من أولى هندسات حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، كانت تلك التي نفّذها من أجل شركة طيران الشرق الأوسط «ميدل إيست». لم تكن هندسة مصرفية يمكن أن تُبرّر في إطار المادة 70 من قانون النقد والتسليف التي تمنحه صلاحيات واسعة من أجل «الحفاظ على سلامة القطاع المصرفي»، بل كانت هندسة ذات طابع زبائني واضح المعالم لا تحقق سوى انتفاع مباشر لأرباب عمله. ببساطة، كانت هندسة من أجل «ردّ الجميل»، لأنهم انغمسوا في تحميل الشركة ما لا طاقة لها عليه، وكانوا راغبين في وضع اليد عليها مجدداً بعد «تنظيفها». كان الأمر يتطلب شطب الخسائر. سلامة، كأي موظّف، حقق لرؤسائه حلمهم بواسطة «هندسة» تحوّل المال العام إلى خاص. كالسحر تماماً. فجأة، ربحت الشركة 156 مليار ليرة، وعادت إلى سكّة الربحية بعدما كانت غارقة بخسائر متراكمة تفوق قيمتها 700 مليون دولار.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هذه الهندسة وردت في البند 21 من البيانات المالية لشركة طيران الشرق الأوسط عن عام 2004 بعنوان: «دعم من المؤسسة الأمّ». ينصّ هذا البند على الآتي: «في عام 2001 منح مصرف لبنان، مساهم الشركة الرئيسي، شركة طيران الشرق الأوسط الخطوط الجوية اللبنانية ش.م.ل، إعانة مالية مكوّنة من خلال إعادة شراء بفائدة منخفضة بنسبة 1% ومن دون حقّ الرجوع، سندات خزينة لبنانية تحمل فائدة اسمية بنسبة 14٫14% سنوياً وتستحق نصف سنوياً على مدّة سنتين. لقد جرى تمويل هذه السندات في الأصل بواسطة قرض تمويلي بقيمة 600 مليار ل.ل. ومن ثمّ استرداد القرض التمويلي هذا من عائدات الحسم التي نتج منها فائض بمبلغ 156 مليار ليرة ل.ل. كي يستعمل لتمويل كلفة إعادة هيكلة الشركة. لقد كانت حركة الإعانة المالية هذه خلال السنة كما يلي...».
باختصار، هذا يعني أن مصرف لبنان أقرض شركة طيران الشرق الأوسط مبلغ 600 مليار ليرة بفائدة 1%، وفرض عليها الاكتتاب بسندات الخزينة بفائدة 14٫14%، ثم أعاد شراء هذه السندات منها بفائدة حسم أتاحت لها تحقيق فائض بقيمة 156 مليار ليرة، استعمل من أجل إعادة هيكلة الشركة. في عام 2001 كانت قيمة الخسائر السنوية 34 مليون دولار، لكنها تحوّلت إلى ربح بقيمة 3 ملايين دولار في 2002.
لا تعترف الشركة بهذا الأمر. ففي تقارير مجلس الإدارة الكثير من مدح الذات بقدرات ومواهب رئيس وأعضاء مجلس الإدارة. بحسب التقرير المنشور على موقع الشركة الإلكتروني عن عام 2016، فإن ما تسميه الشركة «إعانة مالية» ليس مذكوراً ضمن الخطوات التي نفذت من أجل الانتصار على «الخسائر». يزعم مجلس الإدارة أنه نفّذ خطّة إصلاحية لإطفاء خسائر بقيمة 700 مليون دولار، وهو يفاخر بأن الشركة أصبحت رابحة ابتداء من 2002 وأنها وزّعت أنصبة أرباح بقيمة 55 مليون دولار كل سنة خلال السنوات التسع الأخيرة، أي ما مجموعه 495 مليون دولار من خلال الآتي: إغلاق الخطوط الخاسرة، صرف فائض الموظفين؛ من بينهم 1200 صرفاً قسرياً، و300 صرفاً طوعياً، زيادة إنتاجية الموظفين، تحديث الأسطول، تشغيل الطائرات خلال حرب تموز، السلامة والأمن والجودة، التحليق فوق سوريا، الانضمام إلى تحالف سكاي تيم، تحالفات تجارية، بناء مركز الشحن الجوي، مركز التدريب الإقليمي… هل يخجل مجلس الإدارة بهذه الإعانة المالية، تماماً كما يخجل من عرض تقارير الشركة السنوية المدققة والصادرة عن الجمعية العمومية على موقعه الإلكتروني؟
لا تزال الشركة إلى اليوم تنعم بنفقات بملايين الدولارات، سببها الأساسي تلك الهندسات التي حوّلت مسار البيانات المالية من الخسائر إلى الربح. فقد أتيح للشركة تحديث أسطولها في إطار صفقات غير شفّافة بقيت سريّة لأسباب مجهولة، وصرف عشرات الموظفين، فقط ليستبدلوا زبائن جدداً لزعماء السياسة المسيطرين على الشركة بواسطة وكيلهم سلامة، إذ يقال إن عدد موظفي الشركة بات يفوق طاقتها الفعلية، وينسحب الأمر على المنشآت والمنافع وسواها من تلك التي كبّدت الشركة عشرات ملايين الدولارات من مبرّرات واضحة لهذا التوسع. وشركة طيران الشرق الأوسط هي عقدة أساسية في عملية التدقيق التي يفترض أن تُكلّف شركة تدقيق جنائي للقيام بها. فهي إلى جانب مجموعة من الشركات التي يملكها مصرف لبنان أو يملك حصّة فيها، ستخضع لعملية تدقيق جنائية قد تكشف الكثير من المستور. وهي إلى جانب الحسابات العامة لمصرف لبنان، حيث أدرجت الكثير من النفقات العامة، ستكشف جزءاً من المستور أيضاً.