تتطلب عملية استنساخ النموذج الصيني إعادة صياغة هيكلية السلطة ومراكز القوى بشكل منحاز إلى الطبقة العاملة. لن يكون ذلك سوى تحت مظلّة نفوذ الصين. هذا الأمر يقتضي تشكيل جبهة وطنية مشتركة ضد الطبقة الكمبرادورية وراعيها الإمبريالي. ورغم أن العديد من الكمبرادوريين يتوجّهون إلى الصين للحصول على التمويل، إلا أن نموّ الصين بحدّ ذاته، يضعف الأساس الذي تقوم عليه الطبقة الكمبرادورية لأنه يقوّض الهيمنة التي تقودها الولايات المتحدة وسطوتها المالية.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

من ناحية التعريف، فإن رأس المال عبارة عن حرب تخوضها الأطراف ضد بعضها البعض. إلا أنه في الوقت نفسه، تؤسّس لأزمة وجودية لجميع الأطراف المنخرطة فيها. وفي ما يتعلق بالاحتفاظ بفائض القيمة، فإن محاكاة النموذج الصيني تشترط قيام دولة اجتماعية تحدّد سياساتها بشكل مستقل، أي إن لها القول الفصل في صياغة خياراتها السياسية. بالإضافة إلى الإجراءات الصناعية والتجارية وحساب رأس المال، التي تقوم بالحفاظ على الموارد وتعيد تدوير فائض القيمة الاجتماعي على المستوى الوطني. وفي ما يتعلق بالتسريب الذي يحدث لهذه الموارد نحو الخارج، وتالياً التأثير المباشر على النمو، يبيّن ويكس (2002) أن أداء دول أميركا اللاتينية كان ضعيفاً إذا قورن بأداء دول شرق وجنوب آسيا التي توسم باقتصادات ذات فعالية عالية. يعود ذلك، إلى كون الديون المتراكمة على الدول اللاتينية شكّلت عبئاً استنزف مدّخرات هذه الدول. من هنا كان التحكّم بالتدفقات المالية وتنظيمها صمام أمان للتنمية في الصين.
تتجلى التنمية من خلال ممارسة الطبقة العاملة لقوّتها ضمن الصراع الطبقي. هذا بحدّ ذاته المعيار والمقياس الحقيقي للديمقراطية. لذا، يكون التطور والنموّ في الصين، وعملية تخفيف حدّة الفقر دليلاً، بحكم الأمر الواقع، على أن العمال يصوّتون بشكل يومي على القرارات في الدولة، إنها الديمقراطية الشعبية، كما أكد الراحل سمير أمين (2016)، وهو ما يشير إلى السيادة على القرار السياسي.
إن التحكم في تدفقات فائض القيمة المتمثّلة نقدياً، من خلال التحكّم في حساب رأس المال والتصنيع المستقلّ، أمران أساسيان لتجربة التنمية الصينية. بعبارة أخرى، فإن الاستقلال هو حجم سيادة الناس، عبر دولتهم، على القرارات التي تحدّد معالم حياتهم اليومية. بينما في أماكن عدة، أدّت محاكاة النموذج الديمقراطي الأوروبي إلى غياب ملحوظ للدمقرطة كعملية تجسيد لسلطة الطبقة العاملة على الدولة. فالديمقراطية الأوروبية تطوّرت كآلية لتوزيع الموارد إلى شرائح من الطبقة العاملة بهدف ترسيخ حكم رأس المال المركزي وتوسيع الإمبريالية.
دولة الرفاه الأوروبية هي تجسيد لتدوير رؤوس الأموال في الداخل الأوروبي، وهي ديمقراطية اجتماعية تولد الفاشية في الداخل والإمبريالية في الخارج (برودر، 1933).
إن نقطة برودر الرئيسية هنا، هي أن الديمقراطية الاجتماعية تصل إلى هذه الحالة من خلال تأكيد حصريّة مجال تدوير رؤوس الأموال أوروبياً، على النقيض من تأكيد تجانس الإنتاج وظروف الأجور في جميع أنحاء العالم وتحصيل ذلك بأيّ وسيلة ممكنة. إن سيطرة الطبقة العاملة على الدولة ديمقراطياً، أمر مرهون بأن يفضي ذلك إلى تحسين إيجابي على الأحوال المعيشية للمواطنين وغير المواطنين، وخارج الحدود الوطنية أيضاً بما يمثّل الامتداد الطبيعي للطبقة العاملة العالمية والعابرة للحدود. إن سبب استخدام عبارة «بأي وسلية ممكنة» هو اعتقاد بأن العنف هنا ضروري -وإن لم يكن الخيار الوحيد - كوسيلة للدفاع عن النفس ضد همجيّة رأس المال.
تحصيل التجانس في الإنتاج وظروف الأجور بأيّ وسيلة ممكنة


تحدّد درجة المشاركة الشعبية مدى فعالية عملية إعادة توزيع الموارد، على عكس المسارات السياسية مثل مراقبات صناديق الاقتراع الموجهة لإعادة إنتاج حكم الطبقة الرأسمالية نفسها. وفي سياق العالم النامي الذي يتعرض غالباً للهجوم الإمبريالي تصبح فعالية مراقبة أو الحفاظ على مكاسب التنمية عملية صيرورة تعلم مستمرة، تنمو من خلال حجم المسافة التي تحافظ عليها الطبقة الوطنية الحاكمة من الإمبريالية: فك الارتباط، فالاستقلال هنا بحد ذاته عملية إنهاء الاستعمار على التنمية الوطنية، بما في ذلك إعادة اختراع مفاهيم التنمية ولغتها وممارستها. فالمساءلة المستمرّة أمام تنظيمات ديمقراطية الشعبية ترفع العائد الاجتماعي لإعادة التوزيع بمرور الزمن. ويشكل الاستقلال الخيط المشترك الذي يجمع كل الأبعاد المؤدية إلى التطور السليم من خلال تأميم المعرفة و الموارد.
من الصائب القول إن التنمية تتطلب الديمقراطية، لكن ليس أي ديمقراطية، وبالتأكيد ليست عمليات الديمقراطية الانتقائية على النمط الأوروبي. فحكم مجموعة من الأشخاص ممن يمثلون وجه رأس المال ليس ديمقراطية. وبالمثل، فإن قيام الطبقة العاملة المركزية بالتصويت لصالح حكومة إمبريالية تقصف وتغزو دولة نامية ليس ديمقراطية أيضاً. تقوم الطبقة العاملة المفتونة بإجراءات التصويت لمرة واحدة بإعادة إنتاج رأس المال وبشكله الأكثر تكثيفاً أي الإمبريالية، حيث إن التصويت للحروب الأوروبية-الأميركية هو تصويت لحصّة من الريع الإمبريالي.
تصوّت الطبقة العاملة في المركز لصالح الطبقة الإمبريالية. وبينما تؤثّر الظروف المادية في وعيها، فإن الطبقة العاملة في المركز تظهر تقارباً مع المنظور الأيديولوجي الذي يعكس غاية الشركات في تحقيق الأرباح القصيرة المدى. وكما في الثقافة الشعبية، يلخص القول المشهور: «ما هو جيد لشركة جنرال موتورز جيد لأميركا» روح هذا التقارب. من هنا يطرح السؤال: لماذا تفقد المؤسسات الوطنية استقلالها؟ لماذا خانت البرجوازية الوطنية في أقطار عدة الأهداف الوطنية؟
تحلّ الطبقات محل الدولة وتحدّ من حدودها الوطنية، لتلعب دور شكل من أشكال التنظيمات الاجتماعية، لتستمر صيرورة التاريخ من خلال عملية الإحلال هذه، ففي ظل رأس المال، يؤول التراكم إلى التدهور الحتمي بشكل يدمر الإنسان والطبيعة، فيخلق براعم جديدة من جهة ويقوم بتدمير غيرها على الجهة الأخرى.
الصين هي آخر فرصة جديدة يكون تطورها لعنة لرأس المال، فتراكم خمسمائة عام من الثروة عبر الهدر من خلال قانون فائض القيمة بشكل فاضح، تُوج تاريخياً بالإيديولوجية المعروفة باسم النيوليبرالية.
تطورت العلاقات الدولية اليوم إلى تناقض مركزي بين الصين المعولمة مقابل الولايات المتحدة الحمائية (لاوسين، 2018). ليكون الاعتداء على إيران وسوريا وفنزويلا والحرب في أوكرانيا عقبات أمام توسع السوق الصيني، حيث إن الاعتداء على إيران يعرض أمن الطاقة الصيني للخطر.
انطلاقاً من هنا، تدافع الصين عن نفسها من خلال الاشتراكية وتعزيز الجبهة الداخلية، كما أنها تساعد أولئك الذين يقعون تحت عبء العقوبات الإمبريالية وترفع مستويات المعيشة داخلياً. مع ذلك، فإن هيمنة الأيديولوجية الغربية تتسلل إلى كل زاوية وركن للعقل الاجتماعي العالمي، بما يضبب على الرؤية السليمة. فعلى سبيل المثال تخفي لحظة بيع علبة الكوكا كولا كل شبكة العلاقات القاهرة والحقيقة التي أدّت إلى عملية البيع هذه. ثم تختفي معها مسؤوليتنا الاجتماعية.
يقوّض صعود الصين نموّ الحضارة الأوروبية. هي الخزان الثقافي الذي مكنت أخلاقياته عملية التراكم عبر الهدر. فإيقاف هذه الحضارة هو ضرورة تاريخية. وبالتالي، علينا تقدير واعتبار عملية التقويض والإيقاف هذه، كممارسة للمسؤولية الاجتماعية. وفي ما يتعلق بالحجّة المضادة التي تسم الصين بالإمبريالية الصاعدة، فتتم هنا عملية قفز على واقع أن التنمية الصينية نشأت عكس التيار ورغم الصعاب، وتدور حول التعبئة الهادفة للموارد بطرق تحسن مستويات المعيشة ومعها الموارد الأساسية المتاحة لحرب الشعب.
لن يدّخر الغرب سلاحاً لإيقاف تقدّم الصين. ما يبرز في أرض الواقع اليوم، هو أن الدول الأصغر التي هي كيانات تابعة للإمبراطورية، أو امتدادات عضوية للإمبريالية، أو مستعمرات استيطانية ستقطع قريباً حبالها السرية مع انحسار إمبراطورية الولايات المتحدة. إن ما يجب أن يخشاه هو انتصار الإمبريالية وليس صعود الصين.
تنشأ حرب الشعب نظراً إلى كون التحسّن في مستويات المعيشة أو الزيادة في القوة الصينية، بالنسبة إلى رأس المال يقوّض أساس خلق فائض القيمة والقوة التي تنشرها الولايات المتحدة لانتزاع وتحويل القيمة من خلال الأقنية المالية. إن أسباب الحرب المستمرة هذه ليست جديدة كما أخبرنا لينين، إن الشرط المفصلي هو أن الصين تساعد في تطوير دول العالم الثالث التي يعني نهوضها واستقلالها لعنة للإمبريالية. فمن أجل خلق فائض القيمة كان يجب تفكيك دول العالم الثالث.
تستشعر الإمبريالية هذا الخطر الوجودي، ولذا تصعّد هجمتها التي تقودها الولايات المتحدة على الصين. بالتأكيد إذا أرادت الصين البقاء، فعليها أن تموّل الجبهة الوطنية والطبقات العاملة في أماكن بعيدة. عليها أن تقاوم، ومن الأفضل أن تقاتل مع الطبقة العاملة حول العالم إضافة إلى تصنيع صواريخ أسرع من الصوت.

* مفكر وأحد كبار أساتذة الجامعة الوطنية في سنغافورة ومعهد لندن للاقتصاد. من أبرز مؤلفاته «تفكيك الاشتراكية العربية» و«الحزام الواقي: قانون واحد يحكم التنمية في شرق آسيا والعالم العربي» و«التنمية الممنوعة».
- تعريب موسى السادة