بعد أسابيع من النقاشات، وبعد تسريب مجموعة من المسوّدات، أقرّت الحكومة اللبنانية يوم الخميس الماضي «خطّة التعافي المالي». وكما كان متوقّعاً لم تقارب الخطة تصحيح الخلل الاقتصادي، ولكنّها شرّحت الوضعين المالي والنقدي، واقترحت حلولاً لتقويمهما. علماً بأنها المرة الأولى التي نشهد فيها جهداً حكوميّاً يصارح اللبنانيين بنتائج السياسات النقدية والمالية التي اتُّبعت في العقود الثلاثة الأخيرة. وما عرضته الخطّة يدلّ على نتائج كارثيّة، سواء على مستوى المالية العامة للدولة أو الاقتصاد أو أجور اللبنانيين وقدرتهم الاستهلاكية. ومن المفيد حالياً التركيز على أجور اللبنانيين وقدرتهم على الاستهلاك.أول ركيزة، ضمن أهداف البرنامج الذي تقدّمه الخطّة «إلغاء ربط الليرة لتقليل الضغوط على ميزان المدفوعات وتحسين القدرة التنافسية». بمعنى آخر، تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية. والخطة تقرّ بأن إعادة سعر صرف الليرة إلى مستواه السابق مستحيل في ظلّ توقف التدفقات التي كانت تُستخدم في تمويل عجز الحساب الجاري. كذلك تعتقد أن اعتماد سعر الصرف المزدوج (السعر الرسمي والسعر السوقي)، كما هو الحال الآن، ليس أمراً قابلاً للاستدامة.
لذا اعتمدت الخطّة تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية بدلاً من التثبيت الذي يتطلب تدفقات بالعملة الأجنبية غير متاحة. أصلاً السياسة السابقة أدّت إلى تضخّم سعر الصرف الحقيقي الذي يحدّد من خلال مقارنة بين أسعار سلّة استهلاكية في بلدَي العملتين اللتين تخضعان للمقارنة. قبل الأزمة، برزت تقديرات لبعض الخبراء تشير إلى أن سعر الصرف الحقيقي لليرة اللبنانيّة يوازي ثلاثة أضعاف سعر الصرف الرسميّ. هذا الورم المخفي كان السبب الأساسي وراء الإضرار بالقطاعات المنتجة في لبنان، وخصوصاً الصناعة، وهو الذي شجّع على استهلاك السلع المستوردة بسبب إضفاء قوّة شرائية وهمية لليرة اللبنانية.

لماذا التعويم؟
بشكل عام ونظريّ، ينتج من خفض سعر صرف العملة المحلّية فوائد كبيرة على الدورة الاقتصادية. فمع انخفاض سعر الصرف ستصبح الواردات أغلى ما سيقلّص فاتورة الاستيراد. في المقابل ستصبح المنتجات المحلّية أرخص بسبب تدنّي قيمة الأجور والمواد الأولية المحليّة المصدر ما يزيد من تنافسية الصادرات في الخارج ويزيد الطلب عليها.
هذه المعادلة الثنائية، أي انخفاض فاتورة الاستيراد وارتفاع كميّة الصادرات، ستؤدّي إلى تحسين حالة الحساب الجاري. وبدوره، فإن تحسّن الحساب الجاري وازدياد الطلب على الصادرات الوطنيّة، سيحفّز الطلب الكليّ ويقود الناتج المحليّ الإجمالي نحو النموّ. ويترافق مع هذا النموّ، تضخّم ناتج من ارتفاع كلفة الاستيراد، ومن أثر زيادة الطلب على التصدير على ارتفاع قيمة الإنتاج المحليّ.

تصميم: رامي عليّان | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لكن لهذه الدورة مخاطر، لأن زيادة معدّلات التضخم أكثر من معدّلات زيادة الأجور (والتي انخفضت بانخفاض قيمة العملة) سيؤدّي إلى انخفاض القيمة الحقيقيّة للأجور.
رغم أن تحرير سعر صرف العملة المحلّية، يعدّ ركيزة نقديّة بحتة، إلّا أن تبعاتها الاقتصادية تطال حياة المواطنين بشكل مباشر ويمكنهم تحسّس أثرها سريعاً، سواء السلبي منه أو الإيجابيّ. ولكن المشكلة أنه في اقتصاد يشوبه خلل كبير، كالاقتصاد اللبناني، فإن الأثر السلبي يكون أكبر وأكثر فداحة. وبسبب الدمار الذي لحق بالقطاعات المنتجة في العقود الثلاثة الماضية، قد يكون صعباً الاستفادة من انخفاض سعر الصرف لتحفيز الدورة الإنتاجية، بل يصبح بديهياً أن يكون التركيز على تداعيات سعر الصرف على القيمة الحقيقيّة للأجور وأثره على القوّة الشرائية.

من جيوب الفقراء إلى جيوب الأغنياء
القدرة على الاستهلاك ستتضرّر بشكل متفاوت بين الطبقات. ومن النتائج الأكثر شيوعاً لانخفاض سعر صرف العملة، هي إعادة توزيع الدخل. الفرق بين نسبة ارتفاع الأجور ونسبة ارتفاع كلفة الاستهلاك يعني أن هناك أرباحاً ستتحقّق على حساب الأجور، عبر تحويل الدخل من أصحاب الدخل الثابت والمحدود إلى باقي قطاعات الدورة الاقتصادية. يمكن قياس هذه العملية من خلال مراقبة عاملين: الميل للاستهلاك أو معدّل الميل للاستهلاك (Average Propensity to Consume)، والميل الحدّي للاستهلاك (Marginal Propensity to Consume).
معدّل الميل للاستهلاك يدلّ على نسبة الدخل التي تُستعمل في الاستهلاك، أمّا ما يتبقّى فهو ما يُدّخر. أمّا الميل الحدّي للاستهلاك فهو نسبة الزيادة في الاستهلاك للزيادة على الدخل. عادة، هذان العاملان لا يرتبطان بكلفة الاستهلاك بشكل حصري، بل يرتبطان بسلوكيات المجتمع الاستهلاكية أيضاً، إلا أنه في حالة «نموذج الاستهلاك قصير النظر»، يرتبط العاملين بكلفة الاستهلاك حصراً. و«نموذج الاستهلاك قصير النظر» يستند إلى استفادة الفرد من تجاربه الاستهلاكية السابقة من دون أن يأخذ في الحسبان تأثير حاضره الاستهلاكي على قدراته المستقبلية. بمعنى آخر، إن زيادة الدخل تؤدّي إلى زيادة موازية في الاستهلاك من دون أي اعتبار للقيمة المستقبلية للاستهلاك.
لذا حين ينخفض سعر صرف العملة المحليّة يرتفع الميل الحدّي للاستهلاك، لأن جزءاً أكبر من الدخل سيذهب لسداد زيادة فاتورة الاستهلاك، أي إن النسبة الأكبر من الزيادة التي ستلحق بالقمية الاسمية للأجور بعد تصحيحها ستموّل الاستهلاك. لكن هذا ينطبق على أصحاب الدخل المحدود، بينما أصحاب الفئات الأعلى من الدخل لن يتأثروا بشكل كبير بسبب انخفاض قيمة الاستهلاك من دخلهم. ويستنتج ناصر بدرا، في بحثه «الاستهلاك قصير النظر وزيادة الأجور: حالة لبنان»، بأن نموذج الاستهلاك في لبنان قصير النظر. وهذا يوصلنا إلى الميل الحدّي للاستهلاك. فعلى سبيل المثال، يظهر هذا الميل الحدّي للاستهلاك في دراسة أعدّها بنك لبنان والمهجر خلصت إلى أنه يساوي 0,74 في عام 2013، أي إنه من كلّ دولار زيادة في الدخل يتحول 0,74 دولار للاستهلاك؛ وهذه نسبة مرتفعة جداً.

إنتاج مدمر: لا استفادة
إذا جمّعنا هذه المعطيات سنكون أمام مشهد يجمع بين سعر الصرف الحقيقي المتضخّم بشكل رهيب، وميل مرتفع للاستهلاك يدلّ على كلفة استهلاك مرتفعة جداً نسبة إلى الدخل. بهذا المعنى، يمكن تفسير انعكاس تثبيت سعر صرف الليرة على الأجور الاسميّة. ففي منتصف التسعينيات قدّمت حكومات الراحل رفيق الحريري ما يمكن تسميته «رشوة جماعية» لأنه ينطوي على أجور مرتفعة نسبياً مع فاتورة استهلاك متعاظمة حتى أصبحت كل الزيادات على الأجر تخدم فاتورة الاستهلاك.
عملياً، الوضع أسوأ. ففي ظلّ عدم وجود بنية تحتية للإنتاج، سواء الزراعي أو الصناعي، لا يمكن التعويل على منافع انخفاض الأكلاف. فالإنتاج ليس قادراً على تغطية، ولو جزئياً، حاجات السوق المحلية، بينما التراجع المرتقب في فاتورة الاستيراد سيأتي على حساب قدرة محدودي الدخل على استهلاك هذه السلع بدلاً من أن يحفّز الاستغناء عن السلع المستوردة واستبدالها بسلع محلية.
لذا، قد لا يعود انخفاض سعر الصرف على معظم اللبنانيين بالمنفعة، بل سيكون أثره سلبياً على القيمة الحقيقيّة للأجور. ولن يكون بمقدور معظم اللبنانيين، بالأخص ذوي الدخل المحدود، الاستهلاك بالمستوى السابق، لا كماً ولا نوعاً. في الواقع، انتهى مفعول الرشوة التي قُدّمت لهم في مقابل سكوتهم عن الاختلال الرهيب في الاقتصاد، والذي يعود لضرب القطاعات المنتجة.

سعر الصرف الثابت الوهمي
إذاً، لا مصلحة للبنانيين بتعويم سعر الصرف؟ الإجابة البديهية هي لا. لكن المشكلة أن مصرف لبنان لم يعد قادراً على تثبيت سعر الصرف منذ أيلول من العام الماضي. فبمجرّد نشوء السوق الموازية، فإن سعر الصرف بالممارسة لم يعد ثابتاً. كما أن استحداث مصرف لبنان لمجموعة أسعار صرف متحرّكة تغطي المصارف، ومؤسسات تحويل الأموال والصيارفة، يعني أن عدم ثبات سعر الصرف أصبح سارياً على كل القطاعات الاقتصادية والماليّة في البلاد.
أجور اللبنانيين ستتآكل أكثر فأكثر لتمويل فاتورة استهلاك تعكس القيمة الحقيقيّة لليرة


أين ثبات سعر الصرف الذي تتحدث عنه الخطّة؟
في الواقع، إن سعر الصرف لا يزال ثابتاً على فاتورة استيراد ثلاث سلع فقط، وهي الطحين والمحروقات والأدوية، وبعض الخدمات التي تسعّرها الدولة بالدولار، كقطاع الخليوي مثلاً. وهذا التثبيت هو بمثابة دعم حكوميّ مباشر لهذه السلع، وهي السلع الأكثر أساسيّة في حياة المواطنين. أمّا باقي فاتورة استهلاك اللبنانيين فقد أصبحت خاضعة لأسعار صرف متعدّدة، ومعظمها خاضع لسعر صرف السوق السوداء.
هنالك مصلحة أكيدة بالانتقال إلى سعر صرف متحرّك. لا يمكن التوهّم بأن العودة إلى سعر الصرف الثابت خيار حقيقيّ أو مفيد، بالأخص في ظلّ الاختلال الرهيب في بنية الاقتصاد والخسائر الفادحة في الحساب الجاري. فقد انتهى مفعول الرشوة، وأجور اللبنانيين ستتآكل أكثر فأكثر لتمويل فاتورة استهلاك تعكس القيمة الحقيقيّة لليرة. الأيام المقبلة ستحمل ثمن السكوت عمّا ارتكبته حكومات الحريري، لكن النقاش يجب أن يكون حول أفضل الطرق لتحرير سعر الصرف. فإذا أرادت الحكومة إبداء مصلحة ذوي الدخل المحدود، يجب أن تحرّر سعر الصرف بطريقة تأخذ في الاعتبار ضرورة دعم السلع الأساسيّة الثلاث، لا بل ويجب أن تضيف إليها مجموعة أخرى من السلع التي يمكّن دعمها من التخفيف من وطأة فقدان ذوي الدخل المحدود لقيمة أجورهم الحقيقيّة. كما يجب على الحكومة الحالية أن تضع خطّة اقتصادية تعكس مفاعيل ارتكابات التسعينيات وتعزّز وتبني القطاعات المنتجة وتضبط عمليّة الاستيراد، للاستفادة بأسرع وقت ممكن من أيّ إيجابيّات محتملة لانخفاض سعر صرف الليرة. وإلّا ستكون معاناة ذوي الدخل المحدود من اللبنانيين إثر انهيار سعر الصرف الذي نشهده من دون أيّ منفعة مستقبليّة.