تكشف إحصاءات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في الأشهر الستة الأولى من الأعوام 2017 - 2020، عن تحوّل جذري في مسار سوق العمل من رصيد إيجابي إلى رصيد سلبي سيبقى أثره لفترة طويلة. ففي السنوات الماضية، كان صافي حركة الاستخدام والترك من العمل إيجابياً دائماً، أي إنّ عدد الأجراء الجدد المسجّلين في الصندوق كان دائماً أعلى من عدد الأجراء الذي تركوا العمل. رصيد هذه الحركة بدأ ينكمش تدريجياً في السنوات الثلاث الأخيرة، وصولاً إلى تحقيق رصيد سلبي في النصف الأول من 2020. في النصف الأول من 2017 سُجّل في الضمان استخدام 52682 أجيراً، وسُجّل ترك 40200 أجير، أي برصيد إيجابي بلغ 12482 أجيراً.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وفي النصف الأول من 2018، سُجّل استخدام 48210 أجراء، مقابل ترك 40767 أجيراً برصيد إيجابي يبلغ 7443 أجيراً، ثم في نهاية حزيران 2019 سُجّل استخدام 43485 أجيراً مقابل ترك 37799 أجيراً برصيد إيجابي بلغ 5686 أجيراً. إلّا أنه في النصف الأول من عام 2020 سجّل استخدام 12438 أجيراً مقابل ترك 21450 أجيراً برصيد سلبي يبلغ 9012 أجيراً. وباستثناء عوامل الإقفال والتعبئة العامة التي أوقفت أو حدّت كثيراً من تصريح المؤسسات عن حركتَي الاستخدام والترك، فإنّ حركة الاستخدام تباطأت بنسبة 8% في 2017 وبنسبة 10% في 2019 وبنسبة 71% في 2020، في مقابل تذبذب حركة الترك في السنوات المذكورة، إذ سُجّلت زيادة بنسبة 1% في 2018، وانكمشت بنسبة 7% في 2019 ثم بنسبة 43% في 2020.
هذه الإحصاءات تعبّر عن مسار أكثر من كونها تعبّر عن حقيقة ما يحصل في سوق العمل. ففي الحالات الطبيعية يتأخر أصحاب العمل في التصريح عن الاستخدام بضعة أشهر، ثم جاء الإقفال الذي استمرّ لأكثر من أسبوعين والتعبئة العامة لأكثر من أربعة أشهر لتمنع حصول حركة تصريح عادية وتؤخّر عملية التصريح لفترة أطول بكثير من المعتاد. هذا يعني أن الأرقام الإجمالية لعام 2020 تعود بضعة أشهر إلى الوراء عندما كانت الأزمة في بداياتها، ولم يكن جلياً أنها ستتطوّر إلى الحالة الراهنة. ويُضاف إلى ذلك، أن حركة الإحصاءات في الضمان الاجتماعي تشوبها ثغرات. فهي تُظهر الحركة الإجمالية للاستخدام والترك من دون أن تشير إلى الهوية الاجتماعية والاقتصادية للوافدين أو للخارجين من سوق العمل سواء كانوا مستخدمين سابقين أو وافدين جدداً ولا تحدّد أعمارهم ولا مداخيلهم، كما أنها تعتمد تصريحات أصحاب العمل الذين تدفعهم مصالح الربحية نحو تقليص حجم التصريح عن الأجر الحقيقي المدفوع عن الأجير لتقليص قيمة الاشتراكات المترتبة عليهم للضمان الاجتماعي.
بمعزل عن هذه الثغرات، فإنّ النتيجة حتى الآن، تشير إلى خروج 9012 أجيراً من سوق العمل بشكل نهائي بعدما كان الرصيد السنوي يبلغ 12482 أجيراً إضافياً في 2017. لا يمكن التعامل مع هذه العيّنة إلّا على أنّها تعبّر عن مسار سوق العمل النظامي. فالسوق غير النظامية، أو العمال الذين يعملون بشكل غير نظامي ولا يصرّح عنهم أصحاب العمل، هم الأكثر هشاشة والأكثر عرضة للصرف من دون أيّ حماية قانونية. بحسب تقرير «القوى العاملة والأحوال المعيشية في لبنان 2018-2019» الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي، فإنّ سوق العمل تشمل 873800 عامل يعملون بشكل غير نظامي من أصل 1.59 مليون عامل. فإذا كانت نسبة ترك العمل في الضمان تتراوح بين 15% و16% من مجمل عدد المضمونين في السنة نفسها، فإنّ نسبة الترك من العمل في السوق غير النظامية، هي أعلى بكثير. لذا، إن حقيقة ما يحصل في سوق العمل والكارثة الاجتماعية المترتبة على ذلك، ليست واضحة بعد في انتظار إحصاءات دقيقة عن سوق العمل النظامية، وتقديرات عن سوق العمل غير النظامية.
اللافت أنّ سحب التعويضات من الضمان الاجتماعي من فئة «ترك العمل» (هناك فئات سحب التعويض بعد مرور 20 سنة، بلوغ السن، الزواج، العجز، الوفاة) سجّل ذروته في عام 2018 مع سحب 15308 أجراء تعويضاتهم مقارنة مع 14344 سحب تعويض في 2017. ثم بدأ ينخفض في 2019 نحو 13160 سحب تعويض. وفي النصف الأول من 2020 بلغ 4786 سحب تعويض. في الواقع، إن نسبة سحب التعويض إلى ترك العمل بلغت 35.6% في 2017، و27.5% في 2018 و34.8% في 2019 و22.3% في النصف الأول من 2020. ورغم اختلاف أسباب ترك العمل عن أسباب سحب التعويض، إلّا أنّ من الواضح أنّ الذين يسحبون تعويضاتهم في مرحلة مبكرة (المراحل المبكرة تعدّ خسارة في التعويض لأنّه لا يمكن الأجير الحصول على كامل قيمة راتبه في التعويض إلّا بعد مرور 20 سنة) هم الفئات الأكثر حاجة بدليل أن متوسط التعويضات المسحوبة من الضمان ضمن فئة «ترك العمل» في النصف الأول من 2020 بلغ 12.3 مليون ليرة.
ما يثير القلق أنّ 37.5% من الأجراء المصرّح عنهم للضمان يعملون بأقل من مليون ليرة، أي أقل من خطّ الفقر الأعلى المحدّد بنحو 1.5 مليون ليرة، و86% يعملون بأقل من 3 ملايين ليرة.