في الأشهر الماضية، أفرزت الأزمة اللبنانية شرائح من المتضرّرين منها، وكل شريحة تحمل مأساة خاصة بها ومساراً لتفاقمها. المغتربون هم من بين أكثر المتضرّرين. حوّلوا أموالهم إلى حسابات في المصارف اللبنانيّة حتى باتت عالقة بين الاحتجاز وشرور أخرى أسوأها تبخّر هذه الأموال خدمة لنموذج الاستهلاك اللبنانيّ. مأساتهم لا تخصّهم وعائلاتهم فحسب، بل هي جزء من مأساة الاقتصاد اللبناني بكلّ قطاعاته. هنا، نحن لا نتحدّث عن مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحليّ الإجماليّ، التي سنفقدها في السنوات المقبلة بسبب فقدان الثقة بالنظام المالي اللبناني، ولا حتى عن الفرص الضائعة لعدم استغلال هذه الأموال في عملية بناء اقتصاد منتج، بل عن ما فقده الاقتصاد اللبناني بسبب نزف رأس المال البشري. هذا هو الثمن الذي دفعناه على مدى ثلاثة عقود فيما بدّد النموذج المقابل المتواضع لهذا النزف. التاريخ يحفل بموجات نزف رأس المال البشري. أقرب الحالات إلى الحالة اللبنانية المعاصرة، ما عاناه غرب أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بسبب تجارة العبيد عبر الأطلسي.
مسار العبودية
بين بداية القرن السادس عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، ازدهرت تجارة العبيد عبر الأطلسي بهدف تأمين يد عاملة رخيصة في الأميركيتين. وبينما شهد القرنان الأولان من هذه الفترة الزمنية وصول أقلّ من 10% من العدد الإجمالي من الأفارقة إلى القارتين، ازدادت الأعداد بشكل مطّرد تزامناً مع نموّ المستعمرات الأوروبية هناك. هذا الازدهار لم يكن ممكناً من دون العمالة الأفريقيّة (المستعبدة) بحسب ما قال جوزيف إنيكوري، في كتاب «تطوّر أفريقيا من نظرة تاريخيّة». فقد نشأت مشكلة توفر اليد العاملة للإنتاج على نطاق واسع في الأميركيتين عموماً، بسبب انخفاض الكثافة السكانية بعد التدهور الكارثي للسكان الأصليين في القرن السادس عشر، ما ترك مساحات شاسعة من الأراضي شاغرة للمهاجرين الأوروبيين لشغلها بكلفة سياسية ومالية قليلة. وكان مستحيلاً، في تلك الفترة، الإنتاج على نطاق واسع في إطار نظام عمالة جماعية حرّة، لأن هؤلاء العمال سيفضلون تأمين أراضيهم والانخراط في إنتاج مستقلّ على نطاق صغير. وبالإضافة إلى ذلك، لم تكن قد بدأت بعد عملية تحوّل الجماهير إلى بروليتاريا (عمال يملكون القليل أو لا يملكون) في أوروبا وأفريقيا وآسيا. هذه العمليّة شكّلت ضغطاً دفع ملايين المهاجرين المتطوّعين من أوروبا وآسيا إلى الأميركيتين خلال أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ومع ذلك كانت هناك حاجة للإنتاج الضخم للسلع ذات القيمة المرتفعة، مثل السكّر والقهوة والقطن الخام والأرز والصباغ النيلي وغيرها من السلع، لضمان الأرباح الكبيرة التي يمكن أن توّفرها المساحات الواسعة. وكان المستعمرون قد جرّبوا استيراد المستأجرين من أوروبا كحلّ ذي نتائج محدودة للغاية وغير مرضية، لأنّ هؤلاء الخدم كانوا يستولون على الأراضي بعد مضي خمس سنوات (كما كانت تنصّ عقود خدمتهم) ويصبحون منتجين صغاراً مستقلّين.
فقط الاستيراد الضخم واستعباد الأسرى من غرب أفريقيا أثبت أنّه هو الحل الفعال لمشكلة العمالة. وتظهر الدراسات الحديثة أنّه بين عامي 1500 و1820 من بين كل 6 أشخاص عبروا الأطلسي هناك 5 منهم كانوا عبيداً أفارقة، ليبلغ عددهم الإجمالي 12 مليوناً. نسبة العبيد الأفارقة من اليد العاملة في القطاعات آنفة الذكر تراوحت بين 60% إلى 85% بحسب اختلاف القطاعات.
هذه العمالة الرخيصة كانت المساهم الرئيسيّ في ضمان الحصول على كلفة منخفضة لإنتاج السلع ذات القيمة المرتفعة ما ساعد في التعويض عن الأكلاف العالية للنقل عبر الأطلسي. كانت السلع تصل إلى الأسواق الأوروبيّة بأسعار تسمح بتسويقها للطبقتين الغنية والوسطى. بذلك، بدأ نموّ اقتصاد الأميركيتين يتسارع محفّزاً اتّساع السوق الأميركية وربط المناطق الأميركيّة ببعضها البعض، ما دفع نحو نشوء أسواق ثانوية جديدة للسلع الرئيسيّة التي تحتاج لها المجتمعات الآخذة بالنمو، وهذا بدوره فتح الباب أمام إنتاج المزيد من السلع بحركة تكامليّة اعتمدت مجدّداً على العبيد.
تطوّر سوق العمل في لبنان من يد عاملة ومؤسسات منتجة أخذ مساراً مشابهاً لما جرى في غرب أفريقيا قبل ستة قرون


هذا التقسيم للعمالة والتكامل الاقتصادي بين المناطق كان دافعاً رئيسيّاً في نشوء القفزة الصناعية في الشمال الشرقيّ للولايات المتحدة التي صنعت، مع الوقت، المسار الاقتصادي الذي حكم تطوّر الولايات المتحدة ومؤسّساتها، كما يقول إنيكوري.
وفي مقابل مشهد التطور التدريجي في الأميركيتين، وبالأخصّ في الولايات المتحدة، يرسم إنيكوري صورة قاتمة ومعاكسة لمسار تطور مناطق غرب أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. فدول ومدن السواحل الغربية للقارة كانت تشكّل بوابة التبادل بين المناطق ذات الموارد في الداخل من جهة وباقي السواحل الأفريقية والعالم من جهة أخرى. فمدن ساحل الذهب كانت تشكّل السوق الأساسي لتوريد السلع الطبيعيّة والمصنّعة من غرب ووسط أفريقيا، كالجلود والقطعان والذهب والعاج والفلفل والأقمشة القطنية، حتى قبل وصول التجار الأوروبيين إلى هذه السواحل. ومع وصول التجار الأوروبيين إلى سواحل غرب أفريقيا، توسعت شبكات التواصل والتجارة بين الغرب الأفريقي وباقي أفريقيا والعالم. وكان التبادل يتم عبر بضائع أو العملات المحليّة للدول بواسطة التجار المستوردين؛ المبادلة بالبضائع الأوروبيّة وعملات دول التجار وتلك التي مروا بها.
ولكن مع ظهور الحاجة إلى العمالة الرخيصة، ازداد الطلب على العبيد من تلك المنطقة، وحصلت عملية انزياح باتجاه تصدير العبيد. توقفت التجارة الأطلسية بالسلع الأفريقيّة، وتوقّفت عمليات إنتاجها وسلاسل التوريد التي ربطت الداخل الأفريقي في غرب القارة بسواحلها مع انتصاف القرن السابع عشر. وتحوّلت التجارة إلى استبدال العبيد بسلع وصناعات آسيوية وأوروبيّة، ما أعاق عمليات الإنتاج في غرب أفريقيا أكثر. وتحوّلت الكيانات والقبائل الضعيفة إلى أهداف للكيانات السياسية والقبائل الأقوى، بهدف استعبادها ومبادلتها بالسلع والصناعات.
يعتقد باتريك مانينغ في بحثه «معالم العبودية والتغّير الاجتماعي في أفريقيا» أنّ المجتمعات الأفريقيّة في غرب أفريقيا استفادت من تدفّق سلع رفعت مستوى حياة هذه المجتمعات، إلّا أن إنيكوري، يرى أنّ ما جرى كان عملية عكس مصير وتدمير تطوّر غرب القارة. فهذه المجتمعات تجرّدت من اليد العاملة الشابة والمتخصصة التي نُقلت إلى المستعمرات الأوروبيّة في القارة الجديدة لتبني المستعمرات وتطوّرها، وتدمّر عملية الإنتاج في غرب القارة السوداء عبر تدمير الجدوى الاقتصادية، حيث أصبحت التجارة بالعبيد أكثر ربحاً من التجارة بالسلع المحليّة.

لبنان الرفاهية
في سياق هذه العبودية، نجد أن تطوّر سوق العمل المحلية في لبنان من يد عاملة ومؤسسات منتجة، أخذت مساراً مشابهاً لما جرى في غرب أفريقيا قبل ستة قرون. في كتابه «المال والسياسة الاقتصادية للتعليم العالي في لبنان»، يشير شربل نحاس إلى أنّ اللبنانيين يجدون أنفسهم أمام معضلة غريبة؛ فالأسر الأقل فقراً هي الأسر التي يكون رأسها حاملاً لشهادة جامعية، وفي الوقت نفسه لدى الجامعيين أعلى نسب البطالة بين اللبنانيين. فالعائد على التعليم في لبنان منخفض نسبة للمقاييس العالمية، وهذا يعني أن مراكمة رأس المال البشري سيتأثر سلباً، وخصوصاً في ظلّ أسواق عمل أكثر إغراء بسبب ارتفاع الأجور التحفظية (أي الأجر الأدنى الذي يقبل به باحث عن عمل في لبنان). وهذا، بحسب نحاس، يشكّل انعكاساً للمستوى المتدني للاستثمار المنتج في القطاعات التي تتطلب يداً عاملة متخصّصة. هذه العملية التي يصفها غسان ديبة، في بحثه «الاقتصاد السياسي لإعادة الإعمار بعد الحرب في لبنان»، بالنكوص عن التصنيع (deindustrialization) التي صاحبت سياسات إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية.
إذاً، نحن أمام سياسات دفعت اليد العاملة اللبنانية المتخصّصة إلى الهجرة والبحث عن أسواق عمل جديدة، في عملية مكلفة جداً، فإضافة إلى تدمير سوق العمل التخصصيّ اللبناني، نجد أن كلفة التعليم في لبنان تصل إلى 13% من الناتج المحليّ الإجمالي (بحسب دراسة نحاس المنشورة عام 2007) وهي كلفة باهظة جداً لا تعود بالفائدة على الاقتصاد إلّا بتحويلات تساوي 17% من الناتج المحليّ الإجمالي، بحسب دراسة عن البطالة لوزارة العمل أجريت في عام 2012.

المحاسبة
بينما كان يجب أن نرى اليوم نتائج ثلاثة عقود من الاستثمار في رأس المال البشري، اقتصاداً متخصّصاً ومنتجاً، نركّز على تشريح الحالة السيئة والكارثة التي حلّت باليد العاملة التي صدّرناها بعدما استهلك النظام الاقتصادي والمالي اللبناني جنى أعمارها في تمويل استهلاك اللبنانيين المقيمين. كذلك يدفع هذا الأمر لاستعادة حديث «الرشوة الكبرى» التي قُدّمت إلى لبنانيين إثر انتهاء الحرب الأهلية، وهي القدرة على الاستهاك على مستوى عال يفوق مستوى الاستهلاك في الدول المحيطة، من دون أن نصل إلى مستويات إنتاجهم حتى. وبالإضافة إلى المستوى الفردي من الخسارة التي حلّت بكل مغترب، يجب أن نشير إلى المستوى الجماعيّ للخسارة التي حلّت بالمجتمع اللبناني، الذي دفع ثمناً غالياً لتعليم أبنائه من دون أن ينعكس هذا الاستثمار تطويراً للاقتصاد الكليّ اللبنانيّ، وهي الخسارة الأكبر التي سندفع ثمنها على مدى أجيال قادمة.
لا بدّ من الإشارة إلى أن السياسات التي أوصلتنا إلى حالنا الراهنة لها آباء سياسيون وإداريون، بعضهم لا يزال موجوداً في السلطة ومحيطها إلى اليوم. يتوجب مراجعة هذه السياسات وصولاً إلى إخضاع صنّاعها ومتبنّيها للمحاكمة السياسية العلنية، لأننا اليوم نواجه مرحلة هدّامة تستوجب إعادة البناء بعدها. يجب أن نبني بشكل صحيح.
كثيرون امتدحوا الاستثمار برأس المال البشري الذي أتت به سياسات حكومات الرئيس رفيق الحريري، إلا أن هؤلاء يُغفلون ما فرضته هذه السياسات على اللبنانيين لجهة استثمار أثمان باهظة بأبنائهم مقابل مردود بخس على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع والاقتصاد حتى أصبحنا كتلك المدن في سواحل غرب أفريقيا نستهلك سلعاً أجنبية لنعزّز رفاهيتنا على حساب من أرسلناهم إلى الخارج ومستقبل أبناء من بقوا في الوطن.