على عكس الهند، حيث ظلّ عدد السعرات الحرارية التي يحصل عليها أكثر القرويين في البلد أقلّ من المعدل في أفريقيا جنوب الصحراء بعد نموّ سنوي تجاوز الـ 5% خلال عقدين (باتنايك، 2018)، ارتفع مستوى الحياة في الصين بشكلٍ مطّرد وثابت منذ التحرير الوطني. في أغلب العالم الثالث، وبغض النظر عن نسب النموّ، سواء كانت مرتفعة أو منخفضة في العقود الأربعة الأخيرة، يجد المراقب ارتفاعاً مستمراً في معدلات الفقر (النسبي والمطلق). كمثالٍ معاكس، قام نموذج النمو الصيني، الذي يسمّى «معجزة»، بتقليص الفقر. ولكن هذا النموذج ليس «معجزة»، بل هو في الواقع ظاهرة حقيقية، عقلانية يمكن تفسيرها بالكامل. أما الرواية السائدة التي تنسب التقدم الصيني إلى إصلاحات السوق التي جرت في الثمانينيات، فإن هذه العملية قد ابتدأت منذ عام 1949.كان المعدّل الفعلي للنمو الاقتصادي في الصين في الحقبة الماوية نحو 6% سنوياً لغاية عام 1977. كان هذا المعدل سيرتفع أكثر لولا مرحلة الركود الاستثنائية سنتّي 61 - 62 - مرحلة الافتراق عن الاتحاد السوفياتي - التي من دونها يصبح المعدّل العام أقرب إلى 8%، أي كالنمو الذي عرفته الصين منذ عام 1980.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

هناك مسألتان من الواجب ذكرهما هنا. أوّلاً، قامت المرحلة الماوية ببناء القاعدة لاقتصاد المعرفة الذي حضّر الصين لاحقاً لاستيعاب التكنولوجيا المتقدمة وبناء قدرة إنتاجية جعلتها مصنع العالم. بتعابير تقنية، فإنّ ليونة العرض والإنتاج في الصّين التي تبدّت بعد عام 1980 لم تأت من فراغ، بل كانت جذورها في البنية التحتية الاجتماعية والإنتاجية التي بنيت تحت إشراف ماو. هذا يعني تحديداً الاكتفاء الذاتي في الإنتاج الزراعي، وهو ما حرّر الدولة لتقوم بتمويل الصناعة وبناء مصادر إنتاجية تعتمد على العلم والتكنولوجيا. الماضي يظلّ حيّاً في الحاضر. ما يبقى ويستمرّ هو ليس شخص ماو أو دينغ، بل الأيديولوجيا الثوريّة التي رسمت الطريق التاريخي للصين الحديثة… وهذا حصل تحت القبضة الحديدية للحزب الشيوعي الصيني. التلفيق بشأن هذه الاستمرارية البنيوية في التاريخ الصيني الحديث ليس سوى موقف أيديولوجي يتوافق مع الإمبريالية.
ثانياً، اختلفت تجربة حرب التحرير في الصين عن غيرها في بقية العالم النّامي، حيث كانت حرب التحرير الوطني ترتكز بنيوياً على «الوطن» أكثر من «التحرير». لعبت حرب التحرير الوطنية في الصين دوراً موازياً في خدمة الحرب الأممية ضد الإمبريالية. بدايةً، كان الأمر يعود الى التزام ماو العميق بالأممية. في وقتٍ لاحق، أصبح المحرك هو «الاشتراكية بخصائص صينية»، التي أفرزت اقتصاداً ضخماً يخضع للملكية العامة وسوق خاصة يتم التحكم بها. إن أضفنا عامل الحجم الهائل للصين، فإن القومية فيها وعملية التحرير تحولت إلى نزعة أممية. كلما تقدمت الصين وحسّنت مستواها المعيشي (أي أمنها أيضاً)، مال ميزان القوى العالمي ضد المركز الإمبريالي. وفي المراحل المتقدّمة من نموّها، تحوّلت سياسة النمو الداخلي الشمولية التي رسمها ماو إلى عملية خارجية، تسعى إلى تنمية الآخرين وإلى السلام في الخارج. تقوم الصين أخيراً بتأييد حق الشعب في السيادة في سوريا وإيران وفنزويلا، وهي تعضد التعاون السلمي عبر مشروع «الحزام والطريق».
تتبدّى الديموقراطية الشعبية حين تقوم الجماهير في الصين بالضغط على الدولة لتقوم بإعادة التوزيع لمصلحتها وأخيراً، للحفاظ على البيئة. رغم أن الردع النووي هو وسيلة لتأمين السيادة، فإن «الأمن» الحقيقي الذي يعضد سيادة الدول هو التقدم المستمر في الأمن المعيشي للطبقة العاملة. في ذاتها، ليست الصواريخ النووية العابرة للقارات التي عرضتها الصين في العرض العسكري خلال الذكرى الـ 70 للثورة إلا مادّة وجماد. الحزب الشيوعي يفهم ذلك؛ كما قال لين باو في 1965 «لدى الصين قنبلة نووية روحيّة، وهي الوعي الثوري الذي يمتلكه الشعب، وهو سلاحٌ أقوى وأكثر نفعاً من القنبلة في شكلها المادّي». إن العلاقة السببية واضحة هنا وجليّة: في عملية التراكم عبر الهدر، فإن الإمبريالية ستقوم حكماً بالاعتداء على الصين وإزهاقها، بغض النظر إذا كانت الصين رأسمالية أو شيوعية، طالما أنها تراكم عبر وسائط محليّة وتمضي في عملية تشكيل رأس المال الوطني.
رغم نجاحاته، لم تحصل جهود على المستوى الأيديولوجي لشرح الأسس الكليّة للنموذج الصيني المعادي للنيوليبرالية والذي يتحكم به المجتمع. البعض يشرح ذلك بالقول إنه فيما الصين تصعد ويزداد نفوذها الدولي، فهي توقعت من الآخرين أن يحذوا حذوها ويقلّدوا تجربتها. هناك رأي آخر ينطلق من أن الصين تمتلك موارد مالية هائلة. هذا التملك «المستفزّ» لأصولٍ في عالمٍ يملكه ويتحكم به رأس المال الأميركي وتوابعه، يهدد أساس قوّة رأس المال في العالم: منظومة الملكية الخاصة. تقوم الصين فعلاً بتمويل إيران وفنزويلا في وجه الحصار الأميركي، لتساعدها على التغلب على الاحتواء المالي الذي كان «كعب أخيل» المنظومة السوفياتية. قد يكون همّ الصين هو أن لا تتفاخر بإنجازاتها وتثير غيظ المهيمن في أكثر المجالات التي قد تؤذيه: حرب الأفكار. من دون الخوض في أسباب صمود التجربة الصينية، لكن التفاعل بين هذه الأسباب والقوة الصينية الفعلية يؤدي إلى تآكل الميراث الأيديولوجي للشطر الغربي من العالم، أي الفقه النظري الذي روّج لتوسّع رأس المال طوال القرون الخمسة الماضية، وكانت النيوليبرالية قمّته. هذه العملية سوف تفسح مجالاً لظهور بدائل اجتماعية جديدة.
فيما تخرج أفكار اجتماعية جديدة وسط إعادة تشكيل العلاقات الدولية على المستوى العالمي، فإن الثروة القديمة لأوروبا، فائضها التاريخي، ليس متركّزاً في السلع فحسب، ولكن في أشكال الفوقية العنصرية والثقافية، وهذه كلها ستنفد. إن المحاولات التي تقودها أميركا لكي تعوّض خسارتها لرأس المال الأيديولوجي، وهو أوروبي أكثر منه أميركياً بمعنى البنية الثقافية، ستجري وسط المزيد من العنف الإمبريالي، تقوده أوروبا الفاشية التي تصعد اليوم. لا يمكن فطام أميركا وأوروبا عن ثروةٍ ولدت أساساً عبر العنف الإمبريالي. في أيّ حال، فإن الثروة هي الموت وهي سمّ بالنسبة الى البيئة، فيما العنف يمثل قانون القيمة وهو يعمل. إن حالة من الفيتيشية التي تلغي أي دورٍ اندماجي للسياسة، حتى فيما السلع تخنق الروح البشرية، تثقل على حاضرنا والمستقبل. ولكن سيتبين أن من الصعب جدّاً أن يخرج جهدٌ منظّم لتفكيك الإمبراطورية ومنع كوارث أكبر من الحصول.
في برامج تقليص الفقر في الصين، يكون الراتب الاجتماعي متناسباً مع الإنتاجية الاجتماعية، بدلاً من خرافة مفهوم ميتافيزيائي مجرّد عن الإنتاجية يحدّد قيمة مادية للراتب نسبةً إلى ثمن العمل في السوق


في برامج تقليص الفقر في الصين، يكون الراتب الاجتماعي متناسباً مع الإنتاجية الاجتماعية، بدلاً من خرافة مفهومٍ ميتافيزيائي مجرّد عن الإنتاجية يحدد قيمة مادية لراتبك نسبةً إلى ثمن العمل في السوق. تفعل الصين ذلك ضمن جهدٍ للموازنة بين اعتبارات الأمن القومي والرخاء الوطني. لا بد من أن يكون هناك توازن بين الإبقاء على الاندماج مع رأس المال العالمي من غير أن يتم تهديده بنسخةٍ متطرفة من نظرية «صحن الرز الحديدي» (وهو مفهومٌ صيني عن الوظيفة التي تأتي مع ضمانات لمستوى المعيشة وغير ذلك، وتكون غالباً مضمونة مدى الحياة). يمكن خلق تقسيمة عشوائية لإنتاجية قوة العمل بمعايير مالية تقليدية، ولكن الإنسان الاجتماعي، العنصر الأولي في الطبقة الاجتماعية، والإنتاجية الاجتماعية لا يمكن تقسيمها بهذه الطريقة. ليس ممكناً أن ننتزع الإنسان الاجتماعي من سياقه الاجتماعي لأنه لن يعود موجوداً. قوة العمل النظرية أو القابلة للقسمة هي عبارةٌ عن تجريدٍ غير واقعي وأحادي، فيما العمل الاجتماعي هو الحقيقة بأكملها، العلاقة بين الطبقة وبين وسائل الإنتاج. باختصار، إن الإنتاجية اجتماعية بطبيعتها، والتوزيع تقرّه الضرورات التاريخية لرأس المال، أي قانون القيمة الذي يسيّره.
إن القرن العشرين والقرن الحالي هما عصر الإمبريالية المالية. هي نمطٌ عنيف من مراكمة الثروة يقوده الإنتاج المحموم للسلع. القوة والثروة الحقيقية لأميركا وأوروبا تتمثل في أيديولوجيتها المهيمنة، بالتشابك مع تفوقها العسكري. رغم ذلك، حين تقوم الدول النامية باعتماد سياسات كلية سيادية أو تخضع للمحاسبة المجتمعية، وتضعف قبضة الإمبراطورية، فإن التوازي بين سقوط صورة الإمبراطورية وسقوط قوّتها الأيديولوجية سوف ينتج ثورةً في المفاهيم. في هذا الظرف ووسط هوّة الاشتراكية ــــ الأيديولوجي، فإن البديل التاريخي الضروري هو في توجيه الصراع الطبقي في اتجاهٍ معادٍ للمنظومة المهيمنة.
في الأجزاء المقبلة، سأشرح بعض الخصائص الرئيسية للنموذج الصيني وأنقد التراكيب المفهومية للنيوليبرالية. الصين «تحسّست الكثير من الحصى وهي تعبر النهر»، ومع أنها عبرت، فإنها تعثّرت هنا وهناك. سيكون التركيز على المسائل التأسيسية.

* مختارات من ورقة عمل أعدّها الكاتب وستنشر في ملحق رأس المال على حلقات

** مفكر وأحد كبار أساتذة الجامعة الوطنية في سنغافورة ومعهد لندن للاقتصاد. من أبرز مؤلفاته «تفكيك الاشتراكية العربية» و«الحزام الواقي: قانون واحد يحكم التنمية في شرق آسيا والعالم العربي» و«التنمية الممنوعة».