منذ بداية السنة، يشهد لبنان تحوّلات سريعة ومتقلّبة في بنية الكتلة النقديّة وتوزّعها، ودرجة توسّع كلّ نوع من أنواعها. ولعلّ السبب الأبرز يكمن تحديداً في تبدّل وتسارع الإجراءات النقديّة المعتمدة في ظلّ الأزمة الماليّة القائمة، سواء للتحكّم بالسيولة في الأسواق وضبط الضغط على سعر الصرف، أو لتوفير المال المطلوب لإعادة تمويل الدين العام وخدمته.فمنذ بداية العام الحالي، يشهد المستوى الأوّل من الكتلة النقديّة توسّعاً كبير، علماً بأنّ هذا المستوى من الكتلة النقديّة يشمل بشكل أساسيّ النقد الورقي المتداوَل في الأسواق، بالإضافة إلى النقد المتوفّر في الحسابات المصرفيّة الجارية وغبّ الطلب. بمعنى آخر، يحدّد هذا المستوى من الكتلة النقديّة حجم الأموال المتوفّر يوميّاً للطلب في الأسواق التجاريّة، وهو ما يؤثّر تلقائيّاً على مستوى التضخّم. كما يحدّد حجم الأموال المتوافر لشراء العملات الصعبة، أي إنه يؤثّر أيضاً على درجة الضغط على سعر الصرف.
بحسب إحصاءات مصرف لبنان، توسّع حجم هذا المستوى من الكتلة النقديّة تدريجيّاً من 10,546 مليار ليرة في شهر آذار الماضي، إلى 13,507 مليار ليرة لغاية 21 تشرين الثاني الماضي، أي إن هذا المستوى من الكتلة النقديّة شهد توسّعاً بنسبة 28%، وبقيمة 2,961 مليار ليرة، خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة الجارية.
تتنوّع الأسباب التي أدّت خلال الأشهر الماضية إلى هذا التوسّع. فخلال الفترة الماضية، عمد مصرف لبنان إلى شراء سندات الخزينة اللبنانيّة التي تطرحها وزارة المال لتمويل العجز في الموازنة العامّة من جهة، ولتمكين الدولة من سداد الجزء المستحق من الدين العام من جهة أخرى. أدّت هذه العمليّة تلقائيّاً إلى ضخّ كميات من السيولة التي كان يقوم مصرف لبنان سابقاً بامتصاصها من الأسواق بالعملتَين من خلال هندساته الماليّة، وهو ما أدّى إلى خلق توسّع في العرض النقدي، وبالتالي إلى زيادة المستوى الأوّل من الكتلة النقديّة M1.
من ناحية أخرى، كانت المصارف التجاريّة تعاني منذ مطلع السنة الجارية من تحويل المودعين أموالهم إلى حسابات جارية بدل الحسابات المجمّدة أو حتّى سحبها نقداً للادّخار في المنازل، وذلك تخوّفاً من تطوّرات الأزمة الماليّة. وبعد 17 تشرين الأوّل، تحوّلت هذه العمليّات إلى نزيف مستمر وثابت حدّدت وتيرته سقوف السحب النقدي التي وضعتها المصارف. وبذلك، تسبّبت هذه العمليّات بزيادة المستوى الأوّل من الكتلة النقديّة مع زيادة نسبة الأموال المدّخرة على شكل نقود ورقيّة في المنازل، أو تلك المودعة في الحسابات الجارية بانتظار سحبها نقداً تدريجيّاً وفقاً للقيود الموضوعة على عمليّات السحب.
وبمعزل عن الأسباب، يبدو من الواضح أنّ هذه التحوّلات في بنية الكتلة النقديّة ستترك آثارها على أكثر من مستوى خلال الفترة القادمة. فالتوسّع في العرض النقدي في الأسواق، وزيادة حجم الكتلة النقديّة المتداولة، سيعني تلقائيّاً زيادة في مستويات التضخّم، علماً بأنّ مستويات التضخّم تشهد أساساً ضغوطاً ناتجة عن ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق الموازية. كذلك، فإنّه من الطبيعي أن تؤدّي زيادة الكتلة النقديّة المتداولة إلى زيادة الضغط على سعر الصرف نفسه، خصوصاً أن زيادة حجم المستوى الأوّل من الكتلة النقديّة يعني زيادة حجم الأموال المتوافرة في أيّ لحظة لتتحوّل إلى طلب على الدولار الأميركي.
من المتوقّع أن يستمر المستوى الأوّل من الكتلة النقديّة في التوسّع خلال الفترة القادمة، خصوصاً مع استمرار المودعين بسحب أموالهم تدريجيّاً من المصارف ولو ضمن الضوابط المحدّدة لهم. كما يُفترض أن يواصل مصرف لبنان ضخّ السيولة التي قام بامتصاصها سابقاً عبر الهندسات الماليّة، خصوصاً مع الضغوط التي تعاني منها سيولة المصارف حاليّاً والتي لا تسمح باكتتابها مباشرةً في سندات الخزينة. وهكذا، ستكون هذه المسألة أحد العوامل الإضافيّة الضاغطة، الناتجة عن طبيعة الأزمة التي يواجهها النظام المالي في لبنان.