشرين الثاني. في هذا السيناريو، يكفي الاحتياط حتّى شهر تشرين الثاني 2020، قبل أن ينفد ويصبح سلبياً في شهر كانون الأوّل. وفي حال تباطؤ وتيرة انخفاض الاحتياط إلى ثلث الوتيرة التي شهدها شهر تشرين الثاني الماضي، فسيبلغ هذا الاحتياط 7.6 مليار دولار فقط في نهاية 2020.
هذه السيناريوهات مبنية على فرضية انعدام التحويلات الجديدة الواردة إلى لبنان، وعدم تراجع مستوى التحويلات إلى الخارج علماً بأن القيود التي تفرضها المصارف اليوم على عمليّات التحويل والسحب تجعل من التحويلات الواردة مسألة غير متوقّعة في القريب العاجل.
من الواضح أن النظام المالي اللبناني دخل مرحلة جديدة لم يعد معها ينفع تكرار الشعارات السابقة عن صلابة القطاع المصرفي ومناعته المطلقة في وجه الأزمات، خصوصاً بعد أن بلغ درجة فرض قيود صريحة ــ ولو غير مقوننة ــ على عمليّات السحب والتحويل إلى الخارج. وهذا الإقرار بعمق المأزق يعني ببساطة الانتقال إلى الاعتراف بعجز النموذج القائم عن الاستمرار وسقوط محاولات شراء الوقت ما يطرح ضرورة البحث عن بدائل جذريّة قادرة على إخراج البلاد من أتون الانهيار.