كان لافتاً أن مؤشّر الأسعار الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي تضمّن ارتفاعاً هائلاً في أسعار شهر أيار 2020 بلغ 56.5% مقارنة مع أيار 2019، ومن ضمنه أيضاً ارتفاع في أسعار المواد الغذائية بنسبة 189.8%. ربما لن يكون مستغرباً هذا المستوى من ارتفاع الأسعار قياساً بما يحصل في السوق اليوم، إلا أن المؤشّر هو آلية علمية تحدّد ارتفاع الأسعار شهرياً، وبالتالي لا يجب أن تكون مقارنتها، بأيّ حال من الأحوال، مع ما يحصل اليوم في السوق.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لذا، يصبح التشكيك العلمي في مستوى تضخّم الأسعار الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي، مباحاً في حالات ظهور علامات تشير إلى وجود خلل ما. من أبرز العلامات التي تتيح التشكيك، تكمن في توقف صدور مؤشّر الأسعار لنحو ثلاثة أشهر، ثم عندما صدر تضمّن قفزات هستيرية ابتداءً من شهر آذار، أي في الفترة التي أُغلقت فيها البلاد وأُعلنت التعبئة العامة. وما يزيد الشكوك، هو ما ورد في التقرير الصادر عن الإدارة نفسها لجهة فقدان أسعار بنسبة 47% من السلع في آذار وبنسبة 80% في نيسان وبنسبة 62% في أيار. كذلك، فإن أسعار شهر نيسان جُمعت في آخر يومين من شهر نيسان فقط ولا تشكل كامل الأسعار في هذا الشهر.
إزاء الأسعار المفقودة لجأت الإدارة إلى اتباع أكثر من طريقة لتقديرها، بالاستناد إلى آلية أوصى بها صندوق النقد الدولي تُسمّى «الإحلال» التي تتم عبر «احتساب أسعار الأصناف المفقودة عن طريق ضرب سعر الفترة السابقة بمتوسط تغيّر السعر في الأصناف المتاحة من الفئة نفسها. إذا كان الإجمالي الأولي مفقوداً يتم احتساب أسعاره استناداً إلى متوسط تغيّر السعر لأعلى أقرب مؤشّر أسعار للمستوى المتاح» بحسب تقرير إدارة الإحصاء المركزي. كذلك، أشارت الإدارة إلى أنها «تشاورت مع مجموعة واسعة من نقاط البيع في ما يتعلق بالأسعار في أيار. وأشار المشاركون إلى أن أسعار منتجات محددة، مثل الطعام والملابس والأدوات الإلكترونية والإقامة في الفنادق قد ارتفعت. وتم احتساب متوسط التغيّر في سعر صرف الدولار بين نيسان وأيار لتقدير الأسعار المفقودة. تم تطبيق ذلك فقط على عدد محدد من المنتجات التي تأثرت بشكل مباشر بالتغيرات في سعر صرف الدولار الأميركي».
ظهرت علامات تشير إلى خلل تقني في مؤشر الأسعار أدى إلى المبالغة بمعدلاته


طبعاً، التشكيك لا يشمل أصل حصول ارتفاع في الأسعار، بل يستهدف تبيان المستوى الفعلي لهذا الارتفاع في الوقت الذي حصل فيه ونمط تطوّره. فهل صحيح أن الأسعار ارتفعت في هذه الأشهر بالمستوى الذي أوردته إدارة الإحصاء المركزي: ارتفاع المؤشّر العام للأسعار في شباط مقارنة مع الشهر الذي سبق بمعدل 1.38%، ثم ارتفاعها في آذار بنسبة 7.29%، وفي نيسان 25.36% وفي أيار 6.94%؟ وهل صحيح أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت في شباط مقارنة مع الشهر الذي سبق بنسبة 4.58%، ثم 153.93% في آذار، و79.48% في نيسان، و14.85% في أيار؟
الإجابة على السؤال تقود نحو اتجاهات متعدّدة مرتبطة بآليات احتساب مؤشر الأسعار والمقارنات التي يمكن الاستناد إليها. فإلى جانب الأسعار المفقودة، ورد أيضاً أن بعض الأسعار في نيسان جُمعت خلال يومين فقط، كما أن مؤشّر الأسعار في الفترة ما بين آذار وأيار عكس فوراً تطوّر سعر الصرف بينما لم تشهد السوق في تلك الفترة تعديلات سريعة في الأسعار ربطاً بارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية. فعلى سبيل المثال، إن مؤشّر الإحصاء المركزي في آذار مقارنة مع الشهر الذي سبق كان 7.29%، ثم قفز في نيسان مقارنة مع آذار إلى 25.36%، وعاد لينخفض في أيار مقارنة مع نيسان إلى 6.94%. لذا ليس طبيعياً أن يتذبذب المؤشّر في هذه الفترة، بل أن يكون ارتفاع الأسعار فيه نوع من الثبات ليعبّر عن تدهور دراماتيكي في السوق.
في المقابل، صدر مؤشّر أسعار مؤسسة البحوث والاستشارات، وأشار إلى ارتفاع الأسعار في آذار مقارنة مع الشهر الذي سبق بمعدل 3%، ثم 4% في نيسان، و11.3% في أيار. هذا الثبات من شهر إلى الشهر الذي يسبق، هو نمط ينسجم أكثر مع تطورات سعر الصرف وحقيقة انعكاسها متأخرة في أسعار السلع والخدمات (خلافاً لما بدأ يحصل ابتداءً من حزيران حين بدأت أسعار الصرف تنعكس مباشرة في أسعار السلع).
وهناك عدّة أمثلة تشير إلى أن التضخّم في الأسعار الوارد في مؤشّر الإحصاء المركزي، قد يكون غير دقيق. فهل من المعقول أن أسعار اللحمة ارتفعت في أيار 2020 مقارنة مع أسعار 2019 بنسبة 206%؟ فبحسب مؤشّر مؤسسة البحوث، ارتفع سعر اللحمة من 15 ألف ليرة إلى 32 ألف ليرة في أيار (اليوم 45 ألف ليرة). وهل صحيح أن أسعار التبغ والتنباك ارتفعت في أيار 2020 مقارنة مع أسعار 2019 بنسبة 210%؟ مؤشّر مؤسسة البحوث يحدّد الارتفاع من 1000 ليرة إلى 2000 ليرة للسجائر المحلية، ومن 3300 ليرة إلى 5600 ليرة للسجائر المستوردة، أي بنسبة 100% و70% على التوالي، وليس 210!
ما الذي ينتج عن هذا الخلل في احتساب الأسعار؟
إذا لم يتم تصحيح الأسعار بشكل واقعي في مؤشّر إدارة الإحصاء المركزي، فإن الخلل سيتراكم في الأشهر المقبلة وسيكون تصحيحه عرضة لتقديرات أبعد من الواقع. وفي حالة عدم التصحيح، فإن ارتفاع الأسعار اللاحقة سيبدو متواضعاً رغم أنه في الواقع يجب أن يبدو أكبر. فبدلاً من أن يقفز المؤشّر قفزات كبيرة انسجاماً مع ارتفاع سعر الدولار شبه الفوري والكبير (وصل إلى أكثر من 8000 ليرة في نهاية حزيران) سيتقدّم المؤشّر ببطء إلى حين سدّ الفجوة الناجمة عن نظرية «الإحلال»، وهذا ما حصل بالتحديد في مؤشر أيار مقارنة مع نيسان.
ومن نتائج هذا الخطأ التقني الذي أدّى إلى ارتفاع كبير في الأسعار في شهر أيار، أنه يدفع بشكل ما، نحو استنتاجات بأن هناك اعتبارات سياسية، أو إدارية، أو حتى تقنية لتعظيم المخاوف وتستدرج إدخال لبنان في حلقة التضخّم المفرط. فأصحاب المصالح ينظرون إلى تضخّم الأسعار باعتباره مؤشّراً إلى مسار مستقبلي، وصدوره بهذه الطريقة يقودهم بطريقة مضلّلة نحو التسعير استناداً إلى نتائج خاطئة عن تسارع في وتيرة ارتفاع الأسعار اعتماداً على بيانات فيها فجوات كبيرة من هذا النوع، وهو بالتالي يعزّز منابع الخوف ويؤثّر مباشرة على سلوك التجار والمستهلكين.