اليوم نشهد وضعاً مفتوحاً على احتمالات كثيرة من بينها حديث عن إعادة هيكلة الدين العام أو إعادة جدولته إلى جانب خيارات أخرى؛ ما هو الخيار الأفضل وكيف يمكن أن تتعامل معه الأسواق؟
نحن نتحدث عن سندات اليوروبوندز وليس عن الدين بالليرة الذي يمكن التعامل معه عبر طبع العملة أو خفض قيمتها. برأيي، وبحسب المعلومات المتوافرة، هناك 10 مليارات دولار في الخارج والباقي محمول من المصارف ومصرف لبنان. لذلك يجب أن تكون هناك خطّة شاملة تتعاطى بالوضع النقدي والمالي وبعجز الموازنة. لا يمكن البحث عن حلّ جزئي بمعزل عن الباقي. هذا الأمر لا يمكن القيام به، فالدائنون يريدون أن يعلموا كيف ستدفع لهم الحكومة ومن أين ستأتي الأموال لتسديد قيمة الديون. إذا قدّموا تضحيات يريدون التأكد أنهم سيحصلون على الأموال وأن إعادة الهيكلة لن يكون بعدها تعثّر وإعادة هيكلة جديدة.
بات ضرورياً البحث في إعادة الهيكلة ضمن خطّة شاملة. لدينا أزمة شحّ بالدولار وهذا واضح من قبل انفجار الأزمة، وعندما قرّر مصرف لبنان أن يعطي أولوية التمويل بالدولار لثلاثة سلع، فهذا يعني أنه يعترف بأزمة شحّ بالدولار ما يثير سؤالاً أساسياً: ما هي وجهة استعمال الدولارات التي نملكها والتي لدينا القليل منها؟ لو لم يكن لدينا هذه المشكلة وبمعزل عن كل ما يحصل، لما وضعت المصارف قيوداً. من هذا المنطلق يجب البحث عن الطريقة الأمثل لاستعمالات الدولار.
برأيي الشخصي، إذا كان علينا المفاضلة بين أولويات شراء القمح والأدوية والمحروقات وبين الدائنين، فالأولوية يجب أن تكون للشعب اللبناني وليس للدائنين. طرح الأولويات يجب أن يكون ضمن خطّة أكبر. من يقول إن هذا الأمر يضرّ بسمعة لبنان فعليه أن يعلم أن الضرر اللاحق بسمعة لبنان والناتج عن فرض قيود «كابيتال كونترول» صار واقعاً، وحتى إعادة الهيكلة أيضاً. حتى تسعير السندات بات يتضمن إعادة الهيكلة. المشكلة الأساسية أنه لم يعد لدينا دولارات كافية. والخشية أن نعاني، مثل فنزويلا، حيث قرّرت دفع المستحقات للدائنين في الخارج ثم جاع الشعب فقررت التوقف، أي إنها دفعت الكلفة أكثر من مرّة.

القوانين في الخارج لا تسمح بالحجز على أموال المصارف المركزية التي يحملها باسمه ولمصلحته (هيثم الموسوي)


هل نحن في مسار شراء الوقت أو البحث عن الخطة؟
كلّ ساعة نضيعها بلا خطة شاملة تضرّ لبنان لجهة استنزاف الدولارات مقابل عدم دخول دولارات جديدة. كلما انتظرنا أكثر أُغلقت المزيد من الشركات وصُرف المزيد من العمال. دخلنا في دوامة «عاطلة» جداً يجب الخروج منها بأسرع وقت ممكن. شراء الوقت مضرّ جداً، ويجب أن نقوم بالعكس تماماً والاتفاق على خطة. على الحكومة الحالية أن تبدأ بإعداد الخطّة حتى لا نضيّع وقتاً على الحكومة المقبلة. عامل الوقت ليس لمصلحتنا.

هل تعني أن الإجراءات المتّخذة لا ترقى إلى مستوى الأزمة؟
لم تحصل أيّ إجراءات. نحن لا نأخذ إجراءات بل نقوم بردّة فعل تجاه ما يحصل. كنا دائماً نقوم بإجراءات ونأخذ القرارات خارج الوقت المناسب وبلا جرأة كافية. عندما كان يمكن اتّخاذ إجراءات حين كانت لدينا ثقة، كانت الكلفة أقل بكثير. تأخّرنا جداً.

ألا يعني هذا الكلام أن الإجراءات الواردة في تعاميم مصرف لبنان بعيدة عن الواقع؟
إجراءات مصرف لبنان تحاول التخفيف من وطأة الأزمة الناتجة عن شحّ الدولارات. هذا تدبير لإدارة شقّ نقدي بسيط من الأزمة وليس للخروج منها. المطلوب خطّة شاملة. يجب أن نضع موازنة ترقى إلى مستوى الوضع لجهة خفض النفقات الإضافية والإصلاحات البنيوية.

ما هي الخطوات القانونية التي يجب علينا القيام بها؟
لا يهمّ إذا توقفنا عن الدفع أولاً أو تفاوضنا مع الدائنين أولاً. في العادة يتلازم الأمران. وبشكل عام، فإن عقود اليوروبوندز تعطي لبنان فترة سماح لخمسة أيام من أجل تسديد فائدة السندات و30 يوماً لتسديد قيمة الأصل. بمعزل عن فترة السماح، فالأسواق تتعامل مع التأخّر في السداد على أنه تخلّف عن السداد. ما يحصل لاحقاً، هو أن الدائنين يتجمّعون ويتفاوضون (بدأت تظهر صناديق vulture تعرب عن اهتمامها بما يحصل، من بينها من كان أصلاً يحمل سندات لبنانية، وأخرى حملوها لاحقاً…). بعد ذلك، تبدأ هيئة من الدائنين، بالتفاوض مع الدولة التي يتوجّب عليها أن تعيّن مستشاراً مالياً وقانونياً. وإذا حصل اتفاق بين هذه الهيئة والدولة على نتيجة ما، فإنها تُعرَض على التصويت بين الدائنين. موافقة الدائنين على تصديق الاتفاق، موافقة من 75% من مجموع الدائنين من كل شريحة من شرائح السندات.

ما هي قدرتنا على التفاوض مع الدائنين؟
نحتاج إلى 75% من قيمة دائني كل شريحة على حدة، ولا يمكن أن نقوم بعملية تفاوض على كل الشرائح دفعة واحدة بشكل جماعي مع الدائنين. هذا الأمر منصوص عليه في عقود اليوروبوندز. ما كان يجب القيام به منذ ثلاث سنوات، تعديل عقود اليوروبوندز الجديدة بحسب المعايير الدولية التي تسمح لنا بالتفاوض الجماعي مع كلّ حملة السندات بمعزل عن نسبة كل شريحة لوحدها.
وفي كلّ الأحوال، إذا لم نتمكن من جمع 75% من دائني كل شريحة يمكن الدائنين الاستحصال على حكم قانوني بامتناع لبنان عن السداد.

هل لدى الدائنين القدرة على حجز أصول الدولة اللبنانية في حال فشل التفاوض؟
ــ القدرة التفاوضية للبنان مرتفعة. من جهة، إن غالبية السندات محمولة من جهات محليّة، وهذا سيف ذو حدين؛ عملية إعادة الهيكلة سيكون أثرها الأكبر محليّ بسبب الخسائر التي ستلحق بحاملي الدين بعد قصّ جزء من قيمة الأموال الموظّفة. عملياً، إن الأثر على حاملي السندات المحليين هو أكبر سواء كانوا أفراداً أو مصرف لبنان أو مصارف (رغم أن ما تحمله المصارف من سندات يوروبوندز لا يزيد عن 10% من موجوداتها الأجنبية بالدولار). أما الدولة اللبنانية، فليس لديها موجودات في الخارج ما عدا السفارات والقنصليات التي لديها حصانة بحسب اتفاقية فيينا، فيما الذهب مملوك من مصرف لبنان، وبشكل عام فإنّ القوانين المعمول بها في الخارج، لا تسمح بالحجز على أموال المصارف المركزية التي يحملها باسمه ولمصلحته بل تسمح بالحجز على الأصول التي يديرها للدولة اللبنانية، وهناك شروط إضافية مثل ما يتعلق باستقلالية المصرف المركزي… هذا لا يعني أن الدائنين لن يحاولوا إلقاء الحجز على أملاك الدولة، لكن يمكننا أن نربح هذه الدعاوى وهناك أمثلة عديدة مثل ما حصل مع «ليبانسيل»، والدعوى التي فاز بها البنك المركزي السعودي في بريطانيا وألمانيا.
لبنان يحترم تسديد ديونه، لكن يجب أن تتغيّر الأولوية، والأفضل أن يكون لدينا ما نقدمه وقت التفاوض.

هل يمكن استعادة الثقة المفقودة؟
إذا أظهرنا جديّة من خلال رزمة إجراءات جريئة تخرجنا من الأزمة، فستعود الثقة. هناك أمثلة عديدة من أبرزها مصر التي تمكّنت من استعادة الثقة وبنتيجتها ارتفع سعر العملة ونفذوا إصدارات دين. اليونان أصدرت منذ شهر بفائدة سلبية (الدائن يدفع لهم الأموال).
هل يمكن أن تصبح الفائدة سلبية في لبنان؟
لا نزال بعيدين عن هذه النقطة.

حاكم مصرف لبنان تدخّل بشكل مباشر في سوق الفوائد منطلقاً من وجود قيود (كابيتال كونترول) وخفّض الفوائد. تدخّل مصرف لبنان يوحي بأن هناك توجّهاً للانفصال الكامل عن الخارج؟
الدولار في لبنان هو غيره خارج لبنان. هناك عمليات تحصل باتت تتضمن فرقاً بين الدولار اللبناني والدولار الخارجي بنسبة 20% و25% (المقصود أن الدولار في لبنان أقلّ من قيمته في الخارج بهذه النسب). الدولار المقيد لا يمكن سحبه إلى الخارج ولديه قيمة مختلفة عن الدولار الحر في الخارج.

من يجب أن يدفع ثمن عملية التصحيح؟
هناك مسار قانوني ضروري لإقرار قانون استرداد الأموال المنهوبة ومكافحة الفساد وأن يدار بطريقة عمليّة من خلال قضاة نزيهين غير معينين سياسياً. هذا المسار لا يغني عن مسار التضحيات المطلوبة، إذ لا يمكن انتظار وصول الأموال قبل أن نبدأ بالمعالجة. هذه أفكار جيدة ولكنها غير واقعية اليوم. لا يمكننا انتظار المريض حتى يموت.
أيّ مودع قبض الكثير من الفوائد عليه أن يدفع أكثر من غيره وتقتضي العدالة الاجتماعية حماية صغار المودعين


وعلى صعيد المصارف، يجب أن تبدأ عملية إعادة تكوين الرساميل، علماً بأن هناك استعداداً من المساهمين الحاليين لضخّ رساميل إضافية الدائنين. بعدها يأتي دور كبار المودعين الذين استفادوا لمدّة سنوات. لم نصل إلى هذا الأمر بعد (هيركات يعني)، لكن في المبدأ، إن أي مودع قبض الكثير من الفوائد عليها، يجب أن يدفع أكثر من غيره وتقتضي العدالة الاجتماعية حماية صغار المودعين.

هناك اقتراحات تؤمن النتيجة ذاتها مثل فرض ضريبة على الثروة؟
لست مع هذا النوع من الإجراءات. ليس بالضرورة أن تكون هذه الضريبة أمراً جيداً قبل كل ذلك، يجب أن نعرف حجم المشكلة وأن نعرف حجم الوضع المالي لمصرف لبنان. فالمصارف لديها أكثر من 65 مليار دولار بالعملة الأجنبية لدى مصرف لبنان، وبالتالي يجب أن نعرف حجم الخسائر وكمية الأموال المطلوبة لإعادة إطلاق الاقتصاد، ودفع الديون بعد إعادة الهيكلة…

هل يمكن استرداد الأموال المنهوبة من السارقين؟
صعبة. لا نعلم قد تتغيّر الأيام سريعاً.

هل تعتقد أن لدى شركاء السياسة والمال استعداداً لإنقاذ البلد والتضحية؟
حتى الآن، لا أرى أن هناك وعياً كافياً للتعاطي مع الأزمة والاتّفاق على طريقة إدارتها. حتى إدارة الأزمة ليست قائمة اليوم. يجب القيام بخلية طوارئ تجتمع ليل نهار. يجب أن يضحوا. كل واحد لديه اليوم أموالاً يجب أن يضحّي.

لدى صندوق النقد الدولي برنامج واضح مذكور في تقرير البعثة الرابعة الأخير يتضمّن ضريبة على القيمة المضافة 20%، ضريبة على البنزين 5000 ليرة على الصفيحة، خصخصة الكهرباء والاتصالات، وفي المقابل يقول البنك الدولي إن تضخم الأسعار بمعدل 25% سيرفع معدلات الفقر إلى 50%، لذا، ما دواعي الذهاب في برنامج مع صندوق النقد إذا كان برنامجه سيؤدي إلى المزيد من الفقر؟
يجب تأمين السيولة. إذا تأمّنت عبر جهات أخرى فلا مانع. قد لا يناسبنا برنامج الصندوق وقد نتفاوض معه، لكن لا يمكن ألا نحكي معه أو مع غيره. في مؤتمر باريس 3 كان الصندوق حاضراً بناء على طلب لبناني، ما أتاح للبلدان المانحة تقديم هبات وقروض وكانت شروطه ضعيفة ولم تكن مربوطة بالدفع.

في فنزويلا دفعوا مستحقات الدائنين ثم جاعوا فقرّروا التوقف فدفعوا الكلفة مرتين


هل تعتقد أن الوقت مناسب للخصخصة وبيع أصول الدولة بسعر بخس؟
أكيد لا، يجب أن نبيعها بسعر رخيص، لكن ليس هناك أي عذر ألا نقوم بتعيين هيئة الاتصالات، وليس منطقياً أن يكون مجلس الوزراء هو من يقرر الأسعار. في الصين لا تزال لدى الحكومة حصّة في قطاع الاتصالات، لذا يمكن بيع جزء. والأكيد أني لست مع حرق الأسعار.
أما في قطاع الكهرباء، فليست هناك عملية خصخصة، بل السؤال المطروح هو إذا كانت لدى القطاع الخاص رساميل كافية للمشاركة مع القطاع العام في تركيب معامل كهرباء. يجب أن نشيّد معامل دائمة بأسرع وقت، فإذا تأمنت الرساميل من القطاع الخاص بكلفة مقبولة كان به، ولكن إذا لم تتأمن فعلى الدولة أن تقوم بالأمر بأسرع وقت.