خلال السنوات الماضية، تعامل مصرف لبنان مع الأزمة المالية بمنطق شراء الوقت عبر إجراءات استثنائية ترتكز على امتصاص السيولة بالدرجة الأولى، ما أدّى إلى تحوّل الأزمة الماليّة إلى أزمة اقتصاديّة شاملة بلغت حدّ الركود في الأسواق. ومنذ 17 تشرين الثاني اتخذت المصارف تدابير كبّلت الحركة التجاريّة في الأسواق، ما ضاعف من أثر الانهيار على الاقتصاد المحلّي.منذ صيف 2016، عمد مصرف لبنان إلى تنفيذ عمليات مالية مع المصارف (هندسات) أدّت إلى ارتفاع أسعار الفوائد على الودائع والقروض، ما انعكس تراجعاً في الحركة التجاريّة بفعل تحوّل جزء كبير من السيولة إلى ودائع مجمّدة في المصارف ولدى مصرف لبنان، وبفعل تراجع حركة القروض التجاريّة. هذه الهندسات نُفّذت كالآتي: يشتري مصرف لبنان من المصارف سندات خزينة بالليرة ويدفع وسطياً 139% من سعر كل سند، وهذه النسبة محتسبة على أساس السعر الاسمي للسند مضافاً إليه نصف أرباح الفوائد التي كان سيحققها حتى استحقاقه، وبذلك حققت المصارف ربحاً فورياً بمعدل 39% وسطي. وفي المقابل، تشتري المصارف سندات خزينة بالدولار وشهادات إيداع صادرة عن مصرف لبنان بالقيمة نفسها لسندات الدين بالليرة التي اشتراها مصرف لبنان.


هذه الهندسات، كما غيرها، استهدفت إعادة تكوين احتياطات مصرف لبنان بالعمليات الأجنبية عبر استقطاب السيولة بالدولار من المصارف. بنتيجة هذه الهندسات وما نجم عنها من ارتفاع لأسعار الفوائد، بدأت السيولة تنحصر في يد مصرف لبنان فيما ارتفعت كلفة الاقتراض على القطاع الخاص. هذا الأمر انعكس سلباً على الحركة التجارية وخصوصاً المؤشرات المتعلقة بحركة الشيكات المتقاصّة والمرتجعة. بحسب أرقام جمعيّة المصارف، فإن قيمة الشيكات المحصّلة بالليرة والدولار ولغاية شهر تشرين الثاني من كل عام، تراجعت تدريجاً من 11.4 مليار دولار في عام 2015، إلى عام 10.89 مليار دولار في عام 2018. مصدر التراجع سببه انخفاض قيمة الشيكات المحصّلة بالدولار الأميركي من 7.66 مليارات دولار في عام 2015 إلى 6.6 مليارات دولار في عام 2018. امتصاص السيولة بالدولار مقابل ضخّ السيولة بالليرة في السوق انعكس ارتفاعاً في قيمة الشيكات المحصّلة (المتقاصّة) بالليرة بين عامي 2016 و2018 مقابل الانخفاض في حجم الشيكات المحصّلة بالدولار.
لاحقاً انتقل مصرف لبنان إلى امتصاص السيولة بالليرة اللبنانيّة أيضاً للحؤول دون تحوّلها إلى طلب على الدولار في الأسواق. النتيجة جاءت ارتفاعاً بقيمة 379 مليون دولار في حجم الشيكات المحصّلة بالليرة بين نهاية تشرين الثاني 2016 ونهاية تشرين الثاني 2018.
في نهاية تشرين الثاني 2019، بدأت المؤشرات تأخذ شكلاً أكثر حدّة. فقد شهدت المصارف الانخفاض الأشدّ في حركة الشيكات المحصّلة بسبب التطوّرات في شهري تشرين الأول وتشرين الثاني، والتي بلغت حدّ تكبيل الحركة التجاريّة بشكل شامل وكلّي. فخلال هذين الشهرين، وإثر اندلاع احتجاجات 17 تشرين الأوّل، اتخذت المصارف قرارات مفاجئة بخفض سقوف التسهيلات التجاريّة الممنوحة لغاية القيمة المستعملة لكل زبون ما أدّى إلى عجز التجّار عن متابعة نشاطهم التجاري كالمعتاد. فيما أدّت قرارات ضبط السيولة ومنع التحويلات إلى الخارج – حتى للاستيراد - إلى عزوف جزء واسع من التجّار عن قبول الشيكات – حتى المصرفيّة ــ كوسيلة للدفع.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

أدّى التكبيل الشامل للحركة التجاريّة في البلاد خلال هذين الشهرين إلى تراجع إجمالي قيمة الشيكات المحصّلة لغاية شهر تشرين الثاني من السنة الجارية إلى 9.13 مليار ات دولار مقارنةً مع 10.9 مليارات دولار في الفترة نفسها من السنة الماضية، أي بانخفاض في حركة الشيكات المتداولة بلغ 16%.
الآثار الناجمة عن خطوات المصارف في الأسواق لم تقتصر على تراجع حركة الشيكات فقط، بل شملت ارتفاعاً شهرياً غير مسبوق في حجم وعدد الشيكات المرتجعة. فبينما بلغ عدد الشيكات المرتجعة في شهر تشرين الأول 16427 شيكاً، بقيمة 88.9 مليون دولار، ارتفع عدد هذه الشيكات إلى 81782 شيكاً في تشرين الثاني بقيمة 319.7 مليون دولار. علماً بأن شهر تشرين الأول شهد عدداً منخفضاً نسبيّاً من الشيكات المرتجعة، بفعل عطلة المصارف خلال بدايات الاحتجاجات ولجوء مصرف لبنان إلى إصدار التعميم رقم533 الذي يعدّل نظام المصلحة المركزية للعملاء المتخلّفين عن الإيفاء على النحو الآتي: «لا تدخل في الفترة الممتدة بين 15/10/2019 و15/11/2019 مهلة الـ15 يوماً الممنوحة لتسوية وضع الشيكات المرتجعة». رغم ذلك، فإنه بين تشرين الأول وتشرين الثاني تضاعف عدد الشيكات المرتجعة 5 مرات فيما تضاعفت قيمتها 3.6 مرات.
صار واضحاً أن الإجراءات المصرفيّة التي اتُّخذت بعد 17 تشرين الأوّل من دون وجود إطار قانوني أو رسمي يمنحها أي شرعية، ومن دون أي ضمانات لحماية الأسواق واللبنانيين من آثار الانهيار الحاصل على المستوى المالي، حوّلت أزمة المصارف والنظام المالي إلى أزمة شاملة ضربت الأسواق ومصالح اللبنانيين. وحتى اللحظة، لا يبدو أن هناك توجّهاً رسمياً نحو أي تعديل في هذه الإجراءات ما يعني أنّ تداعياتها ستظل حاضرة في المرحلة المقبلة.