هناك من يطالب بأن يكون لصندوق النقد الدولي دور في معالجة الوضع المالي في لبنان. يُقدّم هذا الدور في سياق إخضاع لبنان لإشراف من الصندوق على إدارة التفليسة، وليس واضحاً إذا كانت هناك قاعدة سياسية واجتماعية قادرة على تقديم بدائل للنموذج الاقتصادي الحالي. فهل بتنا نبحث في تنظيم عملية الإفلاس حصراً؟من المعلوم أن صندوق النقد الدولي قد أصبح الواسطة للبلدان التي تواجه أزمات مالية ونقدية التي تتيح لها فرصة الحصول على معونات ماليّة ميسّرة، وكما هو معلوم أيضاً فإن الصندوق ينصح بالانضباط المالي بمعنى تقليص عجز الموازنة أو توازنها، كإحدى الوسائل الرئيسية لإنشاء مناخات تشجّع على الاستقرار الاقتصادي. علماً بأنه في حالات كثيرة تسبّبت شروط الصندوق في ظهور انعكاسات اجتماعية صعبة في البلدان المعنية لم تنجح معالجتها.

(مروان طحطح)

إلا أنه مهما كانت وجهة نظر الصندوق فعلى السلطة المالية اللبنانية أن تكون لها نظرتها المدروسة درساً وافياً لجهة السياسات المطلوبة لمعالجة الأزمة الراهنة، وخصوصاً في ما يتعلق بالتوازن المطلوب بين الانضباب المالي والنموّ الاقتصادي والعدالة الاجتماعية على المدَيين القصير والبعيد. وعندها يكون هدف التفاوض بين لبنان والصندوق هو الوصول إلى أرضية مشتركة توافق بين المصلحة الاقتصادية الوطنية ومتطلبات المجتمع الدولي للدعم المالي.
القضية ليست قضية خضوع لصندوق النقد بل قضية استعداد كامل للمفاوضة على أسس متينة من قبل السلطات المسؤولة. وهذا هو المطلوب.

ما هو أصل الأزمة الاقتصادية ــ المالية ــ الاجتماعية الراهنة؟ هل النقاش مطروح حول السياسات الحريرية السابقة التي تعود ثلاثين عاماً بكامل رموزها وسياساتها، أم هناك اكتفاء بالقول بأن المطلوب الآن معالجة الأزمة من دون التقصّي عن أسبابها؟

نبذة

استاذ شرف في الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، ■ المدير المؤسس لمعهد الاقتصاد المالي في الجامعة، مؤسس ■ عضو مجلس إدارة منتدى البحوث الاقتصادية ومركزه مصر ■ وزير اقتصاد سابق ■ الرئيس المنتدب للجامعة الأميركية في بيروت بين ١٩٩٣ و١٩٩٨ ■ عمل في صندوق النقد الدولي في السبعينات ■ مستشار لعدة مؤسسات اقليمية ودولية

يتوجب علينا البحث والتمحيص في الأسباب التي أدّت إلى الأزمة الاقتصادية ــ المالية الراهنة. في نظري، تعود هذه الأزمة إلى ثلاثة أسباب رئيسية مترابطة مع بعضها البعض:
- عدم الانضباط المالي في ما يتعلق بموازنات الدولة السنوية وتحديداً في الأعوام التي تلت الانتخابات النيابية في أواخر عام 1992. وقد بدأ ينمو عجز الموازنة منذ ذلك الحين إلى أن بلغ ما يفوق 11.6% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2018 رغم محاولات بين الحين والآخر لضبطه من دون نجاح يذكر وذلك أساساً بسبب ممارسات مسؤولي السلطة. ولذا، كان هناك ارتفاعاً متواصلاً في الدين العام وصل إلى مستويات عالية جداً ألقت بثقلها على ديناميكية الاقتصاد الوطني وكبّلت خيارات السياسات المالية.
- عدم التقيّد، أو بالأحرى، الاهتمام الجدّي بأي تصوّر اقتصادي ــ اجتماعي، لإعمار لبنان ونموّه والموازنة بالطبع هي أحد مكوّنات هذا التصوّر، علماً بأن أفكاراً كثيرة قد طُرحت في هذا المجال، إلا أنها لم تلقَ الاهتمام الجديد من قبل ذوي السلطة. فكانت خطوات سياسات إعادة الإعمار غير مرتبطة عضوياً بسياسات نقدية ومالية واضحة المعالم ومدروسة بدقّة ومسؤولية.
ــ نشوء سلطة سياسية لم تكن في تكوينها قادرة عموماً على الارتقاء إلى المستويات المطلوبة في أدائها حتى بشهادة أهل الحكم، ، فكان الاعوجاج في الحكم وانتشار الفساد والطعن في المصلحة العامة مراراً وتكراراً خدمة لمصالح خاصة. والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة ولا داعيَ لسردها. وإن أراد لبنان أن يعاود النهويض، فلا بدّ من سلطة حكومية موثوقة وكفوءة لا ترزح تحت أعباء الممارسات السياسية المعهودة.
ومع ذلك، لا يزال بإمكاننا معالجة الأزمة القائمة عبر البرامج الاقتصادية والمالية التي توازن بين ضرورات ثلاث: الانضباط المالي، تحفيز النموّ الاقتصادي، وتحقيق العدالة الاجتماعية / الاقتصادية.
وهنا أودّ أن ألفت النظر إلى أن الانضباط المالي يعني في ما يعنيه، ضبط الهدر المبرمج وغير المبرمج الذي في حال نجاحه قد يعني الاستغناء عن فرض ضرائب جديدة. ويبقى أن تكون السلطة المسؤولة، كما أسلفنا، سلطة نزيهة وكفوءة.
إن هذه المعالجة هي في متناول اليد، فالخبرة الوطنية موجودة وقد ظهرت في كتابات وأفكار متنوّعة والتحدّي الكبير هو في استجابة السلطة السياسية لهذه الأفكار وتنفيذها، وقد يكون ذلك عبر إنشاء لجنة خبراء مستقلين تتولى صياغة السياسة الاقتصادية والحالية والاجتماعية المطلوبة.

هل تعتقد أن اللحظة مناسبة لطروحات بديلة لها طابعها الجذري، أم أن الأمر يتطلب واقعية من النوع الذي يدفع نحو تغيير سلوكيات لا تغيير نماذج وأنظمة؟
إن السياسات النقدية لا يمكن عزلها عن السياسات المالية والتنموية، فكلّها فروع لما يعرف بالسياسات الماكرو اقتصادية. لا أريد التعقيب على المشاكل التي واجهت السياسة النقدية وسبل مواجهتها في لبنان، وإنما أودّ أن ألفت النظر إلى أمر مهم يصبّ في خانة استرجاع الثقة. إن الإقدام على تطبيق ما يُعرف بـ«Capital Control» قد تكون له مبرّراته في ظل موجة الهلع التي أصابت المودعين وذلك بغضّ النظر عن أسبابها.

إذا تمكّنت الحكومة الجديدة والسلطات النقدية من استرجاع ثقة المواطنين فسينحسر دور أسواق القطع الموازية ولكن مراجعة سياسة سعر الصرف تتطلب أوضاعاً اقتصادية أكثر هدوءاً


مع بدء استرجاع ثقة المودعين والأمل بأن برامج أي حكومة جديدة ستحقق ذلك، فإنه يتوجب على السلطة النقدية أن تخطّط لرفع الـ«Capital Control» ولو تدريجاً على مدى مدّة زمنية محدّدة ربما ستة أشهر أو أقل. فلا يجب أن ننسى أن مميزات لبنان الرئيسية، انفتاحه على الخارج في ما يتعلق بالتدفّقات المالية، علماً بأن لبنان بحاجة إلى تنظيمات جديدة تتعلق بتداول العملات الأجنبية محلياً. إن رفع الـ«Capital Control» قد يُعيد بعضاً من الثقة التي فُقدت في النظام المالي اللبناني وخصوصاً إذا كان ذلك مترافقاً مع حكومة مسؤولة وكفوءة توحي بالثقة داخلياً وخارجياً. وفي مطلق الأحوال فإنه قد يكون مطلوباً من قبل مصرف لبنان إعادة النظر في قراره لجهة استيفاء الفوائد على فوائد الدولار مناصفة بين الدولار والليرة اللبنانية، فمهما كانت دوافع هذه الإجراءات، فإنها قد تُضعف ثقة المودعين داخلياً وخارجياً في الجهاز المصرفي اللبناني. ولا أعتقد، وقد أكون مخطئاً، أنه إجراء قد عُمل به في أي بلد آخر واجه أزمات مالية أو نقدية.

مكوّنات الأزمة الاقتصادية المالية الراهنة تعود إلى أواخر عام 1992 يوم بدأ الإنفاق بلا انضباط وبلا تصوّر اقتصادي للإعمار وللنموّ الاقتصادي إضافة إلى اعوجاج الحكم وفساده


تدريجاً يتكرّس وجود سوق موازية لسعر صرف الليرة مقابل الدولار لدى الصرّافين، وبدأ يحصل تمييز بين الدولارات الموجودة في القطاع المصرفي قبل 17 تشرين الأول والتي تدخل الآن إلى لبنان، فهل هذا التكريس يُتيح حماية النقد الوطني أم هو توسيع لهوامش سعر الصرف يمهّد للتخلّي عن سياسة تثبيت سعر الليرة؟
في ما يخصّ ارتباط العملة الوطنية بالدولار، فباعتقادي أنه إذا تمكنت الحكومة الجديدة والسلطات النقدية من اتخاذ خطوات تطمئن المواطنين وتسترجع ثقتهم فإن دور أسواق القطع الموازية سينحسر. إن ذلك لا يعني عدم إعادة النظر في ما بعد بسياسة القطع المتّبعة منذ أوساط التسعينات، إلا أن هذه المراجعة مهما استقرّ الأمر عليها يجب أن تأخذ مجراها في ظل أوضاع اقتصادية أكثر هدوءاً ما يُتيح المجال لمعالجة موضوعية.