عادة، تكون التغيّرات في أسعار الفائدة من المؤشّرات المهمّة لمعرفة وضع الاقتصاد، سواء على الصعيدين المحلي أو الدولي. فالتحكّم بأسعار الفائدة، هو إحدى الأدوات التي يمكن استعمالها في مواجهة الأزمات المالية والاقتصادية. وهذه الأداة تكون بيد الجهات الرسمية (مثل المصرف المركزي). أما في لبنان فأسعار الفائدة المحلية ليست إلا إحدى الأدوات الاستنسابية التي تستعملها المصارف للضغط على الزبائن من أفراد ومؤسسات وتشليحهم أملاكهم المرهونة بضمانة قروضهم. هذه الاستنسابية تأتي في ظل سوق قيل فيها الكثير من المديح بأنها سوق منظمة ومتطورة... قد لا يظهر التطوّر إلا على شاكلة «السلب» المتروك للمصارف ممارسته.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ففي لبنان المرجع الأساسي لفوائد الديون التي تصدرها المصارف هو «سعر الفائدة المرجعية في بيروت» (BRR) وهو معدل تحدّده جمعية المصارف. أصبح هذا المعدل هو المرجع منذ نيسان 2009 بعدما قرّرت جمعية المصارف أن سعر فائدة الدين ما بين المصارف في لندن (LIBOR)، وهو كان المرجع السابق لفوائد الديون، لا يعكس بشكل دقيق كلفة التمويل والإقراض المحلية.
تقوم جمعية المصارف باحتساب سعر الفائدة المرجعية من خلال احتساب معدل كلفة الودائع، وهو معدل فوائد جميع الودائع مضروب بعامل يمثّل حجم كل وديعة، زائد معدل الكلفة التشغيلية للمصارف في لبنان. يحتسب هذا السعر مرّة لودائع الدولار وأخرى لودائع الليرة. وتتكون الفائدة المحتسبة من المصرف، للمقترض، من: سعر الفائدة المرجعية زائد بدل عن مخاطر السيولة، أي خطر أن لا يملك المقترض السيولة لتسديد القرض، والائتمان، أي خطر أن يتخلّف المقترض عن السداد، بالإضافة إلى نسبة ربح. وهكذا نرى أن تحرّكات سعر الفائدة المرجعية تحرّك جميع فوائد القروض في السوق.
منذ عام 2011 كان هناك ارتفاع تدريجي للفائدة وهذا كان أمراً طبيعياً بسبب ارتفاع سعر الفائدة عالمياً في هذه الفترة. لكن اللافت أن ارتفاعاً حاداً حصل بين عام 2017 ونهاية 2019 حين ارتفع سعر الفائدة المرجعية على الدولار إلى 10.39%. السبب وراء ذلك، كان ارتفاع الفوائد على ودائع الدولار لاستقطابها إلى الداخل عبر «الهندسات المالية» التي نفّذها مصرف لبنان. وفي مطلع عام 2020 لم يعد مجدياً إبقاء الفوائد على ودائع الدولار، مرتفعة لأن هذه الآلية لم تعد تستقطب الدولارات إلى المصارف اللبنانية بعدما تلاشت الثقة كلياً بالقطاع المصرفي اللبناني بسبب القيود والضوابط الاستنسابية التي مارستها المصارف على عمليات السحب والتحويل لذا انخفضت الفوائد على ودائع الدولار. وشهد سعر الفائدة المرجعية انخفاضاً سريعاً بين كانون الثاني وشباط وبلغ على الدولار 6.75، أي أنه خلال شهرين عاد إلى السعر الذي كان عليه في تموز 2017.
إن خفض سعر الفائدة المرجعية يؤثّر مباشرة على المصارف. فهو يؤدّي إلى خفض الفائدة على الديون المعطاة سابقاً، الأمر الذي قد يخفّف حجم الديون الممكن اعتبارها غير قابلة للتحصيل وقيمتها كبيرة في ظل الأزمة الراهنة، أي أنه يحدّ من بعض خسائرها.
في المقابل، بالنسبة إلى المؤسسات والأفراد، يؤدي خفض الفائدة، نظرياً، إلى رفع احتمالات الاستدانة بسبب انخفاض كلفتها، لكن ما يحصل هو أن جمعية المصارف والمصارف تتلاعب بصدور مؤشر الفائدة المرجعية، بالإشارة إلى أن السعر المعلن هو سعر الأساس الذي يضاف فوقه هامش غير ثابت قد يصل إلى 5%. بعض المصارف اشترط على زبائنه أن يكون الحدّ الأدنى لسعر الفائدة 10% أو 11%، وهناك مؤسسات صغيرة، أي أن قدرتها التفاوضية مع المصارف محدودة، تفرض عليها المصارف هامش فائدة أعلى يرفع سعر الفائدة الفعلية إلى أكثر من 12%...
كذلك يقاس سعر الفائدة نسبة إلى الأسعار العالمية، ما يجعله مرتفعاً جداً، إذ لا يمكن مقارنة سعر فائدة بصفر في المئة أو بفائدة سلبية بأسعار فائدة تصل إلى 7% قبل الهوامش المتحرّكة والاستنسابية التي تمارسها المصارف تجاه الزبائن.
ويضاف إلى ذلك أن المصارف ليست لديها أموال للإقراض، لا بل ليست لديها أموال لتسدي ودائع المودعين. وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يتدخل المصرف المركزي لضخّ الأموال في السوق ليحافظ على توازن سعر الفائدة بحسب قواعد العرض والطلب، غير أن مصرف لبنان، بدوره، لا يملك المال الكافي ليفعل هذا الشيء. من هنا تبدأ الازمة.
يختلف الخبراء الاقتصاديون في العالم حول مدى تأثير السياسات النقدية على المدى الطويل؛ هناك فريق يقول إن تأثير السياسات النقدية لا يتعدّى المدى القصير، وأنه معدوم على المدى الطويل. قد يفرح هؤلاء برؤية نتائج الحالة اللبنانية، فالسياسات النقدية مثل التلاعب بأسعار الفوائد التي نفّذها مصرف لبنان في البداية الفعلية للأزمة، أي في صيف 2016 والتي نتج عنها تأجيل لانكشاف الأزمة لمدة عامين أو ثلاثة، لا بل يمكن النقاش بأنها أدّت إلى زيادة الأزمة سوءاً.