نشرت صحيفة «إل بايس» الإسبانية، أخيراً، مقالاً لبرانكو ميلانوفيتش Branko Milanovic، بعنوان «هل الصين رأسمالية حقاً؟» (15 نيسان/ أبريل 2020)، وهو مقتطف من كتابه الصادر في العام الماضي عن منشورات جامعة «هارفرد»، وعنوانه: «الرأسمالية، وحدها: مستقبل النظام الذي يحكم العالم». تُعَدُّ مقالته مثالاً على سوء الفهم الوقح للاختلافات المُهمّة بين الرأسمالية والاشتراكية (الحقيقية). فضلاً عن ذلك، فإن هذا النوع من الهراء التبسيطيّ، حتى إن جاء على لسان علماء لامعين وذوي نوايا حسنة، لا يخلق ارتباكاً فكرياً وحسب، بل إنه يقوّض ويثبّط أيّ بحث عن مخرج من حفرة البؤس واليأس العميقة، حيث تهاجم النخبة المعولمة الغنيّة جداً وأعوانها مِن المتملّقين، الغالبيّة العظمى مِن البشريّة. من هنا، وَجَبَ فضحها، وبقوّة.يقول ميلانوفيتش، «من أجل أن يكون رأسمالياً، على المجتمع أن يتميّز بحقيقة أن معظم إنتاجه يتمّ عبر استخدام وسائل إنتاج القطاع الخاص (رأس المال، الأرض)، وأن يتقاضى معظم العمّال رواتب (أي أن لا يكونوا مرتبطين قانوناً بالأرض، وأن لا يكونوا عمّالاً مستقلّين يستخدمون رأس مالهم الخاص)، وأن تُتّخذ غالبية القرارات المتعلّقة بالإنتاج والتسعير عن طريق اللامركزيّة (أي أن لا تفرضها الدولة على الشركات). تستوفي الصين جميع الشروط الثلاثة ليتمّ اعتبارها رأسماليّة».
في ما يتعلَّق بالشرط الثالث، يَعتقد ميلانوفيتش أنه يثبت وجهة نظره بالقول: «في بداية الإصلاحات، حَدّدت الدولة 93% من أسعار المنتجات الزراعية، و100% من الأسعار الصناعية، و97% من أسعار التجزئة. بحلول منتصف التسعينيّات، تمّ عكس هذه النِّسب: حَدّدت السوق 93% من أسعار البيع بالتجزئة، و79% من أسعار المنتجات الزراعية، و81% من أسعار المواد… أما اليوم، فتُحدِّد السوق نسبةً أعلى من الأسعار».

أنجل بوليغان ــ المكسيك

هذه الأرقام (بخلاف الكثير من الأرقام الأخرى في المقالة) صحيحة؛ لكنّها، بطبيعة الحال، لا تثبت أطروحة ميلانوفيتش. على العكس، هي متوافقة تماماً مع جوهر النموذج الاشتراكي للسوق الصينية. في الواقع، لم تُحدِّد الحكومة سعر الآيس كريم. فالتخطيط المتوافق مع السوق، يركِّز، بدلاً من ذلك، على الأهداف الاستراتيجية الرئيسة، مثل تعزيز الاستثمار، تراكم رأس المال، العمالة شبه الكاملة، الابتكار، التقدّم التقني، حماية البيئة وتنفيذ المشاريع الضخمة الطويلة الأمد، مثل «مبادرة الحزام والطريق»، و«صنع في الصين 2025». ربّما يكون ميلانوفيتش ساذجاً من الناحية النظريّة إلى درجة أنه لا يفهم هذه النقطة، رغم اعتقادنا بأنه يتظاهر بذلك.
دعونا ننتقل الآن إلى الأخطاء الصارخة. يقول ميلانوفيتش: «مِن المستبعد جدّاً أن يتجاوز دور الدولة في إجمالي الناتج المحلّي، المحسوب مِن حيث الإنتاج، الـ 20%، بينما تُمثِّل القوى العاملة في الشركات العامة وفي الملكية الجماعية 9% من إجمالي العمالة الريفية والحضرية... قبل الإصلاحات، فإن ما يقرب مِن 80% من عمّال المدن كانوا يعملون في الشركات العامة. الآن، وبعد التراجع المتواصل عاماً تلو آخر، يمثّل ذلك الجزء أقلّ من 16%. في المناطق الريفيّة، حوّلت خصخصة الأراضي - بحكم الأمر الواقع -، بموجب نظام مسؤولية الأسرة المعيشيّة، جميع العمّال الريفيين، تقريباً، إلى مزارعين في القطاع الخاص».
ما ورد أعلاه ليس صحيحاً؛ لم تكن هناك خصخصة للأراضي في الصين. فالأرض لا تزال مملوكةً للدولة - وكما يعترف ميلانوفيتش نفسه - «المزارعون ليسوا عاملين بأجر، ولكنهم يعملون لحسابهم الخاص في الغالب، في ما تسمّيه المصطلحات الماركسية: الإنتاج السلعي البسيط simple commodity production»، وتالياً ليس في علاقات الرأسمالية الاجتماعية - الاقتصادية.
في ما يتعلّق بالمناطق الحضرية، ترسم الإحصاءات الرسمية الأساسية صورةً مختلفة تماماً.
يقدم «الكتاب الإحصائي الصيني» (CSY) بيانات سنوية عن جميع الشركات الصناعية فوق الحجم المحدّد، بحسب حالة التسجيل. وهي تشمل عنوانَين كبيرَين: الشركات المموّلة محليّاً، ومشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI). تشمل الشركات ذات التمويل المحلّي: الشركات المملوكة للدولة SOEs، والتجمّعات والتعاونيات وشركات الملكيّة المشتركة والشركات ذات المسؤولية المحدودة (LLC) والشركات المساهمة (SHCs) والمؤسسات الخاصة (PEs). بعض الشركات ذات المسؤولية المحدودة، هي شركات مموّلة من الدولة فقط، ولكن يتمّ تصنيف معظمها تحت عنوان فرعي على أنها شركات ذات مسؤولية محدودة أخرى.
تشمل الشركات المموّلة من الاستثمار الأجنبي المباشر، الشركات التي لديها صناديق من هونغ كونغ وماكاو وتايوان (EFHKMTs) والشركات ذات التمويل الأجنبي (FFEs) (من بقية العالم).
وتالياً، هناك ثلاث مجموعات من المؤسسات الرأسمالية في الصين: (PEs) و(EFHKMTs) و(FFEs). لكلّ واحدة منها، يميّز «الكتاب الإحصائي الصيني» أيضاً المجموعات الفرعيّة المختلفة. بالنسبة إلى المؤسسات المملوكة للقطاع الخاص POEs، على وجه الخصوص، فهي خمس: مؤسسات مموّلة من القطاع الخاص (بالكامل) ومؤسسات شراكة خاصة وشركات ذات مسؤولية محدودة خاصة وشركات مساهمة خاصة وغيرها من المؤسسات الخاصة. بالنسبة إلى كل عنصر (عدد الشركات والأصول والناتج والأرباح وما إلى ذلك)، يتطابق مجموع هذه العناوين الفرعيّة الخمسة تماماً مع الرقم المنسوب إلى الـ(POEs) ككلّ، ما يشير، بشكلٍ لا لبس فيه، إلى أن جميع الشركات الأخرى لا تُعتبر تابعة للقطاع الخاص المحلي.
التفسير الوحيد المعقول للإحصاءات الصناعية في الصين في شأن الشركات المختلطة، هو أن هناك جزءاً كبيراً مِن (LLCs) و(SHCs) لا ينتمي إلى الرأسماليين المحليّين ولا الأجانب. تُصنف هذه المجموعة المتبقية، والتي لا يمكن تجاهلها، على أنها شركات ذات مسؤولية محدودة أخرى، «والتي قد تشمل أيّ درجة من ملكية الدولة أقل من الملكية الكاملة» (هابرد ب. 2015، التوفيق بين الإحصائيات الرسمية الصينية في شأن ملكية الدولة وسيطرتها).
باختصار، ينبغي النظر إلى معظم الشركات ذات المسؤولية المحدودة والشركات الصغيرة والمتوسطة على أنها مؤسسات صناعية مختلطة تسيطر عليها الدولة بشكل غير مباشر. إنها نتيجة عملية الشركات الكبرى التي نفذت منذ مطلع القرن الحالي، وهي تشكل أهم عنصر في استراتيجية الصين للتنمية الاقتصادية الموجهة نحو الاشتراكية في مجال تطور حقوق الملكية وهياكل المشاريع. لذا، فهي مؤسسات غير رأسمالية موجّهة نحو السوق. في القطاع الصناعي، تشمل (NCMOEs) مباشرة الشركات المملوكة للدولة والتجمّعات والتعاونيات ومؤسسات الملكية المشتركة للدولة والشركات الممولة من الدولة والشركات التي تسيطر عليها الدولة بشكل غير مباشر.
بهذا المعنى، أيّ قصة تحكي إحصائيات «الكتاب الإحصائي الصيني»؟
دور الشركات المموّلة من الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) مهمّ، ولكنه ليس أساسياً، وهو دورٌ بدأ بالانحسار اعتباراً من عام 2010. انتشرت المؤسسات الخاصة (PEs)، وهي تعدُّ الآن الفئة الأكبر في القطاع الصناعي الصيني، لجهة عدد الشركات والأصول والإنتاج، وكانت تشهد نمواً أيضاً، إلا أنها لا تزال صغيرة في المتوسّط. نعم، بفضل عددها، تمثّل الآن أكثر من ربع رأسمال الصناعة الصينية و45% من إنتاجها.
لكن شركات الـ(NCMOEs) الصناعية، عزّزت مركزها المهيمن لجهة الأصول. حصّتها في الإنتاج الصناعي كانت تشهد انحساراً، ولكن بمعدّل تناقص تدريجيّ، يبدو أنه أدى بشكل متقارب، حتى الآن، إلى استقرار كبير حول 48% من الإجمالي. حصّتها من الأرباح والعمالة الصناعية استقرّت أيضاً عند 40%. علاوة على ذلك، يوضح التفسير المباشر للبيانات الأخرى لـ«الكتاب الصناعي الصيني»، أنّ درجة الرسملة للمؤسسات الصناعية غير الرأسمالية أعلى من الشركات المموّلة من الاستثمار الأجنبي المباشر، وأكثر من الضعف بالنسبة إلى الشركات الخاصة (PEs). منذ منتصف العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، كانت تقود، أيضاً، الشركات الأجنبية والرأسمالية المحلية، من حيث إنتاجية العمل. متوسط مستوى ربحيّتها صحّي أيضاً، رغم أنه ليس بالمستوى ذاته مثل الـ(PEs) والشركات المموّلة من الـ(FDI).
هذا الأداء الكلّي للمؤسسات الصناعيّة غير الرأسمالية، هو نتيجة لاتجاهات مختلفة تماماً في مكوناتها الفرعية. تزيد نسبة رأس المال/ العمل في المؤسسات التي تسيطر عليها الدولة بشكل مباشر، إلى أكثر من ضعف متوسط الصناعة، وهي استمرت في الزيادة، حيث تتحمّل هذه الشركات العبء الاستراتيجي المتمثّل في دفع تراكم رأس المال في جمهورية الصين الشعبية إلى ما وراء الحدود التي قد تواجهها في بيئة رأسمالية عادية. ولأنها تتحمّل هذا التقاطع من أجل البلد بأكمله، فإن الشركات التي تسيطر عليها الدولة مباشرة تدفع الثمن من حيث مؤشرات الإنتاجية والربحية على مستوى الشركة.
إن الغالبية العظمى من العمّال الصينيين لا تعمل مباشرة لحساب الرأسماليين، والصين ليست مجتمعاً اشتراكياً مثاليّاً كما أنها ليست اشتراكيةً بالمعنى الكامل للكلمة، مع الأخذ في الاعتبار النتائج غير الكافية حتى الآن للجهود الجارية لمكافحة عدم المساواة وتدهور البيئة، لكنها بالتأكيد ليست رأسمالية


على عكس ذلك، مُنحت الشركات المختلطة التي تسيطر عليها الدولة بشكل غير مباشر درجات كبيرة من الحرية لمتابعة الأهداف الموجهة نحو السوق. وبالتالي، كان أداؤها أفضل (على الأقل، على مستوى الشركة). استثمرت الكثير، وكان معدّل نمو إنتاجيتها في العمل هو الأعلى في صناعة جمهورية الصين الشعبية، حيث تفوّقت على كل من الشركات المملوكة للدولة والمؤسسات الرأسمالية. من حيث الربحية، فإن الشركات المختلطة التي تسيطر عليها الدولة بشكل غير مباشر، تقوم بعمل أفضل من نظيراتها التي تسيطر عليها الدولة بشكل مباشر، ولكن ليس أفضل من الشركات الرأسمالية التي تحقّق أقصى ربح.
تؤكد بيانات العمالة الإجمالية (الصناعية وغيرها) أنه لا ينبغي المبالغة في الأهمية الكمية للعنصر الرأسمالي في الاقتصاد الصيني.
كانت نسبة العمال الحضريين العاملين في القطاع الخاص (وحدات محلية خاضعة لسيطرة أجنبية) في ارتفاع؛ وبحلول عام 2016، كانت تشكل أكثر من 1/3 من الإجمالي الحضري. كما أن نسبة العمال الريفيين الذين تستخدمهم الـ(POEs) آخذة في الازدياد، وصولاً إلى 16% بحلول عام 2016. وقد زادت الحصة الإجمالية للعاملين في المؤسسات الرأسمالية بشكل مطّرد، لتصل إلى أكثر من 1/4 بحلول عام 2018. مع ذلك، لا يزال أكثر من 70% من العمّال في جمهورية الصين الشعبية - يعملون لحسابهم الخاص أو في المؤسسات غير الرأسمالية والمنظمات العامة غير الموجّهة للسوق. وهكذا، فإن الغالبية العظمى من العمّال الصينيين لا تعمل مباشرة لحساب الرأسماليين (انظر ألبيرتو غابرييل أ. ، 2020 قريباً): «الشركات والصناعة والابتكار في جمهورية الصين الشعبية - سؤال الاشتراكية مِن دينغ إلى حرب التجارة والتكنولوجيا).
ليست الصين مجتمعاً اشتراكياً مثاليّاً. وليست اشتراكيةً بالمعنى الكامل للكلمة، على عدة أبعاد (مع الأخذ في الاعتبار، على سبيل المثال، النتائج غير الكافية حتى الآن للجهود الجارية لمكافحة عدم المساواة وتدهور البيئة). ولكنها، بالتأكيد، ليست رأسمالية.

* مقال أُعدّ ردّاً على ادعاءات برانكو ميلانوفيك ونُشر فيwww.ocafezinho.com