فجأة، أدرك الجميع مساوئ الدولرة في لبنان، وبدأ الحديث عن ضرورة وضع حدّ لها، وذلك عبر تحويل الودائع ــــ ولو قسرياً ــــ من الدولار إلى الليرة. إن هذا الإجراء الذي تُطلق عليه تسمية إلغاء الدولرة (de-dollarization) هو من أخطر وأعقد الإجراءات التي يمكن اتخاذها بسبب تداعياتها الطويلة الأجل على النمو الاقتصادي والتضخم وسعر الصرف والثقة بالسياسات النقدية والمصارف، وذلك بمعزل عن الجوانب القانونية لهذا الإجراء. وبعد أكثر من ثلاثة عقود من التعايش مع الدولرة المالية في لبنان (أي دولرة الودائع والقروض المصرفية) بل وحتى اعتمادها كسياسة ثابتة من قبل السلطات النقدية والمصارف نفسها، وبنتيجة عدم تمكن المصارف من إعادة الودائع بالدولار عند استحقاقها للمودعين ضمن الظروف الحالية، بدأ التداول باقتراح تحويل قسري للودائع بالعملات الأجنبية إلى الليرة ودفعها بالليرة عند الاستحقاق.عملياً، القيام بهذه العملية اليوم، في ظل الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية الراهنة، سيؤدي من دون شكّ إلى تفاقم المشكلة بدلاً من حلها، وامتدادها على المدى الطويل. فاستراتيجية إلغاء الدولرة (خاصة القسري منها)، تُعدّ إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل حول العالم، علماً بأن دولاً عدة نفذتها ودفعت ثمناً باهظاً لهذا القرار ثم تراجعت عنها لاحقاً.


إلغاء الدولرة ينعكس على صعيدَي الاقتصادي الجزئي (microeconomic) والاقتصادي الكلي (macroeconomic). بالنسبة إلى الأول، فإن إلغاء دولرة الودائع من دون إلغاء دولرة القروض قد ينفع المصارف، إلا أنه سيؤدي إلى خلل وعدم تطابق (mismatch) هائل في ميزانيات الأسر والشركات، لأن الجزء الأكبر من قروضهم بالدولار أيضاً كما هي غالبية ودائعهم بالدولار أيضاً (68%). القروض السكنية والصناعية والشخصية والسيارات وبطاقات الائتمان الدائنة، وحسابات التأمين، وحسابات الادخار، والتعليم وغيرها، كلها مقومة بالدولار، ونسبة دولرتها تصل إلى 70%. لذا، يجب إلغاء الدولرة من جانبَي الودائع والقروض العائدة للأسر والشركات في الوقت نفسه. هل تقبل المصارف بذلك؟ لو افترضنا إن هذه الخطوة قد تُعدل إلى حدّ ما ــــ وبشكل عام ــــ ميزانيات المقترضين من قطاعَي الأسر والأعمال، إلا أن الفائدة على القروض تبقى مشكلة تستوجب المعالجة؛ فما هي معدلات الفائدة التي ستفرض على القروض بعد تحويلها من الدولار إلى الليرة؟ هل تبقى المعدلات المعمول بها سابقاً، أي الفائدة التي كانت على القروض بالدولار، سارية المفعول، أم تخضع "لإعادة تسعير" على أساس معدلات الفائدة الرائجة على الليرة والتي هي أعلى من الفائدة على الدولار؟ بلا شكّ، سيتم رفع الفوائد على هذه القروض تلقائياً، ما يؤدي إلى ارتفاع عبء الفوائد على الأسر والشركات. وهناك مشكلة أخرى: ماذا عن ودائع غير المقيمين التي تصل نسبة الدولرة فيها إلى 90%، فهل يجري تحويلها إلى الليرة كذلك؟ إذا كان هناك تمييز بين المودعين المقيمين وغير المقيمين، فمن المرجح ألا يدخل سنت واحد إلى لبنان مجدداً. سيكون الأمر كارثياً، بكل معنى الكلمة، على غير المقيمين من المودعين، لأن المطلوبات في ميزانياتهم (القروض) هي بالعملات الأجنبية كلياً.
على صعيد الاقتصادي الكلي، هناك متطلبات وأسبقيات (pre-requisites) للبدء بإجراءات إلغاء الدولرة (de-dollarization) ليست متوافرة اليوم إطلاقاً ولا يمكن تأمينها في المدى المنظور. فجميع المؤشرات الاقتصاديّة الكليّة تشير إلى مدى سوء الأوضاع الاقتصادية وعدم استقرارها. التقديرات تشير إلى انكماش الاقتصاد اللبناني خلال 2020 (على الأقل) نتيجة السياسات التقشفية التي اعتمدتها الحكومة وتراجع التجارة الخارجية وتوقف التدفقات المالية الواردة والركود العميق في النشاط الاقتصادي، فضلاً عن نشوء سعر صرف موازٍ للدولار يفوق السعر الرسمي بنحو الثلث، ما أدّى فوراً إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 1.4% في شهر تشرين الأول 2019 و1.9% خلال تشرين الثاني بحسب مؤشّر أسعار المستهلك الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي. كذلك، يتوقع أن يتفاقم التضخّم بشكل كبير خلال عام 2020 بالإضافة إلى عجز في موازنة الحكومة لا يقل عن 10% من الناتج المحلي الإجمالي، ودين عام تفوق نسبته 160% من هذا الناتج، وعجز في الحساب الجاري يصعب تحديده، إلا أنه قد لا يقل عن 25% من الناتج.
في ظل هذا المشهد، إن إلغاء الدولرة القسري سيؤدي إلى عواقب سلبية جداً على الاقتصاد الكلّي. ومع التراجع الكبير في الثقة بالمصارف، فإن أول العواقب انعدامها كلياً، والمزيد من انحسار التعامل مع المصارف لسنوات، أي ما ينعكس كارثة على قطاعات الوساطة المالية والاقتصاد. هناك أمثلة عديدة في هذا المجال، منها تجربة البيرو. ففي عام 1985 قررت حكومة البيرو إلغاء الدولرة عن طريق التحويل القسري للودائع بالعملات الأجنبية إلى العملة المحلية وسط أجواء اقتصادية سيئة. أدّت هذه السياسة إلى نتائج عكسية تماماً، وتراجع نشاط الوساطة المالية بشكل كبير، وما إن رفعت الحكومة القيود على التحويل إلى الخارج حتى هربت رؤوس الأموال، ثم عادت دولرة الودائع إلى الارتفاع لتصل إلى 80% عام 1990 (مقابل 60% في عام 1985)، مع تضخّم في ذلك العام بلغ 2775%. بعد هذه التجربة "المؤلمة"، غيّرت الحكومية البيروفية بشكل جذري استراتيجيتها وبدأت منذ 2001 بالتركيز على تحقيق استقرار في الاقتصاد الكلّي عبر خلق فائض في الموازنة وخفض الدين العام بشكل كبير والحفاظ على استقرار الأسعار عبر نظام استهداف التضخم. كل ذلك أدى إلى ارتفاع كبير في قيمة العملة البيروفية بين عامَي 2003 و2011. واستُكملت سياسة الاستقرار الاقتصادي الكلي بقرارات تنظيمية احترازية (prudential regulations) للتعامل مع مخاطر العملة الأجنبية لدى المصارف بشكل أفضل، وتطوير سوق الأوراق المالية بالعملة المحلية. بنتيجة ذلك، انخفضت دولرة الودائع إلى 50% في نهاية عام 2008. بمعنى آخر، إن الاستقرار الاقتصادي الكلّي كان المحرّك الرئيسي لتحقيق أهداف؛ من بينها خفض الدولرة وتطوير أسواق رأس المال المحلية، فيما شكّلت التدابير الاحترازية أداة مكمّلة.
مثال آخر هو ما قام به الكيان الإسرائيلي في الحدّ من الدولرة خلال تسعينيات القرن الماضي معتمداً على إجراءات استقرار الاقتصاد الكلي وإعادة الثقة بالاقتصاد وتحقيق المزيد من اليقين بشأن التطورات المستقبلية. وترافق ذلك مع اعتماد سياسة استهداف التضخم، الأمر الذي ساهم في تحقيق الصدقية للسياسات النقدية، وبالتالي في استقرار الأسعار.
في المقابل، تبنّت الأرجنتين سياسة خفض معدلات الدولرة بشكل قسري، ما أدّى إلى كارثة اقتصادية ومالية. ففي عام 2001، كانت الأرجنتين (مثل لبنان اليوم) تعاني من انكماش اقتصادي وعجز توأم (في الموازنة العامة وفي الحساب الجاري) ودين عام مرتفع وتراجع في قيمة العملة المحلية (البيزو). فجأة، وفي ظل كل ذلك، اتخذت الحكومة قراراً بتحويل قسري للودائع بالعملات الأجنبية إلى البيزو، ما أدى إلى تعميق الانكماش الاقتصادي من 4.4% في 2001 إلى 10.9% في 2002، وتحوّل التضخم من –1.5% إلى +40.9%، وارتفاع الدين العام من 40.9% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 152.2%، مع هروب كبير لرؤوس الأموال إلى الخارج. وفي ما بعد اضطرت الأرجنتين إلى السماح مجدداً بالدولرة.
إلغاء الدولرة القسري سيؤدي إلى عواقب سلبية جداً على الاقتصاد الكلّي. ومع التراجع الكبير في الثقة بالمصارف


خلاصة هذه التجارب الدولية تشير إلى أن أطر السياسات النقدية وأسعار الصرف الموثوق بها، والتضخم المنخفض والمستقر، ووجود أسواق مالية محلية عميقة ومتطورة، هي عناصر أساسية في أي استراتيجية لإلغاء أو خفض الدولرة. وعند اتخاذ هذا القرار، يحتاج صانعو السياسات إلى التفكير في التسلسل الصحيح للإجراءات، وكذلك المخاطر الناجمة عن عدم الاستقرار المالي المحتمل و/أو هروب رؤوس الأموال. ولا يمكن اعتبار التدابير الاحترازية إلا كأدوات تكميلية وليست رئيسية. وإجمالاً، تتمثّل الطريقة الأكثر استدامة لخفض الدولرة في تحقيق ــــ ومن ثم الحفاظ على ــــ استقرار الاقتصاد الكلّي وإبقاء التضخم منخفضاً ومستقراً، وتحسين وضعية الحساب الجاري، وتحقيق فائض في الموازنة العامة (ما يجعل السندات الحكومية أكثر جاذبية ويخفض تكلفة الاقتراض)، وعن طريق إجراء إصلاحات هيكلية ومؤسسية تساعد على الوصول إلى نمو اقتصادي مرتفع ومستدام. كما يجب التحول تدريجياً نحو أسعار صرف أكثر مرونة، وإجراءات لجعل العملة المحلية أكثر جاذبية، وبناء الثقة في صدقية صنع السياسة النقدية.
رغم المساوئ العديدة للدولرة (ومنها تعقيد السياسة النقدية وتقليل فعاليتها، وزيادة تقلّب الطلب على النقود، وجعل التضخم أكثر حساسية للصدمات النقدية، وتقليل سيطرة السلطات النقدية على عرض النقود وغيرها)، إلا أن الوقت ليس مناسباً لاتخاذ القرار بإلغائها في لبنان، ولا تتوافر متطلباته حالياً. كما لا يمكن الرهان على ما يُسمى "الكابيتال كونترول" لمنع هروب الأموال إلى الخارج بعد التحويل القسري للودائع. فبمجرد فتح المجال أمام التحويل (ولو بعد حين) ستهرب تلك الأموال. إن اختيار الوقت الملائم واعتماد التسلسل الصحيح للإجراءات والسياسات هو ضروري، إذ يجب أولاً السعي إلى إعادة الاستقرار الاقتصادي وضبط عجزَي الموازنة والحساب الجاري والدين العام، والتطوير الفعلي والحقيقي والجديّ للأسواق المالية المحلية وتوسيعها وتعميقها. وبعد كل ذلك، يمكن البدء بالتحول تدريجياً من نظام استهداف سعر الصرف إلى نظام استهداف التضخم. وبما أن لبنان يعتمد نظام سعر صرف قليل المرونة، يجب البدء بالتوسع التدريجي في نطاق سعر الصرف الرسمي، والعمل على إدارة السيولة المصرفية بشكل أكثر كفاءة، وتحسين آلية التحويل النقدي من خلال أسعار سياسة (policy rates) أكثر فعالية. كما أن شفافية أكثر لسياسات البنك المركزي هي ضرورية لبناء ثقة الجمهور في صدقية صنع السياسة النقدية. يمكن أن يُضاف إلى كل ذلك مبادرات أخرى مثل فرض متطلبات احتياطي أعلى على ودائع العملات الأجنبية ومكافأة ودائع العملات المحلية بمتطلبات احتياطي أدنى.

*أستاذ في الجامعة اللبنانية