«حرب أغنياء وقودها فقراء»
مقولة في ولايات الجنوب الأميركيّ لتوصيف الحرب الأهليّة الأميركيّة


يمرّ لبنان في مرحلة شديدة الحساسية بعد الفشل الواضح للنموذج الاقتصادي الذي أرساه الرئيس الراحل رفيق الحريري. هذا الفشل يضع لبنان أمام مجموعة خيارات مصيرية تحدّد مستقبله على المدى البعيد، وليس القرار الذي اتّخذته الحكومة يوم السبت الماضي، بالتوقف عن دفع استحقاقات سندات الـ«يوروبوندز»، إلّا أوّلها. وكما أوضح رئيس الحكومة حسان دياب، في كلمته المتلفزة، فإنّ هذا القرار يستتبع البحث في النموذج الاقتصادي اللبنانيّ، وآليات العبور نحو نموذج آخر. انطلاقاً من ذلك، نقف أمام يوم مصيريّ، يشكّل فيه التوقف عن سداد مفترقاً مفصليّاً في تاريخ الكيان اللبنانيّ قد ينقل البلاد من نموذج نَسَجَ الطبقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما نعرفها اليوم، إلى نموذج يُعيد تشكيلها.
في دراسة النماذج الاقتصاديّة وجدواها، من المفيد النظر إلى ما هو أبعد من الموازين الماليّة والنقدية على الاقتصاد، وأخذ التبعات الاجتماعيّة والسياسيّة في الاعتبار. من أوضح الحالات التاريخيّة عن دور الاقتصاد في تشكيل المجتمعات والتحكّم بمسارات تقدّمها وتطوّرها هي الحرب الأهليّة الأميركية وأسباب اشتعالها. نيرانها شكّلت إطار الولايات المتّحدة الحديثة وجعلتها الأولى اقتصادياً في نهاية القرن التاسع عشر، بحسب جِيْمس مكفيرسون في مقالته البحثيّة بعنوان «من الحرب، أمّة جديدة». ويشير أيضاً في كتابه «البلاء العظيم: وجهات نظر حول الحرب الأهلية»، إلى أن المؤرّخين ينقسمون حول هذه الحرب (1861 - 1865) بين عدّة فرق، أهمّها اثنان؛ الأوّل يرى أن الأسباب الرئيسيّة للحرب تتمحور حول الفروقات القيَميّة بين مجتمع شماليّ يرى في الحريّة قيمة مطلقة يضمنها الدستور الأميركيّ، وآخر جنوبيّ يرى أن الحريّة مشروطة بانتماء عرقيّ. بينما الفريق الثاني، ورائده تشارلز بيرد، يرى أنّ الحرب سببُها صراع بين نموذجين اقتصاديين بنسيج اجتماعي مختلف بين الشمال والجنوب، أي بين الصناعة والزراعة التي تعتمد على العبيد. يغلب على المخيلة العامّة، الأميركيّة وغيرها، اعتبار أن الحرب اندلعت بسبب الفروقات القيميّة بين الشمال والجنوب الأميركيَّيْن.

زراعة VS صناعة
يسهل تصوّر «الفروقات القيميّة» على أنها السبب الرئيسيّ للحرب بعدما بدأت الولايات الشماليّة تتخلّى عن العبوديّة منذ ما قبل الاستقلال بدفع من البروتستنتيين الطهرانيين والوجود المؤثّر لطائفة «الكْوِيكرز» في هذه الولايات، كما يوضح شِيْن ماونتجوي في كتابه «الحرب الأهليّة: أمّة منقسمة». ويضيف أنّه لغاية مطلع العقد الثاني من القرن التاسع عشر لم يتبلور هذا التوجّه الاجتماعي في الحلبة السياسيّة داخل هذه الولايات، إلّا أن ممارسة اقتناء العبيد في هذه الولايات بدأت تنخفض تدريجاً منذ ما قبل الاستقلال. كذلك أدّى اختراع «المحلاج» إلى خفض كلفة زراعة القطن بشكل كبير، ما جعلها الزراعة الأكثر ربحيّة في الجنوب، ولا سيما بعد ضمور زراعة التبغ بسبب تدهور وضع التربة. وفيما كانت ولايات الجنوب الشرقي تستأثر بزراعة التبغ، تمدّدت زراعة القطن نحو ولايات الجنوب الغربيّ وتكرّس نظام المزارع المرتكزة إلى العبيد بثقافة الاقتناء والتشغيل. وفي ظلّ اختراع المحلاج وغياب المنافسة من الشمال المناهض للعبودية، أصبحت محاصيل القطن في ولايات الجنوب منافسة عالمياً لتصبح الولايات المتّحدة بحلول عام 1840 منتجة لما نسبته 75% من منتجات القطن العالميّة.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

بسبب إنتاج القطن ازدهر الجنوب، فيما انتقلت ولايات الشمال الشرقيّ إلى التصنيع تماهياً مع الثورة الصناعيّة المتفجّرة في إنكلترا قبل ذلك ببضع سنوات. عندها بدأ الانقسام الاقتصاديّ يظهر وبرزت الفوارق الاجتماعيّة والقيميّة. ولايات الشمال بدأت تتحوّل إلى مدن متروبوليتية مع تدفّق العمّال والمهاجرين إليها، وفي الجنوب حافظت الولايات على طابعها الريفي وكانت مدنها الكبرى أقلّ تطوّراً من مثيلاتها الشمالية، وأصبح سكانها أكثر محافظة، وبات يمكن التمييز بشكل واضح بين أسلوب حياة الشمال والجنوب.
وبحسب ماونتجوي، فإنه مع ازدياد الصناعات، باشرت الدولة الفيدراليّة بفرض السياسات الحمائيّة عبر الرسوم الجمركيّة على البضائع المصنّعة المستوردة من أوروبا ما أزعج سكان الولايات الجنوبيّة غير الصناعيّة إذ كانوا يدفعون ثمن استهلاكهم لهذه البضائع مضاعفاً. في المقابل كان سكّان الولايات الشماليّة يستهلكون ما تنتجه مصانع ولاياتهم. ممثلو الولايات الجنوبيّة في المجلسَين التشريعيَّين، انتقدوا صناعيي الشمال من خلال القول إنهم يتموّلون عبر فاتورة استهلاك الولايات الجنوبية.

الصراع على التوازن
سريعاً انتقلت عدوى الفصل بين الشمال والجنوب إلى الحياة السياسية. يلفت كينيث ستامب في كتابه «أمّة على حافّة الهاوية»، إلى أن الطرفَين باتا يملكان قدرة التعطيل في وجه الآخر، وصار التوازن بينهما سيّد الحياة التشريعية. أزمة إقليم ميسوري عبّرت عن هذا الشرخ في النموذج الاقتصادي. كانت هذه الولاية أولى إفرازات التوسّع الأميركيّ غرباً في العقدَين الأولين من القرن التاسع عشر. كانت إقليماً كباقي الأراضي التي تستعمر حديثاً، أي إنها لم تكن تتمتّع بالحقوق السياسية وأبرزها حق التمثيل في المجلسَين التشريعين. وعندما طلبت ميسوري تحويلها إلى الولاية الـ23 كانت الولايات الـ22 مقسومة مناصفة بين ولايات تشرّع العبوديّة وولايات تمنعها. وميسوري كانت تعتمد جزئياً على العبيد ما يعني أنها كانت تجيز هذه الممارسات، فبرز خوف شماليّ من أن ينتقل الثقل السياسي في الاتّحاد لمصلحة الجنوب. اقترحت الولايات الشمالية قبول انضمامها إلى الاتحاد كولاية تشرّع العبودية بشرط الامتناع عن استقدام عبيد جدد وبهدف تحويلها تدريجاً إلى ولاية تمنع العبودية، لكنّ الجنوبيين رفضوا الاقتراح فاستخدمت الولايات الشمالية قدرتها التعطيلية في انضمام ميسوري وبادلهم الجنوبيون الأمر بتعطيل إقليم ماين. عولجت المسألة بتسوية تحدّد خط عرض 36° 30 كحدّ فاصل بين الولايات التي تسمح بالعبوديّة وتلك التي تمنعها.
لم تصمد هذه التسوية طويلاً أمام التوسّع المطّرد غرباً وضمّ مجموعة أقاليم تشرّع العبودية مثل تكساس وفلوريدا ولويزيانا وأركنساس، فضلاً عن أن الجنوبيين استشرفوا فرصة تحويل أقاليم جديدة في الجنوب الغربي إلى ولايات تعمل في إطار نموذج العبودية للاستفادة منها في زراعات ومناجم كاليفورنيا على سبيل المثال. هذه الرغبة أثارت الرعب في الولايات الشمالية خشية تمدّد القوّة السياسيّة لولايات الجنوب.
على الطبقات المتوسطة والفقيرة أن تدعم تغيير النموذج الذي ينصفها ويعيد ترميم الاقتصاد المنتج ويعيد تشكيل أنماط الاستهلاك بما يتناسب مع القدرات الإنتاجية المحلية


نشأ هذا الخوف من طبيعة النظام السياسيّ؛ ففيما اتُّفق على أن الولاية كيان يفرض قوانينه ونمط حياة السكان، فإنّ الانتخابات الرئاسيّة كانت وما زالت تتمّ بشكل غير مباشر عن طريق انتخاب مندوبين للولايات يصوّتون لاحقاً للرئيس، وبقي المشرّع الأوّل على المستوى الفيدراليّ هو المجلس بغرفتَيه: النواب والشيوخ. هذه التركيبة بدأت بخلافات في النصف الثاني من العقد السابق لبداية الحرب حول تشريعات وقوانين ضرائبية وجمركية بين الشمال الصناعي غير المتضرّر من الرسوم الجمركية والجنوب الزراعي الذي تحوّل إلى مركز تجاري بسبب زراعة القطن وتوريده إلى أوروبا. كذلك كانت هناك خلافات حول إنفاق الأموال الفيدرالية على مشاريع خطوط سكك الحديد والتلغراف التي دعمها الشمال مقابل ادّعاء الجنوب بأن الأموال الفيدرالية تصبّ في مصلحة الشمال حصراً. ثم تطوّر الأمر إلى تهديد جنوبي بالانفصال ومطالبة بعدم شرعيّة فرض السلطات الفيدراليّة للقوانين الفيدراليّة على الولايات. وفي 20 كانون الأول 1860 بعد أسابيع على انتخاب أبراهام لينكولن الجمهوريّ رئيساً أعلنت سلطات ولاية كارولاينا الجنوبيّة شروعها بالانفصال عن الاتّحاد، وانفجرت الحرب الأهلية الأميركية التي نشأ على أنقاضها الحزب الجمهوريّ الداعي إلى إلغاء العبوديّة، فيما انقسم الشمال على نفسه بين إلغاء العبودية وتبنّيها. المحرّك الأساسي لهذه الحرب هو الصراع بين نموذج حمائيّ يريد تطوير الصناعة، وآخر زراعيّ يعتمد على العبيد.

الانقسام اللبناني
في لبنان انهار النموذج الاقتصادي القائم منذ 1992وباتت خيارات الأطراف المختلفة واضحة وسط انقسام حادّ بين من يريد إحياء النموذج المنهار وبين من يظنّ أن اللحظة مناسبة للانتقال إلى نموذج جديد. أصحاب الخيار الأول عبّروا عن أنفسهم بشكل واضح في الأسابيع الماضية عبر هجمات استباقية على قرار التوقف عن السداد، أو ممارسة ألاعيب مالية عبر بيع السندات إلى جهات أجنبية والتلاعب بسعر صرف الليرة في الأسواق الموازية. في المقابل، هناك فريق ثانٍ يبدو أقل تماسكاً ورؤيته غير واضحة وأطرافه منقسمة بين بعضها البعض إنما يجمعها اتفاق على أنّ النموذج السابق قد مات ولا مجال لإحيائه إلّا عبر الارتهان لصندوق النقد الدولي. في ظلّ رفض واضح وعلنيّ من هذا الفريق لشروط صندوق النقد يصبح الخيار الوحيد العبور نحو نموذج جديد.
لكلٍّ من الفريقَين مواضع قوّته، سواء داخل مؤسّسات الدولة والقطاعات الاقتصادية المهيمنة وخارجها في الشارع. الأحداث الأخيرة من التلاعب بسندات اليوروبوندز وسعر الصرف مقابل قرار المدّعي العام الماليّ الحجز على أصول المصارف، ليست سوى دليل على قدرة كل فريق، وهي ليست كل أدوات القوّة التي يمكنهما اللجوء إليها، خصوصاً أن القرارات تعدّ مصيرية بالنسبة إليهما.
في ظلّ هذا التشبّث في المواقف قد تتحوّل آليات العمل السياسي نحو العنف. لكن أيّ نوع من العنف وأيّ أدوات وأيّ ساحات. ثمة أسئلة كثيرة يمكن استخراجها من نسيج اجتماعي ــ سياسي طبقاته ترتبط بين القاعدة والرأس وفق عوامل جغرافية ودينية ومصالح مالية وحتى وفق بنى تنظيمية عسكرية. نحن نقف اليوم أمام بيئة متفجّرة والصراع على قرارات ستحدّد الشكل الاقتصادي والاجتماعي للبلاد لعقود آتية. من المهم ألّا يقدّم الفقراء أنفسهم وقوداً في خدمة أغنياء استفادوا من مقدّراتهم على مدى العقود الثلاثة الماضية.
في هذا اليوم التاريخيّ، يوم التوقف عن السداد، على الطبقات المتوسطة والفقيرة أن تدعم تغيير النموذج الذي ينصفها ويعيد ترميم الاقتصاد المنتج ويعيد تشكيل أنماط الاستهلاك بما يتناسب مع القدرات الإنتاجية المحلية. لا يجب الغرق في وهم التهويل بأن القرار كارثي وأنّ الانضمام إلى مسعى عرقلته لأسباب عقائديّة وقيميّة توصّف أسلوب حياة وهميّاً. ببساطة، هذا المسعى قد تكون نهايته العنف الذي سيستهلك الفقراء، بينما سيفرّ الذين راكموا ثرواتهم من نموذج مات مع أول إشارة للاضطراب. فلتكن ثرواتهم وقود الحل، لا أرواح الفقراء في دوامات عنف يريدونها للدفاع حتى الرمق الأخير عن مكتسباتهم.