10% فقط من سكان هذا الكوكب لن يتأثّروا بتراجع الإنتاجية الناجم عن تفشي وباء كوفيد-19، غير أن البقية ستعاني الأمرّين في خضم معركتها الاقتصادية والحقوقية في قلب اقتصادات شبه مقفلة وقطاعات مشلولة تنتظر تحوّلاً كبيراً. الوضع لم يكن ممتازاً تماماً قبل تفشّي المرض، فمنذ الأزمة المالية العالمية يتباطأ نمو الإنتاجية إلى معدلات تصعب معها على الفقراء مسيرة اللحاق، ولكن اليوم الأزمة مضاعفة وتُحتّم دعماً إضافياً للأسواق الناشئة والبلدان النامية ومقاربات مختلفة من قِبل حكّامها.
علاقة طردية مع الفقر
أسوأ ركود اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية يعيشه العالم عام 2020. حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ستتراجع في 90% من البلدان، وهي النسبة الأعلى المسجّلة تاريخياً، وتؤدي إلى سقوط الملايين من البشر تحت خطّ الفقر.
تأثير هذا الوضع على مؤشرات الإنتاجية في العالم يبعث على القلق. إذ أن نمو إنتاجية العمل البشري هو المصدر الأول لنموّ مستدام لحصّة الفرد من الدخل الوطني، ما يؤدي بدوره إلى خفض معدلات الفقر. وفيما تُبيّن الأبحاث أن معظم الاختلافات في حصّة الفرد من الناتج بين الدول مردّها التفاوت في معدلات إنتاجية العمال، تمكّنت ربع البلدان الناشئة والنامية التي تمتّعت بأعلى معدلات نموّ الإنتاجية بين عامَي 1981 و2015 من خفض معدلات الفقر الحاد بنسبة تفوق 1% سنوياً خلال تلك الفترة، فيما ارتفعت معدلات الفقر في البلدان الناشئة والنامية التي تعاني من أدنى معدلات نمو الإنتاجية.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

ويُعدّ نموّ الإنتاجية من الأسس الداعمة لنموّ الدخل والحد من الفقر، غير أن معدلات هذا النمو في انخفاض على مستوى العالم وفي الاقتصادات الصاعدة والنامية منذ الأزمة المالية العالمية (2007-2009). وتراجع نموّ الانتاجية هو الأشدّ والأطول زمناً والأوسع نطاقاً على مدى السنوات العشرين الماضية، وفقاً لدراسة صدرت أخيراً عن مجموعة البنك الدولي بعنوان «الإنتاجية العالمية: الاتجاهات والدوافع».
وبالاستناد إلى تجارب وأدلّة وشواهد من الأوبئة السابقة، يُحذّر معدّو الدراسة من أن كوفيد-19، يُمكن أن يؤدّي إلى مزيد من الانخفاض في إنتاجية العمل لسنوات مقبلة في حال لم تُتخذ الإجراءات العاجلة على مستوى السياسات.
وتستند الدراسة إلى بيانات من 35 بلداً متقدماً و129 من البلدان الناشئة والنامية. كما تحدّد العوامل التي حفّزت نموّ الإنتاجية على مرّ العقود، مثل نموّ عدد السكان في سن العمل، والتحصيل العلمي، ونمو سلاسل القيمة العالمية، وكلّها عوامل تراجعت منذ الأزمة المالية، ما قد يُقوض انهيارَ التجارة العالمية واضطرابات سلاسل الإمداد العالمية آفاق نمو الإنتاجية في الاقتصادات الناشئة والنامية.
«لا تزال مستويات الإنتاجية في الاقتصادات الصاعدة والنامية أقل من 20% من المتوسط في البلدان المتقدمة، ولا تتجاوز 2% في البلدان المنخفضة الدخل»، وفقاً لنائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون النموّ المتكافئ والتمويل والمؤسسات، سيليا بازارباسيوغلو، مستندةً إلى إحدى خلاصات البحث.
لكن رغم الصورة السوداوية التي يرسمها بحث البنك الدولي على خلفية وباء كونفيد-19، فمن الممكن أن يكون الجانب الإيجابي لهذا الوضع، هو التغيرات في السلوكيات، وقد يؤدي ذلك إلى تسريع وتيرة اعتماد التكنولوجيات الجديدة، وزيادة الكفاءة بين الشركات وأنشطة الأعمال، وتسريع وتيرة الابتكار العلمي. علماً بأنه من المهم ضمان توزيع هذه المكاسب على نطاق واسع، وإدارة الاضطرابات في سوق العمل التي تعتمد على التكنولوجيا على نحو جيد، بحسب المسؤولة من البنك الدولي.

ثلاث كلمات سحريّة: إعادة توزيع الموارد
ينتهي الكتاب بثلاث خلاصات يبني عليها معدّوه لتقديم حلول بين مختلف الأقاليم.
أولاً، هناك مجموعة متنوعة من الأسباب التي تؤدي إلى تراجع الإنتاجية عالمياً. فمنذ الأزمة المالية العالمية يُسجّل ضعف في العوامل المتشابكة التي تحفّز الإنتاجية، وذلك مع تراجع نموّ عدد السكان في سن العمل، وركود معدلات التحصيل العلمي، وخسارة الزخم في مجال الاستثمار بأشكال أكثر تعقيداً من الإنتاج نتيجة جمود النموّ في سلاسل القيمة العالمية. وقد يضاعف وباء كوفيد-19 انعكاسات هذه الأنماط؛ علماً بأن الأوبئة وانتشار الأمراض كان لها تاريخياً تأثيرات ملحوظة وممتدة على الإنتاجية.
ثانياً، بنتيجة النقطة الأولى قد يكون هناك تأثير كبير على التقدّم بمسيرة أهداف الألفية. ومع الأخذ بالحسبان تباطؤ مسيرة لحاق الأسواق الناشئة والبلدان النامية بالبلدان الصناعية خلال فترة العقد الماضي، وفي ظلّ معدلات الإنتاجية المتواضعة المسجلة أخيراً، سيتطلب الأمر قرناً كاملاً لخفض هوّة الإنتاجية إلى نصفها بين البلدان الناشئة والنامية وبين البلدان المتقدمة. أكثر من ذلك، قد تتعقد الأمور أكثر للبلدان الناشئة التي تعتمد مقاربة التصنيع وبناء الاقتصاد القائم على التصدير، وخصوصاً في ظلّ تراجع العالم عن اعتماد سلاسل الإنتاج والقيمة المترابطة، وانتشار الانكفاء القومي والإقليمي.
حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ستتراجع في 90% من البلدان وهي النسبة الأعلى المسجّلة تاريخياً


ثالثاً، هناك حاجة ملحّة لمقاربة فاعلة لتعزيز نمو الإنتاجية. وإذ يتوجب على صنّاع السياسات اتّخاذ إجراءات لتسهيل الاستثمار في الرأسمالين البشري والمادي تبرز الحاجة لإعادة توزيع الموارد باتجاه القطاعات والشركات ذات الإنتاجية المرتفعة، وقد يتمّ ذلك عبر تعزيز المنافسة. وعلى مستوى الشركات، من المهمّ إنعاش قدراتها لتبنّي التكنولوجيات الجديدة، وفي الوقت نفسه ضمان تأهيل وتدريب العمال للانتقال إلى قطاعات جديدة، وأن يكونوا محميين اجتماعاً ويتمتعون بالتغطية الملائمة خلال هذا الانتقال.

الشرخ الأوسط الكبير في الإنتاجية
ولعلّ أبرز الأقاليم لبحث مؤشرات نمو الإنتاجية وآفاقها خلال الفترة المقبل هو منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هنا يُسجّل أضعف نموّ للإنتاجية بين البلدان الناشئة والنامية، قبل وبعد الأزمة المالية العالمية؛ لدرجة أن المعدل بلغ -0.1% بين عامي 2013 و2018، وهذا يعني أن الاقتصاد ينزف موارد ورساميل، علماً بأنه لم يكن أبداً استثنائياً قبلها، إذ بلغ معدله 0.1% فقط بين عامي 2003 و2008.
ومن شأن الاضطرابات التي يولّدها وباء كوفيد-19 أن تُشكل مخاطر كبيرة على آفاق نمو الإنتاجية في بلدان المنطقة، خصوصاً في ظل الصدمة النفطية السلبية التي تُخفض الأسعار ومعها إيرادات كبيرة للبلدان النفطية.
ويرجع هذا الوضع إلى مجموعة عوامل يُحددها البنك الدولي في دراسته؛
أولاً، تضخم القطاع العام، إذ يوظَّف 20% تقريباً من القوى العاملة في المنطقة، وعندما يُضاف إلى هذا المعطى واقع النظام التعليمي الذي يوجه الطالب للتهيئة لوظيفة عامة، تُصبح التوليفة خطيرة على أبناء هذه الاقتصادات.
وثانياً، بيئة أعمال مُقيِّدة تعاني من ضعف الحوكمة والقطاعات غير الرسمية (غير المصرح عنها) ومن آليات فرض وجبي الضرائب المتعبة. كل ذلك من شأنه أن يعيق تحويل الموارد من الشركات ذات الإنتاجية الضعيفة إلى الشركات التي تتمتع بمعدلات أعلى منها.
وثالثاً، ضعف القطاع الخاص لناحية خلق الشركات ومعها الوظائف.
ورابعاً، غياب التنويع.
وخامساً، الصراعات العسكرية. ففي بلدان مثل سوريا واليمن تستمر الصراعات المسلحة في منع تحقيق نمو في معدلات الإنتاجية في تلك البلدان تحديداً وفي المنطقة بأجملها.
إزاء هذه المعطيات، يُقدّم فريق البنك الدولي توصيات لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تبدأ بتحسين عوامل الإنتاج، وتعزيز إنتاجية الشركات، والتشجيع على تبنّي سياسات لإعادة توزيع الموارد على نحو فعال، وخلق بيئة اقتصادية صديقة للشركات والأعمال.
ولكن هل تتمكن بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من معالجة مكامن الخلل التي تعاني منها اقتصاداتها الاجتماعية في زمن كوفيد-19؟ الجواب يبدأ بالتساؤل عما حققته تلك البلدان فعلياً أيام الرخاء النفطي والمالي قبل الصراعات والأوبئة.