من المتغيّرات الأساسية الناتجة من الأزمة المالية، هي النظرة العامة إلى القطاع المصرفي في لبنان. انقلبت صورة المصارف الخاصة من «القطاع الناجح الوحيد في لبنان» إلى لصوص ونصابين. وبعدما كان رياض سلامة، الحاكم الناجح المحمّل بالأوسمة والجوائز العالمية، أصبح اسمه مرادفاً للأزمة النقدية. النظرة الإيجابية التي حظي بها النظام المصرفي طوال السنوات الماضية كانت نتيجة حملة علاقات عامة مدفوعة، قادتها «نخب» إعلامية وخبراء اقتصاديون. الأدوات نفسها تجهد اليوم في الدفاع عمّا تبقى من ماء وجه هذا القطاع. السردية المحورية «لمحامي» المصارف تقوم على تحميل الدولة (كشخص معنوي) مسؤولية هذه الأزمة، وأن المصارف هي ضحية مثلها مثل المواطن العادي. وعليه على الدولة أن تدفع (عبر الخصخصة) ثمن أخطائها لتعويض المودعين وأصحاب المصارف. هذا المقال يفنّد بعض الادّعاءات والأقاويل التي يسوّق لها حزب المصارف.
■ ■ ■

1- يدّعي المصرفيون وجوقتهم، أن الدولة «طيّرت» 83 مليار دولار. الحقيقة، أنهم بهذا القول يحاولون إيهام الناس أن الفجوة في احتياطي النقد الأجنبي (ما بات يُعرف بخسائر النظام المصرفي) هي أموال استحوذت عليها الدولة وصرفتها. وهنا يزيدون لازمة الفساد والمحسوبيات الطائفية، وما تبقى من الأقاويل الفولكلورية التي باتت تملأ الفضاء العام.

(هيثم الموسوي)

ترتكز هذه الكذبة إلى الخلط بين خسائر القطاع المصرفي والدين العام، مستفيدةً من أن الرقمين قريبان كمياً. فبينما تشير الأرقام المتداولة، إلى أن عملية إعادة هيكلة الدين بالعملة الأجنبية (سندات اليوروبوندز) تشكّل أقل من ربع الخسارة المتوقّعة. قيمة سندات اليوروبوندز المملوكة من القطاع المصرفي اللبناني هي أقل من 20 مليار دولار (11 مليار مملوكة من المصارف الخاصة و5.2 مليار من المصرف المركزي)، تحاول الحكومة الحالية حسم 75% من قيمتها، ما يؤدّي إلى تسجيل خسارة إجمالية بنحو 12.1 مليار دولار للقطاع المصرفي.
يحاول المصرفيون أن يقنعونا أن الدولة تحاول أن ترمي إفلاسها على قطاعهم عبر تخلّفها عن الدفع. هذا أمر غير دقيق. تقنياً، كان بإمكان الحكومة أن تدفع السندات المتوجّبة، إلّا أنّ إيرادات الدولة (ضرائب ورسوم) هي بالليرة اللبنانية، وعليه، حتى تتمكّن الدولة من دفع السندات بالعملة الأجنبية، كان عليها استبدال الليرات المتوافرة في الخزينة العامة بدولارات عبر مصرف لبنان. إذاً الدولة لم تتخلّف عن الدفع لأنّها مفلسة بل لأنّها قرّرت وقف نزف الدولارات.
السؤال الواجب هنا: لماذا الحكومة اللبنانية التي تستحصل على كلّ جباياتها بالليرة استدانت بالدولار؟ هل كانت هناك منفعة للاستدانة بالعملة الأجنبية؟ هل هذه المنفعة تعادل الكلفة المتوجبة على النقد اليوم؟ من دفع نحو هذا الخيار؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ضرورية لتحديد من يتحمل مسؤولية هذا الجزء من الخسارة.
هذه المسألة لا تعني بأيّ شكل من الأشكال أن الدين العام ليس عبئاً على الاقتصاد. بل هي تكذّب فكرة أن الدين العام هو العامل الأساسي في الخسائر المحقّقة في القطاع المصرفي. الدليل على ذلك أن أزمة الدولار (تمنّع القطاع المصرفي عن تأمين الطلب على الدولار) بدأت قبل شهور على إعلان الحكومة الحالية التخلّف عن دفع سندات اليوروبوندز.
السؤال إذاً ما هو مصدر هذه الخسارة الضخمة؟ (الفجوة في النقد الأجنبي بين الحسابات الدفترية والاحتياط المتوافر). الأرقام تشير إلى أن نصف الخسارة نتجت من دعم الاستهلاك الذي كان يؤمّنه مصرف لبنان عبر تثبيت سعر صرف الليرة. لا أريد تشويش القارئ بنقاش تقني عن كيفية تحديد سعر الصرف وسوق العملات، لكن ما يجب أن نعرفه هو أن للبنان مصدرين وحيدين للدولار؛ إمّا عبر تصدير منتجاته (دولار إنتاجي)، أو عبر استقطاب ودائع بالدولار من الخارج (دولار استثماري). الفرق بين النوعين من الدولار، أن الثاني يأتي بكلفة عالية (فوائد على الودائع)، فيما الأول نحصده من إنتاجية الاقتصاد.
غالبية المودعين لا يفقهون آليات العمل المصرفي وقد خُدعوا بسرديات وأساطير عن المصارف والحاكم الخارق


عوامل عديدة في الأعوام الثلاثين الماضية أدّت إلى انخفاض إنتاجية الاقتصاد. السياسة النقدية كانت إحدى هذه العوامل. فتثبيت سعر الصرف مع الفائدة الخيالية على سندات الخزينة والودائع المصرفية أدت إلى تراجع استثمار رأس المال في الإنتاج وتحويل الأموال إلى حسابات مصرفية كبيرة يعتاش أصحابها من الفوائد من دون أي إنتاج.
النتيجة المباشرة لهذه السياسة، كانت انخفاض التصدير وزيادة الاستيراد، ما أدى إلى ازدياد حاجتنا إلى الدولار الاستثماري (من الخارج) الذي استقطبناه مقابل فوائد مرتفعة جداً. من جملة نتائج هذا النسق، إنتاج فقاعة عقارية تسبّبت بزيادة الأكلاف على القطاعين الصناعي والزراعي (عندما يصبح دونم الأرض في الريف بـ100 ألف دولار لن يعود منطقياً للفلاح أن يزرعه قمحاً، بل يبيعه لمن يريد أن يبني قصراً).
هذه الدوامة جعلت الاقتصاد مُدمناً على الدولارات الطازجة التي تأتينا من الخارج.
استمرارية هكذا نوع من المعاش، يتطلب دخول نقد أجنبي بوتيرة مرتفعة حتى يتمكن الجهاز المصرفي من تأمين الدولارات اللازمة للاستيراد وأيضاً تأمين الفوائد على الاستثمارات السابقة. أي بات القطاع المصرفي يدفع مستحقات المودعين السابقين من أموال المودعين الجدد.
هذا النسق يسميه المصرفيون ومريدوهم بالنموذج اللبناني، بينما يسمّيه علم الاقتصاد «بونزي سكيم». يحاول هؤلاء ــ جورج غانم في حلقة «صار الوقت» الأسبوع الماضي مثالاً ــ إقناعنا بأن هذا النموذج المثالي قد فشل لأن طرفاً لبنانياً مشاغباً (المقاومة) قد أزعج الغرب ودول الخليج فأوقفت نبع الدولار عنا. يعاني هذا المنطق من إشكاليتين. أولاً، هو يتجاهل أن هذا النظام بنيوياً غير قابل للحياة لأنه يحتاج بشكل مستمر إلى كميات متزايدة من الدولارات هي غير مضمونة. ثانياً، هو يهمل عوامل أخرى أدت إلى انخفاض دفق النقد الأجنبي. صحيح أن العقوبات الأميركية و«الزعل» الخليجي أدّيا إلى انخفاض التحويلات، لكن التراجع الكبير الذي لحق باقتصادات دول شكلت تاريخياً وجهة المغتربين اللبنانيين أدى إلى انخفاض التحويلات (مصر تعاني من مشكلة مشابهة بسبب انخفاض التحويلات من دول الخليج التي تعاني من تراجع في الدخل الوطني منذ عام 2014).

■ ■ ■

2- «لم يكن للمصارف خيار آخر». عبارة تكرّرت (جان رياشي وزياد حايك في برنامج «عشرين ثلاثين» مثلاً) لرفع المسؤولية عن المصارف لجهة مخالفتها مبدأ توزيع المخاطر الذي يعدّ من أساسيات العمل المصرفي. يشير هؤلاء إلى أن مصرف لبنان قد منع المصارف الخاصة من الاستثمار في الصناديق ذات المخاطر المرتفعة في الخارج. يتناسى أصحاب هذا القول أن الدور الأساسي للقطاع المصرفي هو تمويل القطاعات الإنتاجية (في الحقيقة ما من مبرر اقتصادي لوجود مصارف إن لم تقم بهذا الدور).
يبرر المصرفيون انخفاض التسليفات للقطاع الخاص بالعوائد المغرية التي استحصلوا عليها من تسليف القطاع العام (الخزينة العامة ومصرف لبنان). العارف ببديهيات الاقتصاد يعلم أن قرارات التسليف تعتمد على الربحية المتوقّعة لأي مشروع، لا الفائدة الاسمية (إذا عرضت على مصرف أن يموّل مشروع فندق على كوكب زحل لن يوافق حتى لو أغريته بفائدة 100%. هكذا مشروع محكوم بالفشل). المصارف اللبنانية كانت تعلم جيداً أن هنالك استحالة لاستمرار هذا النموذج، وهو إن كان يؤمّن عوائد مرتفعة في المدى القصير فهو محكوم بالإفلاس لاحقاً. وعليه، منطق السوق كان يحتّم على المصارف، إن كان هدفها الحفاظ على الودائع، أن تستثمر الأموال المودعة بمحافظ استثمارية أكثر توازناً بين القطاعين العام والخاص.
إن خيار المصارف الخاصة لم ينتج عن خطأ تقني في الحسابات. هنالك فارق أساسي بين طبيعة أرباح المصارف وأموال المودعين. فالأول هو متدفق (flow) أي يتحقّق خلال مدّة زمنية محدّدة، بينما الثاني هو مخزون (stock) أي يُحفظ عبر الوقت.
ينتج عن هذا الاختلاف تضارب بالمصالح بين المصارف وأصحاب الودائع. فالمصارف تمكّنت من تحقيق أرباح وزّعتها على المساهمين في المدى القصير، فيما النظام بأكمله كان يراكم الخسائر. إذاً، أخطاء المصارف لم تنتج عن سوء تقدير بل عن سوء أمانة. وعليه، فإن أي توزيع عادل للخسائر، لا بُد أن يطال أرباح المصارف التي وزِّعت على المساهمين وأن لا يقتصر على رأس مالها.
■ ■ ■

3- يحاول فريق المصارف أن يظهر بموقع الضحية مدّعياً أن الخطة المطروحة هي حملة سياسية تهدف إلى القضاء على الاقتصاد الحرّ في لبنان. حتى أن يان كوبيس (المنسق العام للأمم المتحدة في لبنان) في تغريدة وقحة ذكّر الحكومة بمواد الدستور التي تقدس الملكية الفردية والاقتصاد الحرّ. سخافة هذا الادعاء تنبع من أن القطاع المصرفي في لبنان لم يكن حرّاً أو تنافسياً بل هو احتكاري بامتياز. كيف يكون التنافس فيما تنسّق جمعية المصارف أسعار الفوائد مع حاكم المصرف المركزي؟ وكيف يكون الاقتصاد حراً عندما يستعمل رياض سلامة الأموال العامة لخلق أرباح وهمية لمصارف متعثّرة عبر الهندسات المالية؟
الهيركات على رساميل المصارف والودائع الكبيرة هي أول محاولة في تاريخ لبنان لإعادة توزيع الثروة بشكل عادل


في الواقع، إن القطاع المصرفي وأرباحه أتت على حساب الاقتصاد الحقيقي في لبنان. كيف يعقل أنه طوال ثلاثين عاماً، كان معدّل الفائدة أكبر من نسبة النموّ السنوي؟ تفوّق معدل الفائدة على النموّ هو عامل أساسي في تركّز الثروة (توماس بيكيتي، رأس المال في القرن الواحد والعشرين)، فطوال ثلاثين عاماً قام النظام المصرفي بتوزيع عوائد على رأس المال التي استفاد منها كبار المودعين ومالكو المصارف، تفوق نسبة تكاثر الدخل الوطني، وهذا أمر غير ممكن إلا عبر اقتطاع عوائد عناصر الإنتاج الأخرى. هذا النمط تفاقم في السنوات الماضية من خلال الهندسات المالية حيث فاقت هوامش المصارف (الفرق بين الفائدة الدائنة والمدينة) النموّ الاقتصادي. أي إن معدّل ما تقتطعه المصارف فقط، عدا عن العوائد التي تذهب إلى المودع كعوائد على هذه الأموال باتت تفوق ما تنتجه هذه الأموال في الاقتصاد.

■ ■ ■

4- يحاول بعض الإعلاميين أن يصوّر لنا رياض سلامة بمظهر آخر المدافعين عن الاقتصاد اللبناني. فالحاكم كما يخبرنا مارسيل غانم كان يدافع عن الليرة ويطالب السياسيين بالإصلاح وبناء الاقتصاد. كأن الاقتصاد والنمو والإنتاج مستقلّ عن السياسية النقدية. أفعال سلامة لا تطابق أدنى المواصفات الوظيفية لموقعه. فالرجل المؤتمن على النقد وسلامة الأسواق المالية خلق فوضى في سوق القطع عبر توقفه بشكل مفاجئ ومن دون أي تنسيق مع الحكومة عن تأمين السيولة بالدولار في اقتصاد مدمن على الاستهلاك. كما أنه يرفض المساءلة من مجلس النواب، أو الحكومة رغم أنه موظف معيّن وهم منتخبون.
لقد كذب سلامة على اللبنانيين طوال سنين وكرر هرطقة دولرة الودائع بنسبة 70% في أكثر من مناسبة، مخفياً أن هذه الأرقام هي دفترية لا أساس لها في الواقع. عدم الشفافية لا تقتصر على حاكم المصرف المركزي، فالمصرفي والوزير السابق مروان خير الدين أصرّ طوال أشهر على أن أزمة السيولة سببها سحب بعض المودعين أموالاً لهم بقيمة 2 مليار دولار (رفعها لاحقاً إلى خمسة) كيف يمكن لاقتصاد تبلغ مجمل ودائعه 120 مليار دولار أن يتأثر بسحب مليارين؟!
■ ■ ■

5- يحدّثنا حزب المصارف عن سرقة الناس. وكأن الناس في لبنان سواسية في الربح والخسارة والمسؤولية. غالبية سكان لبنان لم تستفِد من السياسات النقدية والفوائد المرتفعة. لا بل جزء كبير منهم قد خسر إمكانية تحصيل قوْته من قوّة عمله نتيجةً لتلك السياسات. فسياسات دعم وتشجيع الاستهلاك عبر تثبيت سعر الصرف أفادت بشكل أساسي الطبقة الثرية وجزءاً من الطبقة الوسطى. والفوائد الخيالية راكمت ثروات هائلة لكبار المودعين والمساهمين في المصارف. وهنا يقع بعض الاقتصاديين والمحللين بخطيئة التعميم. دان قزّي مثلاً يقدم سرديّة واقعية للآلية التي أدّت إلى الخراب الذي يعيشه السكان في لبنان الآن، لكن لديه تصور خاطئ عن أعداد الناس التي استفادت من نمط الاستهلاك المسرف، كما يحمّل المسؤولية للمودع أكثر من المصرفي متناسياً أن أغلب المودعين لا يفقهون بآليات العمل المصرفي وقد خُدعوا بسرديات وأساطير عن القطاع المصرفي وحاكمه الخارق.
المصرفيون وشركاؤهم مِمّن تحكّم بالمال والسلطة منذ 80 عاماً يسعون إلى تأبيد هيمنتهم على الاقتصاد والثروة الوطنية تحت مسمى الخصخصة. يعاونهم في ذلك جمع من الإعلاميين والاختصاصيين عبر حملة إعلامية ترهيبية (تضخيم مفاعيل إجراء الهيركات). تشنّ هذه القوّة حملتها الشرسة لأن هناك من تجرأ على طرح تغييرات جوهرية في الاقتصاد تستردّ منهم بعضاً من امتيازاتهم. واقع الأمر أن الهيركات، وإن كانت تخيف بعض الناس، عبر تحميلها المصارف وكبار المودعين كلفة الخسائر عوضاً عن تحميلها للفقراء عبر الضرائب والخصخصة، هي أول محاولة في تاريخ لبنان لإعادة توزيع الثروة بشكل عادل.

* أستاذ باحث في الاقتصاد في جامعة ولاية أوهايو