ما رشح عن احتمال لجوء الحكومة إلى صندوق النقد الدولي لطلب برنامج مساعدة لم يكن مفاجئاً، في ظلّ الحاجة الملحّة إلى العملات الأجنبية وانقسام سياسيّ بين طرفين؛ واحد يؤيّد اللجوء إلى برنامج مع صندوق النقد الدوليّ لاقتراض مبالغ بالعملات الأجنبية تُستعمل للحفاظ على نمط الحياة السابق، وهو بالمناسبة صاحب الصوت الأكثر قدرة على تجنيد الإعلام والمحلّلين والأوسع انتشاراً على امتداد كلّ الطيف السياسيّ اللبناني باختلاف تحالفاته. وطرف ثانٍ يرفض اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لكن أدواته محدودة بـ«حقّ الفيتو» الذي يرفعه ضدّ ما يمسّ بالفقراء أو موارد الدولة الأساسيّة. بإمكاننا، منذ الآن، التوقّع أن هذا الطلب سيتحوّل إلى مادّة تفجير للحياة السياسيّة شبه الراكدة منذ تأليف الحكومة، لأن أي برنامج يوافق عليه أو يفرضه صندوق النقد الدوليّ، سيمسّ بالفقراء وبأصول وموارد الدولة الأساسيّة. أصلاً، برامج صندوق النقد تكاد تكون نسخاً كربونيّة عن بعضها ومنبتها الأساسيّ هو مجموعة سياسات نيوليبراليّة تُعرف بـ«إجماع واشنطن».
أنجل بوليغان ــ المكسيك

توافق العقل والتاريخ!
في عام 1990، ألّف الاقتصادي البريطاني جون ويليامسون، كتاباً بعنوان «التكيّف الاقتصادي في أميركا اللاتينية». تضمن الكتاب مساهمات من مؤتمر عقده «معهد الاقتصاد الدولي» ومقره واشنطن في عام 1989. كذلك تضمن مجموعة من السياسات - الوصفات، التي برأي ويليامسون، تجسّد «جوهر الحكمة المشترك الذي اعتنقه جميع الاقتصاديين الجادين». أُطلق على هذه الوصفات اسم «إجماع واشنطن»، كونها المدينة التي تقع فيها مقرات المؤسّسات المالية الدولية الرئيسية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ووزارة الخزانة الأميركية، فضلاً عن أن جزءاً كبيراً من خطّة وزير الخزانة الأميركية في حينه، نيكولا برايدي، كانت في صلب «إجماع واشنطن» وقد اعتمدت كمسودة خطط صندوق النقد الدولي في التسعينيات.
يمكن اختصار العناوين الأساسيّة لـ «إجماع واشنطن» الأصليّ بما يلي:
• الانضباط المالي.
• إعادة توجيه أولويات الإنفاق العام نحو القطاعات ذات العوائد الاقتصادية العالية، والتي يمكن أن تحسّن الدخل عبر إعادة التوزيع، من خلال تأمين الرعاية الصحية الأولية والتعليم الابتدائي والبنية التحتية.
• الإصلاح الضريبي (لخفض المعدلات الهامشية وتوسيع القاعدة الضريبية).
• تحرير أسعار الفائدة.
• تحرير سعر صرف.
• تحرير التجارة.
• تحرير تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
• الخصخصة.
• رفع القيود (بمعنى إزالة الحواجز أمام الدخول والخروج الأسواق والخدمات).
• تأمين حقوق الملكية.
خلص ويليامسون إلى تثبيت الطبيعة التوافقية لهذه المبادئ مع العقل ومجرى التاريخ، مشيراً إلى أن مفتاح التنمية الاقتصادية الناجحة هو محاكاة السياسات الموجّهة نحو السوق والسياسات المفتوحة نسبياً التي تُبشّر بها الدول المتقدّمة. كذلك أوضح أن الفوائد العالمية لهذه السياسات أُثبتت من خلال تجربة التنمية الناجحة في بلدان شرق آسيا. وفي مراجعته للوثيقة الأصلية، اعتبر ويليامسون أن هناك إشكاليات في التنمية الاقتصادية أهمّها: الرغبة في الحفاظ على ضوابط رأس المال، سياسات الدخل وتجميد الأجور والأسعار، حصّة الضرائب من الناتج المحلي الإجمالي، دور السياسة الصناعية في التنمية الاقتصادية.
هذه القضايا بمجملها، وخصوصاً ضوابط رأس المال والسياسة الصناعية، هي جزء من برامج التنمية التي تقدّم غالباً كبدائل للنيوليبرالية، لكن كيف تبنّى صندوق النقد الدوليّ هذه السياسات كأساس لبناء برامجه عليها؟
بحسب فرانشيسكو بانيتزا في كتابه «أميركا اللاتينية المعاصرة: التنمية والديمقراطية ما بعد إجماع واشنطن»، فإن صندوق النقد والبنك الدوليين هما مؤسستان عامتان أنشئتا للتدخل حيث تفشل الأسواق. وبحكم طبيعة تفويضه، فمن المتوقع أن يتعامل صندوق النقد الدولي مع المشاكل الاقتصادية قصيرة الأمد بدلاً من التعامل مع التغيّرات الاقتصادية الطويلة الأمد. وعلى هذا النحو، لم يأخذ الصندوق في الاعتبار قضايا التنمية الاقتصادية، أو حتى التخفيف من حدّة الفقر، على أقلّ تقدير.
ورغم أن دور صندوق النقد الدولي بدأ يتغيّر بعد تحرير أسعار العملات من معيار الذهب في أوائل السبعينيات، فإن العامل المحفّز للتغيير الجذري في دوره كان أزمة الديون المكسيكية عام 1982 التي مثلّت تهديداً منهجياً للمصارف التجارية الدوليّة المعرّضة للخطر بشدّة في أميركا اللاتينية، وتهديداً مزعزعاً لاستقرار النظام الاقتصادي والسياسي في المنطقة.
صندوق النقد الدولي يعمل بوصفات «إجماع واشنطن» وما بعده التي تخطّط لإبقاء الدولة والمجتمع في خدمة السوق وقيم السوق


في تلك الفترة كان للصندوق دور مركزي في إدارة وتنسيق استجابة الأسواق للأزمة، إلا أنه غيّر أسلوب تدخله من «مساعدة البلدان التي تعاني من اختلال ميزان المدفوعات على المدى القصير»، إلى «صنع سياسات أكثر شمولاً في التنمية الاقتصادية». لكن التحوّل تطوّر في الثمانينيات بعدما اتّضحت أكثر أوجه قصور نهجه التقليدي لحلّ الأزمات المالية، فأصبح النموّ الاقتصادي أولوية للصندوق والبنك الدوليين.

ما بعد «إجماع واشنطن»
نجاح صندوق النقد الدولي في التسعينيات كان محدوداً، وبدا لفترة أن نتائج تبنّي مبادئ «إجماع واشنطن» لم تكُن إيجابيّة ما خلق معارضة سياسيّة واجتماعيّة، وفقدت الأنظمة التي تبنّتها الشرعيّة التمثيليّة. فتطوّرت سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى مرحلة «ما بعد إجماع واشنطن».
في كتابه «أوهام التنمية: البنك الدولي وما بعد إجماع واشنطن في جنوب شرق آسيا، يلفت توبي كارول إلى مسار تطوّر النيوليبراليّة الاجتماعيّة - المؤسساتيّة. فمع سعي إجماع واشنطن إلى إطلاق العنان لقوى السوق والكشف عن فرص تراكم جديدة لرأس المال من خلال سياسات على شكل وصفات بسيطة، تُجسد النيوليبرالية الاجتماعية - المؤسّساتية، اعترافاً بأن الإصلاح الاقتصادي الأساسي وحده غير كافٍ (لا يمكن رؤية الاقتصاد من دون المجتمع والدولة)، وأنّ إنشاء أسواق ليبرالية هو في الأساس مشروع سياسي.
نتيجة لذلك، تتضمن النيوليبرالية الاجتماعية - المؤسّساتية أجندة إصلاح السوق، للدولة والمجتمع، بالإضافة إلى الأساليب والآليات التي جرى تطويرها حديثاً لضمان تطبيق هذه الأجندة والحفاظ على استمراريتها. وهذه المحاولة لإعادة تنظيم الدولة والمؤسسات الأخرى المدمجة اجتماعياً (بما في ذلك الأسرة والمجتمع المدني)، هي ممارسة دلت على تحول أساسيّ في العلاقة بين الدولة والمواطن يكون فيها المجتمع والدولة بخدمة السوق وقيم السوق. إجماع واشنطن، في هذا الإطار، مثّل شكلاً جديداً من أشكال إدارة التنمية النيوليبرالية، التي تتخذ نهجاً مختلفاً نوعياً، لترسيخ مجتمع السوق والحفاظ عليه.

الكل في خدمة السوق
ويضيف كارول، أن الهدف الأساسي لحوكمة التنمية الجديدة، هو مواصلة مشروع «الطبقة الشمالية/ الغربية»، أي نقل قيم السوق إلى المجتمع والحياة الاجتماعية بطرق تتحايل على المعارضة السياسية والاجتماعية لإجماع واشنطن وتداعيات فقدان الأنظمة للشرعية التمثيلية. هذا الشكل من الحكم، أي النيوليبرالية الاجتماعية - المؤسساتية، تم تنقيحه ونشره بشكل متزايد من قِبل المؤسّسات الدوليّة (مع تبنّي عناصرها المختلفة من قبل وكالات التنمية الثنائية والمنظمات غير الحكومية والحكومات على حدٍّ سواء).
ترى النيوليبرالية الاجتماعية - المؤسساتية، أن الدولة هي مجموعة مؤسسات وظيفتها خدمة السوق التنافسية «ذات الإدارة الجيدة». كما تنصّ النيوليبرالية الاجتماعية - المؤسساتية على وظائف محددة للغاية تؤدّيها الدولة تتعلق بالحماية من فشل السوق وتداعياته. ومع ذلك، لا تمنح النيوليبرالية الاجتماعية - المؤسساتية، الدولة، أي مجال للمناورة أو الانغماس بشكل جوهري في إعادة توزيع الثروة أو تقديم الخدمة (من دون منافسة) لتعويض عدم المساواة الاجتماعية. كما أنها لا تفسح المجال أمام المواطنين للمطالبة بحلول غير سوقية لقضايا توزيع الثروة. بدلاً من ذلك، تتعامل النيوليبرالية الاجتماعية - المؤسساتية مع الاقتصادات الوطنية على أنها كيانات «لا تاريخية» تطلب فقط مساعدة تكنوقراطية لإدارة المصالح المتعارضة لرأس المال والعمال بشكل أفضل، والمساعدة على إنشاء سوق مثالية كاملة مع مواطني السوق.
المؤسّسات الدوليّة تشجع سياسات غير ليبرالية بهدف الترويج للاقتصاد الليبرالي. فهذه التي أحبطتها سياسات التنمية السابقة، استخدمت تقنيات سياسية مثل المناهج التشاركية، وبرامج المشاريع الجديدة، في محاولة لتأسيس مجتمعات السوق. وظهرت النتيجة نفسها في الممارسات العملية عبر استخدام مزيج من الخيار المشترك، وبناء الإجماع، وتهميش المعارضة، والحفاظ على احتكار ما يشكل «المعرفة» التنموية... ما ضيّق وقيّد السياسة لصالح إنشاء مجتمع السوق.

لبنان: أيّ مسار بأيّ كلفة؟
هكذا بات واضحاً أيّ محتوى للبرنامج الذي سيقدّمه صندوق النقد الدولي للبنان. وهو محتوى مستنسخ من برامج سابقة. سيتضمّن البرنامج، حكماً، شروطاً تحاكي «إجماع واشنطن» في مقابل جمعيّات وأدوات تحاكي «ما بعد إجماع واشنطن». الانقسام حوله قائم منذ اليوم بين أطراف تتغنّى ببرنامج «سينقذ النموذج وأسلوب حياة اللبنانيين»، وأطراف تعترض عليه كونه يسعى لتفكيك مقوّمات الدولة ومناعتها السياسية أو ما تبقى منها. عند هذا الحد لن يكون النقاش مموّهاً أو لطيفاً، بل قد ينزلق، خصوصاً أنّ الحلول الداخليّة والوسائل الخارجية خارج صندوق النقد الدولي متاحة. كما ورد سابقاً، فإنّ ما اعتبره ويليامسون جدلياً، لجهة ضوابط رأس المال والسياسة الصناعية، يمكن أن يشكّل العامود الفقري لبرامج تنمية بديلة عن النموذج النيوليبراليّ. هذه الحكومة ليست تقليديّة بالمعنى اللبنانيّ، وهي تجنّبت مشاريع قرارات «تقليديّة» كانت تهدف إلى ترسيخ الواقع القديم، وفيها وزراء وحولها مستشارون يمثّلون شياطين الماضي الذين يقاتلون للبقاء في حاضرنا ويريدون أن يتجدّدوا ليحكموا مستقبلنا.