يمر لبنان منذ فترة بأزمة مالية خطيرة، لجأت المصارف في مواجهتها إلى فرض قيود غير مسبوقة على حسابات الزبائن، يجري تشديدها بشكل ملحوظ وتصاعدي امتدّت من الحسابات المودعة بالدولار الأميركي والعملات الأجنبية إلى الحسابات بالليرة اللبنانية. نتجت عن هذه القيود، حالة غضب وتخوّف لدى المودعين من خسارة أموالهم وعدم قدرتهم على تحويلها أو على سحبها، واقتصر الأمر على سماح المصارف بسحب مبالغ زهيدة بشكل استنسابي ومزاجي ومن دون أي سند قانوني.هذه القيود التي تفرضها المصارف لا تستند إلى أي نص قانوني صريح يجيزها، وخصوصاً في ظل عدم تضمّن قانون النقد والتسليف أي نصّ بهذا الصدد، ما يوجب استصدار تشريع من مجلس النواب يجيز تقييد الحسابات المصرفية للمودعين وتحديد التصرّف بها في إطار خطّة طوارئ مالية واقتصادية.
في غياب النص القانوني الصريح لفرض هذا النوع من القيود، تُعدّ إجراءات المصارف المستندة إلى تعاميم جمعية المصارف غير قانونية، وخصوصاً أن هذه الجمعية تُعنى بعلاقة المصارف في ما بينها وليس لها أي صلاحية في تنظيم العلاقة بين المودع والمصرف. هذه الصلاحية تعود إلى مصرف لبنان فيما تمارس لجنة الرقابة على المصارف الرقابة على تطبيق التعاميم الصادرة عنه ومراقبة حسن التقيّد بها. أما في ما يتعلق بأصل الوديعة، فهي عبارة عن اتفاق بين المصرف والمودع على إيداع مبلغ في حساب محدّد (جارٍ، مجمد…) ما يجعلها خاضعة لعلاقة تعاقدية بين المصرف والعميل تخضع لقوانين واضحة وصريحة كقانون الموجبات والعقود وقانون التجارة البرية وقانون النقد والتسليف.
هنا يُطرح السؤال: كيف يستطيع المودع استرداد وديعته والتصرف بها كما يشاء؟

أركاديو اسكيفيل ــ كوستاريكا

تنصّ المادة 701 من قانون الموجبات والعقود على ما حرفيته: "لا يجوز للوديع أن يجبر المودع على استرداد وديعته قبل الأجل المتفق عليه إلا لسبب مشروع وإنما يجب عليه أن يرد الوديعة حينما يطلبها المودع وإن يكن الموعد المضروب لردها لم يحل بعد".
بشكل عام، يمثّل قانون الموجبات والعقود السقف الشامل الذي يرعى العلاقات التعاقدية والموجبات المتبادلة بين المتعاقدين. وتشير القاعدة القانونية إلى أن كل ما لم يرد في القانون الخاص تطبّق عليه القاعدة الواردة في القانون العام مثل الموجبات والعقود. وبالتالي، فإن تطبيق المادة 701، يلزم المصرف تسليم الوديعة من دون تحديد ماهيتها سواء أكانت مبالغ مالية أم أسهماً أم ذهباً أم سندات أم غيرها، إلى المودع عند الطلب.
ويتعزّز هذا المبدأ في قانون التجارة البرية الذي أفرد له الباب الخامس بعنوان "عمليات المصارف"، ويمتدّ من المادة 307 إلى المادة 314. تحدّد هذه المواد طبيعة الوديعة سواء أكانت أوراقاً مالية أم مبالغ مالية أم ما يودع في الصناديق الحديدية، بالإضافة إلى موجبات فتح الاعتمادات والضمانات المقابلة…
لكن بشكل حصري ومحدّد، ورد في المادة 307 ما حرفيته: "إن المصرف الذي يتلقى على سبيل الوديعة مبلغاً من النقود يصبح مالكاً له ويجب عليه أن يردّه بقيمة تعادل دفعة واحدة أو عدة دفعات عند أول طلب من المودع أو بحسب المهل أو الإعلان المسبق المعين في العقد…".
استناداً إلى هذه المادة، فقد بات من حقّ المودع أن يطالب باسترداد كامل قيمة الوديعة أو جزء منها عند الطلب مباشرة، وبالتالي هذا الأمر يناقض التدابير التي تفرضها المصارف حالياً لجهة تحديد سقف لسحب الودائع ومنع المودع من الحصول على حاجته منها.
كما يتكرّس نصّ المادة 307 من قانون التجارة بنصّ واضح وصريح ورد في المادة 123 من قانون النقد والتسليف كالآتي: "تخضع الودائع لأحكام المادة 307 من قانون التجارة".
على ضوء وضوح النصوص القانونية لجهة حق المودعين في طلب وديعتهم من المصارف واستردادها بكاملها، يقتضي التوقف عند الآليات القانونية التي يستطيع المودع اللجوء إليها في حال رفض أو امتناع المصارف عن تسليمه وديعته. وبالاستناد إلى هذه النصوص، يستطيع العميل أن يتقدّم من قاضي الأمور المستعجلة، سنداً لأحكام قانون أصول المحاكمات المدنية، بطلب أمر على عريضة لاسترداد أمواله المودعة في المصرف خصوصاً أنها أموال غير متنازع عليها (الطلب من قاضي الأمور المستعجلة يكون بناءً على حق غير متنازع عليه) ولا خلاف على ملكيتها.
وقد شهدنا أخيراً حالة في قصر عدل النبطية، حيث قرر القاضي إلزام المصرف بتسليم المودع وديعته نقداً وليس بموجب شيك مصرفي كما تحاول المصارف ترويجه كوسيلة للإيفاء عند الطلب، وهو سلوك لا يعدو كونه تحايلاً على القانون وعلى الواقع تبعاً لتعذّر امكانية صرف الشيك في ظل الإجراءات والقيود غير القانونية المتخذة من المصارف.
ما حصل تالياً كان لافتاً، لأن المصرف اعترض على قرار القاضي ولا يزال الاعتراض قيد النظر. بمعنى آخر، فإن الدعوى لا تزال قائمة وغير محسومة في انتظار صدور قرار نهائي. لذا، هناك خشية من ممارسة الضغوط لتجنّب تكريس واقع قضائي في هذا الاتجاه.
كذلك، يستطيع العميل إرسال إنذار إلى المصرف لتسليمه أمواله. وفي حال رفض هذا الأخير أو امتناعه، فقد أصبح متاحاً للعميل التقدم بدعوى أمام المحكمة المالية المختصة، الواقع في نطاقها المصرف لاسترداد الأموال وطلب إلقاء الحجز الاحتياطي على ممتلكات المصرف بواسطة دائرة التنفيذ، وهو إجراء كان في استطاعة العميل اللجوء إليه حتى قبل تقديم الدعوى، على أن يقدّمها ضمن مهلة خمسة أيام من تاريخ قرار إلقاء الحجز بحسب نص المادة 870 من قانون أصول المحاكمات المدنية.
الوديعة هي علاقة تعاقدية بين المصرف والعميل تخضع لقوانين الموجبات والعقود والتجارة البرية والنقد والتسليف


بالنسبة إلى العميل، تكمن إشكالية هذا النوع من الدعاوى، بأنها ليست مستعجلة، وبالتالي قد لا تتلاءم مع أهداف وظروف العميل الذي قد يكون بحاجة ملحّة إلى هذه الوديعة. بعبارة أخرى، إن هذه الدعوى تأخذ وقتاً وتكبّد المودع مصاريف ورسوماً.
في السياق نفسه، هناك نقاشات بين العملاء والمحامين بشأن التقدم بدعوى إفلاسية سنداً لأحكام المادة 489 من قانون التجارة البرية. الإفلاس هو انقطاع التاجر عن تسديد ديونه التجارية بحسب نص المادة 489 التي تقول: "يُعتبر في حالة الإفلاس كل تاجر ينقطع عن دفع ديونه التجارية وكل تاجر لا يدعم الثقة المالية به إلا بوسائل بجلاء أنها غير مشروعة". أما المادة السادسة منه فقد أعطت الصفة التجارية لكل المصارف بعلاقتها مع الزبائن ونصّت على الآتي: "إن الأعمال المبيّنة في ما يلي بحكم ماهيتها الذاتية أعمال تجارية برية وكذلك جميع الأعمال التي يمكن اعتبارها مجانسة لها لتشابه صفاتها وغاياتها: (…) أعمال الصرافة والبنوك".
لكن إجراء الدعوى الإفلاسية، يخضع للاجتهادات القانونية والتفسيرات المتضاربة وإجراءاتها بطيئة، ما يُبقي خياراً أخيراً لدى المودع يكمن في اللجوء إلى القضاء الجزائي، انطلاقاً من عدم إجابة المصرف على الإنذار، ما قد يُعتبر إساءة للأمانة وتصرفاً بها، وهو أمر موضع نقاش واختلاف في الرأي على ضوء نص المادة 307 من قانون التجارة البرية والمادة 121 من قانون النقد والتسليف التي تملّك المصرف الوديعة وتلزمه بإعادة ما يعادلها إلى المودع.
إضافة إلى ذلك فإن التقاضي في وجه المصارف، يواجه صعوبات من نوع آخر، كون العديد من القضاة مدينين لهم بقروض سكنية وغيرها ما يوجب على القضاء التنحّي عند عرض النزاع عملاً بنص المادتين 120 و121 من قانون أصول المحاكمات المدنية.
بناءً على هذه المعطيات بات واضحاً أن إجراءات المصارف غير قانونية، وأن لدى المودع حقّ اللجوء إلى القضاء لإلزامهم بتسليم الوديعة، إلا أن واقع الحال الناتج عن نفوذ المصارف وبطء إجراءات التقاضي وإمكانية تطويع الاجتهاد، يؤدي إلى تعجيز المواطنين وحرمانهم من حقّهم بالحصول على أموالهم ويفرض عليهم التماشي على مضض، مع قيود الأمر الواقع المصرفية، وهو ما يُنذر بحملة اعتراضات متصاعدة مع اشتداد الأزمة متزامنة مع أزمات متفشّية في مختلف القطاعات الإنتاجية والمهنية، وتُنذر بما هو أسوأ وأخطر على المدى المنظور.

* محامٍ وباحث قانوني