إذا كان انتشار الأوبئة هو بالشكل نفسه في كل البلدان فالسؤال هو كيف سينتهي الوباء. معدلات البداية وصولاً إلى الذروة تتراوح بين 40 و50 يوماً. حتى الآن فإن العديد من البلدان لم تقترب بعد من مرحلة الذروة ولا ضمانة بأن تحصل الذروة في الوقت نفسه إذا لم تكن آليات التقصّي والاحتواء متماثلة (الفحوصات والعزل الذاتي والحجر الصحي والإغلاق). لكن في نهاية المطاف، ستكون هناك ذروة في كل مكان وسيتلاشى الوباء – إلا إذا ظهر في السنة المقبلة، ربما.
داريو كاستيليخوس ــ المكسيك

ما بات واضحاً أن عمليات الإغلاق في العديد من الاقتصادات الكبرى، سبّبت انخفاضاً كبيراً في الإنتاج والاستثمار والعمالة والدخل. إغلاق الأعمال التجارية يمكن أن يؤدي إلى خفض بنسبة 15% أو أكثر في مستويات الإنتاج في الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات الناشئة الرئيسية. في الاقتصادات الوسطى سينخفض الإنتاج 25%... «لكل شهر من الاحتواء، ستكون هناك خسارة نقطتين مئويتين في نموّ الناتج المحلي الإجمالي السنوي».
في كتابي «الكساد الطويل» وجدت أن الخسارة في الناتج المحلي الإجمالي منذ بدء الركود الكبير في 2008 لغاية 18 شهراً حتى منتصف 2009، تجاوز 6% في الاقتصادات الرئيسية. انخفض الناتج الإجمالي العالمي الحقيقي بنحو 3.5% خلال تلك الفترة، بينما لم تنكمش اقتصادات الأسواق الناشئة بسبب مواصلة الصين توسعها. ومع هذا الوباء، إذا أغلقت الاقتصادات الرئيسية لشهرين وربما أكثر، فمن المرجح أن ينكمش الناتج الإجمالي العالمي في 2020 أكثر من الكساد العظيم.
بالطبع، الأمل أن يكون أمد الإغلاق قصيراً. الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية غوريا قال: «لا نعرف كم سيستغرق إصلاح البطالة وإغلاق الملايين من الشركات الصغيرة. لكن نتمنى الانتعاش السريع». من الواضح أن ما قاله الرئيس دونالد ترامب عن إمكان عودة أميركا إلى العمل بحلول عيد الفصح الأحد ليس واقعياً.
على أمل ألا تطول فترة الإغلاق في ظلّ غياب أي خيار آخر لمكافحة الوباء، ألقت الحكومات الرأسمالية قذارتها على اقتصاداتها. كانت الأولوية الأولى إنقاذ الرساميل وخصوصاً الشركات الكبيرة. لذا خفضت المصارف المركزية أسعار الفوائد إلى الصفر أو أقل، معلنة حزمة من التسهيلات الائتمانية وبرامج شراء السندات أوسع من عمليات الإنقاذ وإجراءات التيسير الكميّ التي جرت في السنوات العشر الأخيرة. كذلك قدمت الحكومات ضمانات للقروض والمنح للشركات بمبالغ غير مسبوقة.
عالمياً، وضمن حساباتي، فإن حزم «التحفيز» المالي تساوي 4% من الناتج المحلي الإجمالي و5% من الناتج المحلّي الإجمالي على شكل ضمانات ائتمان وقروض للقطاع الرأسمالي. في الركود الكبير، بلغ مجموع عمليات الإنقاذ المالي 2% من الناتج الإجمالي العالمي.
ثلثا حزمة الـ2 تريليون دولار التي وافق عليها الكونغرس الأميركي عبارة عن مساعدات نقدية وقروض للشركات الكبيرة والصغيرة قد لا يتم سدادها، مقابل الثلث فقط لمساعدة ملايين العمال والعاملين لحسابهم الخاص للبقاء على قيد الحياة مع المساعدات النقدية والتأجيلات الضريبية.
حزم الدعم تكرّرت في المملكة المتحدة وأوروبا: أولاً، إنقاذ الأعمال الرأسمالية؛ وثانياً، منع الناس من العمل. من المتوقع أن تكون مدفوعات العمال المصروفين والعاملين لحسابهم الخاص جاهزة لمدة شهرين فقط، وغالباً لن يتلقى الناس أي أموال نقدية لأسابيع، إن لم يكن لأشهر. لذا فإن هذه الإجراءات لا تقدّم الكثير من الدعم الكافي لملايين المحجورين أو الذين صرفوا من أعمالهم.
من السذاجة، إن لم يكن جهلاً، أن يثني الاقتصاديون الفائزون بجائزة نوبل مثل جوزيف ستيغليتز أو كريس بيساريدس أو آدم بوسين، على خطط كتلك التي وضعتها المملكة المتحدة لمجرد أنها «أكثر سخاء» من تلك الموجودة في الولايات المتحدة. «إن المملكة المتحدة تستحق الثناء لأنها أوقفت تقشّفها وأصبحت طموحة جداً ومتماسكة» يقول بوزن الذي كان صانع سياسات في عصر الأزمة المالية في بنك إنكلترا. «لائحة الأمنيات لجهة التصميم والحجم والمحتوى والتنسيق - كل شيء رائع». ولخّص لدود الكينزية، البريطاني ويل هوتون الحالة المزاجية: «لقد تم تجاوز روبيكون. أعيدت الكينزية إلى مكانها الصحيح في الحياة العامة البريطانية». انضم حتى المحافظون السابقون إلى هذه الجوقة بما في ذلك المستشار البريطاني السابق للتقشف، جورج أوزبورن.
الأموال التي تحوّل للعاملين ضئيلة مقارنةً بما تحصل عليه الأعمال التجارية. فعلى سبيل المثال، تقدّم حزمة المملكة المتحدة 80% من أجور الموظفين والعاملين لحسابهم الخاص، إلّا أن هذه النسب لا تتجاوز إعانات البطالة المعتادة التي تقدمها العديد من الحكومات الأوروبية. هذه الإعانات كانت منخفضة في المملكة والآن يجري رفعها إلى المتوسط الأوروبي لبضعة أشهر فقط. حتى ذلك الحين هناك الملايين الذين لن يتأهلوا.
أكثر من ذلك، إن أيّاً من هذه التدابير ستتيح تجنب الركود، بل هي غير كافية لاستعادة النموّ والعمالة في معظم الاقتصادات الرأسمالية خلال العام المقبل. هناك احتمال كبير بأن هذا الركود الوبائي لن يكون له انتعاش على شكل (V) كما تشير التوقعات. يرجح أن يكون التعافي على شكل حرف U (أي ركود يستمر لمدّة عام أو أكثر). وهناك خطر حدوث انتعاش بطيء للغاية، يشبه إلى حدّ كبير شكل حرف (L)، كما يظهر في الصين حتى الآن.
إن الاقتصادات الأساسية ليست متأكّدة مما يجب القيام به. وجهة نظر الكينزية يقدّمها لورد سكيدلسكي، كاتب سيرة كينز. أشار إلى أن عمليات الإغلاق كانت عكس المشكلة الكينزية النموذجية المتمثّلة في «نقص الطلب». في الواقع، هي مشكلة «نقص العرض» بعدما توقف معظم العمال المنتجين عن العمل. لكن سكيدلسكي يعتقد أنها ليست «صدمة العرض» بل مشكلة «الطلب الزائد». لكن «الطلب الزائد» هو مرآة «العرض النادر». والسؤال هو من أين نبدأ: الأكيد أن الأمر يبدأ بخسارة الإنتاج والقيمة، وليس بـ«الطلب الزائد»؟
يخبرنا سكيدلسكي أن «الركود يحدث عادة بسبب فشل مصرفي أو انهيار الثقة بالأعمال. الإنتاج يتوقف، ويصرف العمال، وتنخفض قوة الإنفاق وينتشر الركود من خلال انخفاض مضاعف للإنفاق. ينخفض العرض والطلب معاً حتى يستقرّ الاقتصاد عند مستوى أدنى. في ظل هذه الظروف، يقول كينز إنه يجب زيادة الإنفاق الحكومي لتعويض انخفاض الإنفاق الخاص».
أنا أعتبر أن الركود قد «ينشأ» بسبب فشل مصرفي أو «انهيار في الثقة في الأعمال»، إلا أن هذه المحفزات ليست السبب الأساسي لتكرار الأزمات في الرأسمالية. لماذا لا يتسبّب الفشل المصرفي في بعض الأحيان في ركود ولماذا تنهار الثقة بالشركات فجأة؟ النظرية الكينزية ليس لديها جواب.
عمليات الإغلاق في العديد من الاقتصادات الكبرى سبّبت انخفاضاً كبيراً في الإنتاج والاستثمار والعمالة والدخل


يتوسّع سكيدلسكي في الحديث عن أزمة «الطلب الزائد» التي تفرض تقليل الطلب لتلبية العرض! كنت أعتقد أنه سيكون من الأفضل الخروج من هذا الركود عبر زيادة الإنتاج لتلبية الطلب. ويلحظ سكيدلسكي أن «الأمر لا يتعلق بأن الشركات تريد خفض الإنتاج. إنها مجبرة على خفض الإنتاج بسبب منع جزء من القوى العاملة من العمل. التأثير الاقتصادي مشابه للتجنيد في زمن الحرب عندما يستخرج جزء صغير من القوى العاملة من الإنتاج المدني. عندها ينخفض إنتاج السلع مدنياً فيما يبقى الطلب الإجمالي كما هو: تتم إعادة توزيعه فقط من عمال ينتجون سلعاً مدنية إلى عمال مجندين في الجيش مخصصين لإنتاج الذخائر. ما يحدث اليوم سيُحدّد بما يحصل للقوة الشرائية لأولئك الذين أصبحوا عاطلين من العمل إلزامياً».
حقاً؟ في اقتصاد الحرب، كان الجميع يعمل. خلال الحرب العالمية الثانية كانت هناك عمالة فعلية كاملة في آلة الحرب. حالياً، نتجه إلى أكبر ارتفاع في البطالة في التاريخ الاقتصادي يحصل خلال بضعة أرباع. هذا ليس اقتصاد حرب.
يذكّرنا سكيدلسكي بأن كينز عالج «الطلب الزائد» في اقتصاد الحرب عبر اقتراح زيادة الضرائب. «في كتيبه (كيف تدفع مقابل الحرب - 1940)، أشار إلى أنه كان يجب خفض الاستهلاك المدني لتحرير موارد للاستهلاك العسكري. من دون زيادة الادّخار الطوعي، لم يكن هناك سوى طريقتين لخفض الاستهلاك المدني: التضخّم أو زيادة الضرائب». الحل المشترك الذي توصل إليه مع الخزينة هو رفع المعدل القياسي لضريبة الدخل إلى 50%، مع معدل هامشي أعلى نسبته 97.5%، وخفض سقف الخاضعين للضريبة. هذا الأخير سيخضع 3.25 ملايين دافع ضرائب إضافي لضريبة الدخل. سيدفع الجميع الضرائب المتزايدة التي طالب بها المجهود الحربي، لكن مدفوعات ضرائب لنحو ثلاثة ملايين ستكون قابلة للسداد بعد الحرب على شكل إعفاءات ضريبية. كما سيتم تقنين السلع الأساسية».
رائع! لذا فإن رد سكيدلسكي على الركود الحالي هو زيادة الضرائب، حتى لمن هم في أسفل مقياس الدخل من أجل وقف إنفاقهم الكثير والتسبّب في التضخم! ويختتم بالقول إن الوباء «يجب أن يعمق فهمنا لما يعنيه أن يكون كينز».
الوضع الحالي ليس اقتصاد حرب كما يقول جيمس ميدواي. عندما ضرب وباء الإنفلونزا الإسبانية، كان هذا في نهاية الحرب العالمية الأولى. أودى هذا الوباء بحياة 675 ألف شخص في الولايات المتحدة وما لا يقل عن 50 مليون شخص حول العالم. لم تدمر الإنفلونزا الاقتصاد الأميركي. في عام 1918، وهو العام الذي بلغت فيه وفيات الإنفلونزا ذروتها في الولايات المتحدة، كان فشل الأعمال التجارية أقل من نصف مستواها قبل الحرب، وكانت أقل في عام 1919. مدفوعاً بجهود الإنتاج في زمن الحرب، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للولايات المتحدة بنسبة 9 ٪ في عام 1918، ونحو 1٪ في العام التالي حتى مع احتدام الإنفلونزا.
بالطبع ، لم يكن هناك أيّ تأمينات وتُرك الناس للموت أو العيش. لكن المسألة، أنه بمجرد انتهاء عمليات الإغلاق الحالية للوباء، فإن المطلوب لإنعاش الإنتاج والاستثمار والعمالة هو شيء يشبه اقتصاد الحرب. عدم إنقاذ الشركات الكبرى بالمنح والقروض حتى تتمكن من العودة إلى العمل كالمعتاد. لا يمكن عكس هذا الركود إلا بإجراءات شبيهة بوقت الحرب، وهي الاستثمار الحكومي الضخم والملكية العامة للقطاعات الاستراتيجية وتوجيه الدولة للقطاعات الإنتاجية للاقتصاد.
نذكر أنه قبل أن يضرب الفيروس الاقتصاد العالمي، كان العديد من الاقتصادات الرأسمالية يتباطأ بسرعة أو في حالة ركود تام. في الولايات المتحدة، أحد الاقتصادات الأفضل أداء، انخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الربع الرابع من 2019 إلى أقل من 2% سنوياً مع توقعات المزيد من التباطؤ هذا العام. كان الاستثمار في الأعمال التجارية في حالة ركود وكانت أرباح الشركات غير المالية في اتّجاه هبوطي لمدة خمس سنوات. كان القطاع الرأسمالي في حالة لا تسمح له بقيادة الانتعاش الاقتصادي الذي يمكن أن يؤدي إلى التوظيف الكامل وارتفاع الدخل الحقيقي. سوف يتطلب الأمر قيادة القطاع العام.
أندرو بوسي وجي دبليو ماسون نشرا أخيراً ورقة حول تجربة دور القطاع العام في الاقتصاد الأميركي في زمن الحرب. أظهروا أن إدارة روزفلت قدمت كل أنواع ضمانات القروض والحوافز الضريبية وغيرها للقطاع الرأسمالي في البداية، لكن سرعان ما أصبح واضحاً أن هذا القطاع لا يمكنه القيام بمجهود الحرب لأنه لن يستثمر أو يعزز طاقته من دون ضمانات الربح. تولى الاستثمار العام المباشر زمام الأمر وفُرضت التوجيهات التي أمرت بها الحكومة.
وجد بوسّي وماسون أنه من 8% إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الثلاثينيات، ارتفع الإنفاق الفيدرالي إلى نحو 40% من الناتج بين عامَي 1942 و1945. الأهم من ذلك، شكل الإنفاق التعاقدي على السلع والخدمات 23% في المتوسط خلال الحرب، بينما حالياً تبلغ استثمارات القطاع العام في معظم الاقتصادات الرأسمالية نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وتزيد استثمارات القطاع الرأسمالي عن 15%. في الحرب تم عكس هذه النسبة.
لقد توصلت إلى النتيجة نفسها في عام 2012: «ما حدث كان ارتفاعاً هائلاً في الاستثمار والإنفاق الحكومي. في عام 1940، كانت استثمارات القطاع الخاص لا تزال أقل من مستوى عام 1929 وانخفضت بالفعل أكثر خلال الحرب. لذا، استحوذ قطاع الدولة على جميع الاستثمارات تقريباً، فتم تحويل الموارد (القيمة) إلى إنتاج الأسلحة وغيرها من الإجراءات الأمنية في اقتصاد الحرب». كينز نفسه قال إن اقتصاد الحرب أثبت أنه «يبدو مستحيلاً سياسياً على الديمقراطية الرأسمالية أن تنظّم الإنفاق ضمن ما هو ضروري لإجراء التجارب الكبرى التي ستثبت ما أقوله - باستثناء ظروف الحرب».
لم يحفز اقتصاد الحرب القطاع الخاص، بل استبدل «السوق الحرة» والاستثمار الرأسمالي بالربح. لتنظيم اقتصاد الحرب والتأكد من أنه أنتج السلع اللازمة لها، أنتجت حكومة روزفلت مجموعة من وكالات التعبئة التي لم تشترِ السلع في كثير من الأحيان فحسب، بل وجهت عن كثب تصنيع تلك السلع، وأثّرت بشدّة على عمل الشركات الخاصة والصناعات بكاملها.
يستنتج بوسّي ومايسون أنه: «كلما زاد - وأسرع - فإن الاقتصاد يحتاج إلى التغيير وأكثر إلى التخطيط. كان الاقتصاد في زمن الحرب هو الاقتصاد الموجّه (المخطط له) أكثر من أي فترة أخرى في تاريخ الولايات المتحدة. يتطلب التحول الهائل والسريع من الإنتاج المدني إلى الإنتاج العسكري اتجاهاً أكثر وعياً بكثير من العملية العادية للنمو الاقتصادي. وستتطلب الاستجابة الوطنية للفيروس التاجي والابتعاد عن الكربون درجات أعلى من التخطيط الحكومي.
ما يستنتج من قصة الكساد العظيم والحرب أنه بمجرد أن تكون الرأسمالية في عمق كساد طويل، يجب تدمير وطحن كل ما راكمته هذه الرأسمالية في العقود السابقة قبل أن يتاح لها عصر جديد من التوسع. لا توجد سياسة يمكنها تجنب ذلك والحفاظ على القطاع الرأسمالي. إذا لم يحدث ذلك هذه المرة، فإن الكساد الطويل الذي عانى منه الاقتصاد الرأسمالي العالمي منذ الركود الكبير يمكن أن يدخل عقداً آخر.
سوف تكافح الاقتصادات الكبرى (ناهيك عمّا يسمى الاقتصادات الناشئة) للخروج من هذا الركود الضخم ما لم يتم استبدال قانون السوق والقيمة بالملكية العامة والاستثمار والتخطيط، وذلك باستخدام جميع مهارات وموارد العاملين. الوباء أظهر ذلك.

* نقلاً عن مدونة مايكل روبرتس