غرست النيوليبرالية نموّاً معيباً في قوى الإنتاج من خلال تصفية الموارد والحرمان من الوصول إليها، كمخزون الرساميل المساهمة في عملية الإنتاج والوظائف الملائمة، وصولاً إلى تصفية المداخيل الماديّة للشرائح الشعبية الأكثر فقراً. كما أن التغيير الهيكلي والمنحاز إلى رأس المال في البنية الاقتصادية، أدّى إلى إفساد أي نوع من المشاركة الشعبية الأوسع في آلية صنع القرار، الأمر الذي انعكس تراجعاً وانحساراً لدور الدولة، وأفسح المجال أمام منظمات المجتمع المدني المموّلة إمبريالياً. فالنيوليبرالية كأيديولوجيا، لا تعمل عبر اختيار الشخصيات الفاسدة التي تنساق لنيل مصالحها الذاتية، فهي - أي النيوليبرالية - ليست شبكة بُنى رسمية تعيد توجيه عملية النمو والتطوّر في اتجاه تمكين الصالح العام وتحسين الحياة الاجتماعية، فلقد انتهى بشكل حاسم زمن النظام الاجتماعي والتاريخي الذي يجري فيه تكييف رأس المال لمصلحة النموّ في إطار أهداف أيديولوجية محدّدة، ولينحسر على حساب السلعة كقيمة ذاتية التوسع. فقد تحولت الأيديولوجيا هنا إلى طبقة تخلق سياقاً تاريخياً يكون اطّراد الفساد عبره أمراً حاسماً ومؤكداً، فينشأ منطق التناقض الداخلي لعلاقات رأس المال الفساد بالضرورة. كل ذلك من خلال عملية مصادرة كل ما هو اجتماعي بأي وسيلة كانت، سواء عبر الفساد الفكري أو عبر استخدام العنف.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

من ناحية التعريف، تعريف الفساد بحد ذاته هو وسم ما هو فاسد أم لا، أمر مرهون بالقيم الطبقية السائدة. لذا، تكون عملية سلب فائض القيمة الاجتماعي من خلال رأس المال الحرّ وتجارة البضائع، وعبر التبادل غير المتكافئ أمراً قانونياً وشرعياً في ظل النيوليبرالية. فالأسواق الحرّة تصوّر على أنها بنية أخلاقية نتيجة الفوائد والرفاهية التي يفترض بأنها تمنحها. بينما مجرد الرشى الصغيرة التي تسهم لُماماً في رفد موظفي القطاع العام ذوي الأجور المنخفضة، توسم بأنها سلوك فاسد تحت ظل رأس المال. في النهاية يسلّط رأس المال دائرة الضوء على هذا السلوك البسيط ويسمه بالفساد، بينما يُبقي القاعدة الأساس التي ينخرها الفساد الذي يعاني منه جميع البشر في العتمة وطي الكتمان.
بالنسبة إلى رأس المال المكثّف والإطار النيوليبرالي، تتدفّق المداخيل والمعاشات كريع جيوسياسي، بشكل يؤدي إلى تجزئة الاقتصاد النامي: فهو يقسمه إلى جيب من الأغنياء الكمبرادوريين، ومساحة أخرى للفقراء. وتتدفّق كلّ الموارد إلى القطاع الرأسمالي الحديث الذي يخلق، بدوره، وظائف قليلة مقارنة مع حجم الموارد المتدفقة إليه. علاوة على ذلك، تخلق وتمنح الوظائف اللائقة بشكل رئيسي من خلال المحسوبيات وبشكل أقل في القطاع العام، فالقطاع العام ككل يقع بين ذات المطرقة والسندان. في التصور الشائع والمعمّم، يعتقد أن عملية تحصيل هذا النوع من الوظائف الملائمة مرهونة بالكفاءة، بينما، في الواقع، عُمم هذا الاعتقاد كإجراء تخديري للتحكم بالمجتمع. فمع غياب برامج الرعاية الاجتماعية والتوظيف في القطاع العام بالقدر الذي يلبي الطلب والحاجة الشعبية، تُخلق وظائف عامة منخفضة الأجر تعمل كدور الوسادة. بل يمتدّ ذلك الدور ليكون مصدراً للمردود التنموي الطويل الأجل - كما تفعل صناديق الادخار - وكل ذلك يكون مع مراعاة إبقاء التقشّف المالي والتسرّبات التي تحصل للمال العام، بما في ذلك من هروب للعمال ولرؤوس الأموال.
إن نسبة نموّ وتوسّع القطاع العام في البلدان النامية وهشاشة الأمن، أقل بكثير من نسبة نموّ وارتفاع عدد الملتحقين بالقوة العاملة. أصبح تناقض تراكم رأس المال مع النموّ السكاني حادّاً في أفريقيا والعالم العربي. الحلول المطروحة لهذا المأزق هي بالمقاييس المطلقة والنسبية عبر عملية التخلّص من السكان، سواء عبر إبقاء معدّل الحياة أقلّ من المعدل المفترض، أو عبر موت الناس من خلال الحروب المستمرة.
على الصعيد نفسه، ليس بالإمكان المقارنة بين نسبة وحجم الموارد المالية المحصَّلة من خلال الأصول المالية للريع الإمبريالي والتحويلات والمساعدات الإنمائية الرسمية من جهة، وبين تراكم الرأسمالي المادي المرتبط بارتفاع سليم وصحّي في الدخل والإنتاجية - الثروة الوطنية - من جهة أخرى. هنا تعمل التحويلات والمساعدات على نخر المدخرات الوطنية وإنهاء مرونة الاقتصاد في الاستثمار بذاته ومستقبله، بشكل يقضي على أي فرصة تمكّن المجتمعات التابعة من التعافي. ونتيجة لذلك، تميل غالبية الاقتصادات النامية نحو قطاعي الخدمات والقطاعات غير الرسمية المنخفضة الأجر.
من منظور رأس المال، فإن الصراع الداخلي في الطبقة العاملة والذي يدور حول الهويات المصطنعة أو عبر تعميق التمايز بين القوى العاملة، يعزز - إلى جانب ما سيحدثه من مخاطر وأزمات - عملية تحصيل الريع القصير الأمد في كل القطاعات الاقتصادية، بشكل يجعل الحاضر أكثر قيمة من المستقبل. ففي هذه الحالة تسيطر المضاربات والاستثمارات المالية على المشهد الاقتصادي بشكل أكبر من الاستثمار في الصناعة، وهو أمر يدلّ على تداعٍ وانعدام للأمن تعانيه البنى الاقتصادية الحقيقية، وليس عكس ذلك.
من هذا المنطلق، فإن من ويلات السياسات الهوياتيّة، الحدّ من الأصول المالية الوطنية، بشكل يلعب دوراً لصالح رأس المال وطبقته الكمبرادورية. ومع ذلك، لعلّه من المناسب التذكير هنا بالبعد الشامل للمخاطر الجيوسياسية وتأثيرها، بدءاً من حالة تفضيل تحصيل الربح القصير الأمد على نظيره الطويل والإستراتيجي، بالإضافة إلى التحيّز الرأسمالي المؤسّسي، وصولاً إلى النمو القائم أصلاً، والمتوارث، والمرعي إمبريالياً. كل تلك العوامل تسهم في جعل عملية تحصيل الريع المالي أكثر قيمة من الاستثمار المستقبلي في الصناعة أو في مستقبل سليم من الناحية البيئية.
التأثيرات المتداخلة للانقسامات المحليّة المنشأ مع التهديدات التي فرضتها الإمبريالية على الدول الصغيرة تنهي مستقبل تلك الدول. غني عن القول، بأنه في سياق مؤسّسي عديم السيادة، تكون إعادة التوزيع الإاتراضية للثروة بشكل يسمح بتركيز أقل للثروات الخاصة على حساب اهتمام أكبر في التنمية أمراً بعيد المنال. هنا تقوم الكمبرادورية وبناءً على طلب من راعيها الدولي بخنق الدولة النامية بشكل يقوم على عملية ضخّ أصولها ومخزونها من الثروة الوطنية إلى الخارج على هيئة دولارات.
ثروة الطبقة الوطنية الرائدة في الصين تنبع من الإنتاج الوطني إذا استثنينا التعاملات المالية المتشابكة مع الولايات المتحدة


تحدّد العوائد المالية للكمبرادور عبر قنوات الريع الجيوسياسي، كما أنها تهيّئ الأرضية المشتركة لتشابك مع المجال المالي العالمي المحكوم إمبريالياً وعبر حيثيات الانقسامات المحلية. مواقف المضاربين الماليين هي نوع شبيه بـ«معضلة السجين» بحيث إنها ليست مرهونة بالاستثمار في المستقبل عبر الصناعة بل عبر المضاربة في الأصول ذات القيمة المتزايدة والمعدّة للاستيلاء عليها وتحصيلها. وفي ظل هذا الحال تصبح إمكانية القيام بمشروع وطني أمراً مستبعداً بحيث تفتقر الدول إلى أقل مقوّمات التماسك الوطني.
لذا، نرى اليوم جميع الدول النامية في حالة فشل ترثى لها. نظرياً، إن النمو المتزايد للثروة الدولارية لكمبرادور ما، يحضّ جميع أفراد الطبقة الكمبرادورية على السباق نحو تحويل الأصول الوطنية إلى الدولار بمعزل عما ينتجه ذلك من تآكل في الإنتاج. عبر ذلك، تقوم الطبقة الكمبرادورية بإعاقة وتفكيك دولها ما يمهّد الطريق للتراكم المكثّف لفائض القيمة عبر الهدر والحروب المرتبطة به. فرأس المال الكمبرادوري يقوم عبر علاقة متضاربة تستمد الريع أولاً من خلال عملية تصفية الأصول الوطنية وتفكيك الهيكل الإنتاجي الوطني بناءً على طلب القوى الأجنبية، وثانياً عبر إضرام نار الصراعات الداخلية بين مختلف الشرائح، وهو ما لا بد منه لتقوم عملية الإنتاج عبر الهدر. فتشترك هنا مصالح الكمبرادور مع الطرف الخارجي في حزمة مشتركة من الاستثمار والمدّخرات الدولارية، لكنها تتصادم على المستوى الداخلي وطنياً بسبب التنازع على حصص الريع الجيوسياسي.
على النقيض من كل ما تقدم، فإن ثروة الطبقة الوطنية الرائدة في الصين تنبع من الإنتاج الوطني. إذا استثنينا التعاملات المالية المتشابكة مع الولايات المتحدة (وهو أمر أشبه بالورطة والثغرة)، فإن الإنتاج الصيني قائم بشكل رئيسي على العملة الوطنية. فرأس المال الصيني يعاد تدويره على الصعيد الوطني ويزداد بشكل يتناسب طردياً مع المستوى المعيشي للطبقة العاملة. أما بالنسبة إلى ثغرة الدولارات المملوكة خارجياً للأجانب، فيلعب مشروع الحزام والطريق دوراً في إنهاء وتفريغ العبء الناتج من عملية إقراض الإمبراطورية.

* مفكر وأحد كبار أساتذة الجامعة الوطنية في سنغافورة ومعهد لندن للاقتصاد. من أبرز مؤلفاته «تفكيك الاشتراكية العربية» و«الحزام الواقي: قانون واحد يحكم التنمية في شرق آسيا والعالم العربي» و«التنمية الممنوعة».

- تعريب موسى السادة

* مختارات من ورقة عمل أعدّها الكاتب وتنشر في ملحق رأس المال على حلقات