على العمال والمواطنين والمقيمين بشكل عام أن يستندوا في مقاربتهم لواقعهم الجديد إلى مقدّمتين اثنتين؛ أولاهما أن مجموع موجودات المجتمع اللبناني من الدولارات الفعلية لن يتغيّر على المدى القريب، وهو لا يكفي نصف الاستهلاك السنوي المعتاد في لبنان. ثانيتهما الترجمة الفعلية للأولى، ولا غنى عنها عند البحث عن كيفية الاستمرار ضمن هذه الظروف، وهي أن المدّخرات والودائع في النظام المصرفي اللبناني راكمت خسائر تفوق 70% من قيمتها في خدمة تثبيت سعر الصرف وتمويل الاستهلاك العام والخاص على مدى ثلاثين عاماً. بعد التسليم بهذين المعطيين وتالياً إدراك حجم الهوّة بين شكل مستقبلنا وشكل ماضينا القريب ومنظومته، على مجتمعنا اختيار كيفية إدارة أزمته والأولويات التي بالوصول إليها يكون للتضحيات القادمة معنى.أولى هذه التضحيات وأكثرها اتصالاً بكرامتنا الحياتية، هي الانخفاض الحادّ في المستوى العام للأجور ومداخيل العمل إجمالاً، مع تراجع مطّرد لقيمتها الفعلية بما تمثّل من قدرة على الحصول على سلع وخدمات أساسية، إضافة إلى انتفاء الحاجة لنسبة هائلة من القوى العاملة خلال المرحلة القادمة. لذا علينا جميعاً، وخصوصاً المنتجين منّا، التركيز على كيفية خلق قدرة على الاستمرار وإيلاء الاهتمام الأكبر للإجراءات والخيارات التي تحفظ قوة العمل الإنتاجية وتسمح بنموها، عوضاً عما يصون القدرة على تكديس رأس المال أو الحفاظ على الثروات المجموعة في الفترة السابقة من دون تحديد وظيفتها. فالجدوى الحقيقية من تجميع الثروة هي خلق وتوسيع هامش حركة التعامل مع المخاطر العاديّة والاستثنائية، وبناء القدرة على الاستثمار في ما ينمّي القدرات الإنتاجية. في المعادلة التي أرسيناها سابقاً لم يبقَ إلّا القليل من الثروة ومخاطر تفوق المتوقّع، لذا يصبح واجباً ملحّاً، النظر إلى توزّع الثروة المتبقية والوظيفة الممكنة لها، ليتم توزيع الخسائر بحسب الأولويات التي نحدّدها لمجتمعنا.
استكمالاً لرسم مشهد أزمتنا، يقترن اضمحلال حجم موجودات المجتمع بغياب القدرة على إنتاج السلع والخدمات القابلة للتصدير، فاعتاد المقيمون في لبنان على الاكتفاء بتصدير سدس قيمة ما يستوردون. في حالات الأزمات المماثلة تاريخياً، يتراجع سعر الصرف مقابل الدولار بسبب ازدياد الطلب على العملة الصعبة حفاظاً على قيمة الموجودات، ما يعطي الإنتاج المحلّي ميزة تفضيلية لانخفاض كلفته أمام إنتاج بلدان أخرى. لكن التغيّر في سعر الصرف غير مجدٍ في حالة لبنان بسبب غياب الإنتاج! وفي ظلّ غياب أيّ تحرّك سياسي واضح المعالم، سينتقل رأس المال في الحالة الراهنة من القطاعات الإنتاجية النادرة المتبقية، إلى القطاعات الريعية، بما يرافق ذلك من تغيّر في نمط الإنتاج وتفشٍّ أكثر للبطالة واستجلاب الدولار والاستهلاك، وصولاً إلى توزّع المقيمين، وشكل المجتمع الجديد. ومع الانهيار الحاصل سيغدو مجموع الدخل الوطني المستدام في الفترة المقبلة محصوراً نسبياً بالقطاعات العامة التي ستكون بعض مرافقها، كالمطار والمرفأ، مصدر الدولارات الوحيد لأي منظومة تقوم بإدارة الأزمة أو تنتج عنها.
إذاً، يرتسم أمامنا شكل المواجهة التي يجب أن ندفع إليها والأطراف المخوّلة قيادة التفاوض مع السلطة الحالية بجميع أدواتها، لانتقال السلطة سلمياً. وتصبح مصالح القوى المنتجة المقيمة على اختلاف تشكيلاتها هي الطرف الأساس في معركة توزيع الخسائر، والمقرّر الأول في شكل إدارة الأزمة والمنظومة التي ستنتج عنها. ولهذه القوى تشكّلات متنوّعة ومتشعّبة من نقابات عماليّة ومهنية وغيرها من روابط وهيئات، وأطراف سياسية مسؤولة. وبمعزل عن الفوارق بين هذه الفئات، لا يمكن للمنضوين تحتها إلّا التفاوض جدّياً وبشكل موحّد مع مركز السلطة لضمان قدرتهم على الاستمرار خلال الأزمة وبعدها، حتى لو تسبّبت الإجراءات المطلوبة بإضافة أكلاف وخسائر، أي إطالة عمر هذه الأزمة. مركز السلطة الحقيقي يتكوّن من الهيئات القادرة على فرض رؤيتها - أو جزء منها - لسير الأمور، وهي بدأت فعلاً بالظهور بوضوح. باختصار، التوجّهات المتنافسة تنقسم حالياً بين القوى الأساسية المؤلّفة لحكومة حسان دياب، والتي تفاوض صندوق النقد من دون أيّ خطة مسبقة أو حتى معطيات كافية عن واقع البلد، في مواجهة القوى الأساسية الداعمة لحاكم مصرف لبنان والشبكة المصرفية التي تفاوض على الاستمرار بالصيغة التي نعرفها ولَو مع تغيّرات تستوعب الوضع الحالي.
يتراجع سعر الصرف بسبب زيادة الطلب على الدولار وحفاظاً على قيمة الموجودات لكن في لبنان تغيّر سعر الصرف غير مجدٍ بسبب غياب الإنتاج


لكلا المسارين نتيجة واحدة: هدر الوقت. وخلفية واحدة: غياب التخطيط والتعامل مع مصير المجتمع بردود فعل ظرفية. ولكن رغم صعوبة الوضع الراهن، وما قد ينتج عن ذلك من غياب القدرة على تصوّر حلول أو هامش للمناورة، للعاملين المقيمين أوراق قوّة عدّة تتيح لهم الجلوس على رأس طاولة المفاوضات وفرض رؤيتهم كخيار بديل من اللاخيارين المذكورين. ركيزة هذه القوة هي الفئة المعنيّة بمآل الأمور، من عددها الهائل الذي يشمل أكثر من نصف المقيمين وحجم مدّخراتها في الصناديق التقاعدية والتعاضدية، وصولاً إلى امتلاكها هيكليات تنظيمية تسهّل تحركها بفعالية وامتلاكها شرعية مثبتة من خلال تمثيلها لجميع التقسيمات المجتمعية الموجودة في لبنان. لعلنا نذكر تجربة هيئة التنسيق النقابية والمواجهة لفرض حقوق العمال المنضوين تحتها، كما يمكن استعادة عدد هائل من التجارب المماثلة حول العالم آخرها في فرنسا حيث شُلّت حركة النقل العام في باريس لأشهر بعدما أعلن ماكرون نيّته إدخال تعديلات على نظام التقاعد ففرضت النقابات، بالإضراب، التفاوض على شكل التعديلات المرتقبة. بمعنى آخر، يمكن الفئات المنتجة، في حال انتظمت ضمن مشروع واضح المعالم، أن تكسر السلطة التي تسير نحو تدمير ممنهج للمجتمع مع صندوق النقد الدولي أو من دونه، من خلال تحمل مسؤوليتها تجاه هذا المجتمع.
قلب موازين القوى مسؤولية شخصية يحملها كلّ منّا انطلاقاً من موقعه ومسؤوليته الفردية ضمن المنظومة الموجودة، وانتظار مصيرنا فرادى، هو استنساخ لتجربة السلطة في التعامل مع الإفلاس الحاصل منذ 2016 على الأقل. الوصول إلى موجودات المقيمين بات مستحيلاً، واحتمال الانهيار الكامل للأسر المنتجة يكبر وسيجرف قريباً أي قدرة على مجابهته، لذا على جميع المعنيين إنتاج حلول تضمن القدرة على الاستمرار. على القوى المعترضة الوصول إلى تشخيص مشترك يؤكّد مصيرية الأزمة المالية ويسمح بتثبيت أسس المعركة القادمة وتحديد ما يمكن المساومة عليه وما هو أساسي لبناء مجتمع ما بعد الأزمة. لن يقوم هذا المجتمع من دون قيام دولة قادرة تتمتع بشرعية مباشرة من مواطنيها ومستمدة من قدرتها على التعامل مع واقعهم، وهذا هو جوهر طرحنا السياسي في حركة «مواطنون ومواطنات في دولة». الفئة المنتجة، عماد إعادة إنتاج مجتمعنا والأكثر قدرة على الأخذ بزمام المبادرة، مدعوة لتحمّل مسؤوليتها بالنضال الشرس نحو دولة مدنية تلغي امتيازات الطوائف وقدرتها على تعطيل الطروحات الجدية وتعمل على فرض إجراءات أساسية تحفظ ما تبقى وتؤسس لمجتمع سليم يحافظ على أغلى ما يملك من شباب وخبرات ومنتجين. إنقاذ فئة دون أخرى أضحى مستحيلاً، ويضيّع فرصة جوهرية قد لا تتكرر، لذا أصبح اتّحاد العاملين، كل العاملين، خلف الدولة المدنية واجباً.

* عضو حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»