«هنالك اختراعات عظيمة ثلاثة منذ فجر التاريخ: النّار، والعجلة، والبنوك المركزيّة».
ويل روجرز، ممثّل كوميدي أميركي


يشهد لبنان تصاعداً في وتيرة النقاش حول دور «مصرف لبنان» ووظيفته في السياق الاقتصاديّ والاجتماعيّ العامّ. وهذا يدلّ على تطوّر الوعي الجماعيّ اللبنانيّ بأهميّة النقاشات الاقتصادية، وتأثيرها المباشر في حياة المواطنين والمواطنات، وفي رفاه المجتمع. وبات اللبنانيّون يُكثرون أيضاً من استعمال مصطلحات من نوع «الانتقال من اقتصاد ريعيّ إلى اقتصاد منتج» للتعبير عن مطالبهم. واللافت أنّ المطالب المطروحة تنمّ عن إدراك مجتمعيّ واقعيّ لمدى اختلال البنية الاقتصاديّة اللبنانيّة، وما يجرّه من تداعيات اجتماعيّة واقتصاديّة مقلقة خصوصاً على مجمل العمالة في لبنان.
إن المسح الأخير لـ«إدارة الإحصاء المركزيّ» عن القوى العاملة في لبنان وتوزّعها بحسب الأنشطة الاقتصاديّة لعام 2018، يشير بوضوح إلى انخفاض حصّة الزراعة مثلاً من مجمل العمالة في لبنان من 7,5% في عام 2004 إلى 3,6% في عامي 2018 و2019. كذلك انخفضت حصّة القطاع الصناعيّ من 23,7% في عام 2004 إلى 20,5% في عامي 2018 و2019، فيما ارتفعت حصّة قطاع الخدمات من 68,8% إلى 76% خلال الفترة نفسها. وإذا نظرنا – مثلاً – إلى حصّة العمالة في قطاع الصناعات التحويليّة (Manufacturing) الذي يتميّز بصفات خاصّة لقدرته على تأمين فرص العمل وإنشاء روابط معرفيّة وتكنولوجيّة مع سائر الأنشطة الاقتصاديّة الأخرى، تبيّن أنّ هذه النسبة في المسح المذكور قد انخفضت بشكل بارز.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يُمكن إذاً، اعتبار بُنية العمالة في لبنان انعكاساً لبُنية الإنتاج التي لم يطرأ عليها أيّ تغيير هيكليّ إيجابيّ. بل على العكس، يعاني الاقتصاد اللبنانيّ من غياب أيّ تحسّن ملحوظ في الإنتاجيّة، وكلّ العمالة المستحدثة خلال العقد الأخير تأتي في إطار الأنشطة الاقتصادية ذات الإنتاجية المنخفضة مثل التجارة والبناء، فيما محاولات خلق فرص العمل في القطاعات الخدماتيّة ذات الإنتاجيّة المرتفعة نسبيّاً مثل الأنشطة المصرفيّة والماليّة، كما التأمين، وتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، تبقى محدودةً للغاية.
انطلاقاً من هذا الواقع، لا بدّ من إطلاق نقاش واسع حول دور «مصرف لبنان» المطلوب في تحقيق التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وفي مقدّمها أهداف التحوّل الهيكليّ، وزيادة التشغيل اللائق. هذا النقاش يثير مجموعة أسئلة: ما هي وظيفة «البنك المركزيّ» بشكلٍ عامّ؟ كيف يمكن توصيف دور «مصرف لبنان» خلال العقود الثلاثة المنصرمة؟ هل يمكنه أن يؤدّي دوراً مركزيّاً في دفع عجلة التنمية الاقتصاديّة في المرحلة المقبلة؟ ما هي العوائق أمام قيامه بهذا الدور التنمويّ المطلوب؟

وظيفة البنوك المركزيّة تاريخياً
في الحكمة التقليديّة، إنّ المصارف المركزيّة هي الجهة الأساسيّة المنوط بها تقرير السياسة النقديّة في البلاد، فهي تتحكّم في العرض النقديّ، وتقوم بتوسيعه أو تقليصه من أجل التأثير في متغيّرات الاقتصاد الكليّ وتحقيق أهدافه المرجوة، بما في ذلك تحقيق أهداف لجم التضخّم، والدفع بعجلة النموّ الاقتصاديّ، وخلق فرص العمل.
ولإجراء السياسة النقديّة، يستخدم المصرف المركزي في الغالب أدواتٍ ثلاث. الأولى هي «عمليات السوق الفتوحة» (OMO) التي تنطوي على عمليات بيع وشراء الأوراق الماليّة بشكل عام، والسندات الحكوميّة بشكل خاصّ في السوق الماليّة، بهدف التأثير في العرض النقديّ وأسعار الفائدة. وتُعدّ «عمليات السوق الفتوحة» من الأدوات النقديّة الأكثر استخداماً في المصارف المركزيّة حول العالم. والثانية هي «سعر الخصم» (Discount Rate)؛ وهي عبارة عن سعر الفائدة على الأموال التي يقرِضُها البنك المركزيّ إلى المصارف التجاريّة التي تواجه نقصاً في النقد المتاح من أجل تغطية احتياجاتها من السيولة. وبهذا، يبقى البنك المركزيّ – الذي هو بمثابة «بنك البنوك» – مستعدّاً دائماً لإقراض المصارف التجاريّة من خلال نافذة الحسم. ومن خلال عملية الإقراض هذه يؤثّر «المركزيّ» في مستوى احتياطات النظام المصرفيّ، وبالتالي في قدرة المصارف على خلق النقد. وأمّا الأداة الثالثة، فهي نسبة الاحتياط الإلزامي النقدي (Reserve Requirement Rate)، وهي نسبة من إجمالي الودائع التي يتوجّب على المصارف التجاريّة الاحتفاظ بها لدى البنك المركزيّ من دون فوائد. من خلال هذه الأداة، يتحكّم «المركزيّ» بمقدار الودائع المتاحة للإقراض، أو التي يتوجّب الاحتفاظ بها كاحتياطيات إلزاميّة.
بالإضافة إلى هذه الأدوات الثلاث، يتسنّى للمصارف المركزيّة أن تستخدم أدوات أخرى مثل: تخصيص الائتمان لبعض القطاعات (الاستراتيجيّة أو الواعدة)، أو تحديد متطلّبات رأس المال – وهو مقدار رأس المال الذي ينبغي أن يتوافر لدى المصارف التجاريّة أو المؤسّسات الماليّة الأخرى لتجنّب التعسّر أو الإفلاس – أو حتّى التدخّل في أسواق سعر الصرف.
يجمع المؤرّخون الاقتصاديّون على الدور المهمّ الذي أدّته المصارف المركزية في الدول المتقدّمة كبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية واليابان، وكذلك في الولايات المتّحدة الأميركية، في إعادة هيكلة اقتصاداتها وبنائها في أعقاب «الكساد الكبير» و«الحرب العالمية الثانية» اللذين ألقيا بثقليهما على هذه الدول وعلى العالم أجمع في الثلاثينيّات والأربعينيّات من القرن الماضي.
يذكر جيرالد إبشتاين في ورقته «البنوك المركزيّة كوكلاء في التنمية الاقتصاديّة»، أنّ أدوار المصارف المركزيّة شملت توفير الاحتياجات الاجتماعيّة بالتعاون مع الحكومة غالباً. ويشير إلى أنّه حتّى في البلدان النامية، كانت المصارف المركزيّة أكثر فاعليّة في التنمية الاقتصاديّة، فقد استخدمت هذه المصارف - وفي مراحل متعدّدة - مجموعة متنوّعة من التدابير الرامية إلى تحقيق الأهداف الاقتصاديّة والاجتماعيّة لبلدانها. ومن ضمن هذه التدابير تمويل «المركزيّ» للحكومات، وإدارة الائتمان وتوجيهه وفقاً لِمتطلّبات التطوّر الاقتصادي، وتقديم الإعانات المباشرة التي تستهدف قطاعات معيّنة. وعلاوةً على ذلك، شرعت المصارف المركزيّة تاريخيّاً بإدارة العملات الأجنبية خدمةً للأهداف الوطنيّة، وارتكزت سياساتها إلى فرض ضوابط على رأس المال، وعلى حركة رؤوس الأموال الدوليّة (Capital and Exchange Controls).
كذلك يشير أناند تشاندا فاركار في ورقته البحثية «الأدوار الترويجيّة للبنوك المركزيّة في البلدان النامية» إلى أنّ بلداناً عدّة، وخصوصاً اليابان وكوريا الجنوبية وإيطاليا وهولندا والسويد، منحت الائتمان مباشرة للصناعات والمناطق المتخلّفة تنمويّاً، وكذلك للشركات الصغيرة في مراحل التصنيع المكثّف.
ورغم الأهميّة التاريخية لهذا الدور التنموي للمصارف المركزيّة، فإنّه أخذ يتضاءل بدءاً من أواخر سبعينيّات القرن الماضي، حتى أنهته المصارف المركزيّة جميعها تقريباً، أو هي قيّدت بشدّة استخدام الأدوات النقديّة في عملية تحقيق أهداف التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وواكب هذه الحقبة بروزُ النموذج النيو-ليبرالي بكامل قوّته مكرّساً نهجاً جديداً للمصارف المركزيّة؛ فقد حصَرَ وظيفتها بتأمين الاستقرار الماليّ والنقديّ. وينطوي هذا النهج على مكوّنات رئيسيّة أبرزها: استقلاليّة البنك المركزيّ (Central Bank Independence)، والتركيز على مكافحة التضخّم، والتحكّم بأسعار الفائدة، مفترضاً أنّه بمجرد تحقيق استقرار الأسعار، فإنّه سيتم تحقيق النمو الاقتصاديّ وخلق فرص العمل.

«مصرف لبنان» ومقتضيات التنمية
لا يمكن فصل الوظيفة التي مارسها «مصرف لبنان» منذ تسعينيّات القرن الماضي عن السياق النظريّ والتطبيقي النيوليبرالي لعمل المصارف المركزيّة، فقد اقتصر دوره طوال عقود ثلاثة على تأمين الاستقرار النقديّ، ثمّ على مكافحة التضخّم وإن بنحو أقلّ. وبذلك، تمّت عمليّة تجريد السياسة النقديّة من السياق الاقتصادي والاجتماعي الكائن بشكل كامل، فباتت وظيفته - وبطريقة ميكانيكيّة صرف - تقتصر على تحديد حجم العرض النقديّ بما يتناسب مع هدف تثبيت سعر صرف الليرة للدولار.
إنّ لبنان يُواجه اليوم أزمة مزدوجة تتمثّل بالتعسّر الماليّ وانهيار سعر الصرف من جهة، وتفشّي جائحة كوفيد-19 وما يترتّب عليها من انكماش اقتصادي غير مسبوق من جهة أخرى. عنصرا الأزمة المزدوجة يعوقان مسار نهوض البلاد وإحقاق التنمية. وتُشكّل هذه الأزمة تحدّياً جدّياً لصانعي السياسات الاقتصاديّة في لبنان يتعلق بالاضطرار إلى المقايضة بين مقتضيات الحدّ من التضخّم من جهة ومقتضيات التنمية من جهة أخرى، بما في ذلك تحفيز النموّ والتشغيل. أمّا الأسوأ فهو أن تتّجه السياسة النقديّة في لبنان، وتحت الوصاية المرتقبة لـ«صندوق النقد الدولي»، إلى التركيز بالكامل على تعزيز الاستقرار الماليّ والنقديّ على حساب ضرورات التنمية. لذا، تبرز ضرورة أن يقتدي «مصرف لبنان» بالتجارب التاريخيّة للمصارف المركزيّة في الدول الصناعيّة والنامية على حدٍّ سواء فيحذو حذوها، لا سيّما أنّ هنالك أمثلة أظهرت نجاحاً في التوفيق بين الاستقرار المالي والمساهمة في التنمية، وذلك من خلال إطلاق العنان للأدوات النقديّة في طيفها الواسع، بالإضافة إلى التنسيق الواسع النطاق مع الحكومات لناحية مواءمة السياسات الماليّة والنقديّة.
لا يمكن فصل الوظيفة التي مارسها «مصرف لبنان» منذ تسعينيّات القرن الماضي عن السياق النظريّ والتطبيقي النيوليبرالي لعمل المصارف المركزيّة


لا شكّ في أنّ هناك عوائق أمام «المصرف المركزي اللبناني» للقيام بدور تنمويّ في خضمّ الأزمة المزدوجة. ناهيك عن مواجهته الضغط الناشئ من التجاذبات السياسية، الداخلية منها والخارجية، فلبنان بلدٌ فيه اقتصادٌ مُدَوْلر (Dollarized). ويُشير ارتفاع معدّل الدّولرة إلى زيادة الطلب من قبل المودعين على الدولار الأميركي أو العملات الأجنبية الأخرى، يُقابلُه انخفاض في الطلب على الليرة اللبنانيّة. لقد بلغت نسبة ودائع القطاع الخاصّ في المصارف التجاريّة، والمقوّمة بعملات غير الليرة اللبنانية 78% من مجمل ودائع القطاع الخاصّ في شباط 2020. هذه تُعدّ من المعدّلات المرتفعة جدّاً. وفي الاقتصادات المُدولرة، تَفقِد السياسة النقديّة الكثير من فاعليّتها لجهة تعزيز النمو الاقتصادي والتشغيل والاستقرار الماليّ. ويعود ذلك إلى صعوبة قياس العرض النقديّ المكوَّن من العملة الأجنبيّة، وبالتالي عدم قدرة البنك المركزيّ على إدارة هذه الكتلة النقديّة لغايات تنمويّة. وهنا تكمن أهمية أن يقوم «مصرف لبنان» بحسن إدارة الانتقال نحو اقتصاد أقلّ دَوْلرة، يُمكّنهُ من استرداد السيادة النقديّة، وحسن استخدام أدواتها في خدمة الأهداف التنمويّة.
لا ينبغي أن يتخلّى «مصرف لبنان» تماماً عن سياسة التنمية، بل عليه أن يسعى لسياسة نقديّة تتناسب مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. ولا بدّ أن تكون أهداف المصرف متعدّدةً: الحدّ من الفقر، خلق العمل اللائق، تحفيز النموّ الاقتصاديّ، بالإضافة إلى هدفه في تحقيق الاستقرار الماليّ والنقديّ. لكن لتحقيق هذه الأهداف المتعدّدة، يحتاج «مصرف لبنان» إلى توظيف السياسة النقديّة بطريقة مختلفة، والتنسيق عن كثب مع السياسات الحكوميّة في إطار دعم «خطّة النهوض الاقتصادي وتحقيق التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة». هذا الدور التنمويّ لا ينبغي أن يُفهَم على أنّه مزاحم لِدور القطاع المصرفيّ التجاري، بل هو عامل مساعد للعبور نحو اقتصاد أكثر إنصافاً وعدالةً.

* أستاذ جامعي في علم الاقتصاد.