حضر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى بيروت ممثّلاً الأسرة الدولية ونزل في مطار بيروت بضع طائرات تحمل المساعدات الإنسانية. لكن لا هذا ولا ذاك سيمنحان ما يحتاجه لبنان فعلاً: عشرات مليارات الدولارات لإعادة الإعمار ولتأهيل البنية التحتية المهترئة، ما عدا الكارثة الدائمة في المالية العامة وحالة النقد الوطني. العودة إلى تجربة لبنان الفاشلة منذ التسعينيات، تبيّن أنّ اهتمام الخارج بمصير لبنان يناهز الصفر، والتركيز دوماً هو حول ما ينزع أسباب قوّته.الثلاثاء 4 آب الماضي، كانت الثانية عشرة ظهراً هنا في مكتبي الجامعي في كندا، عندما وصلتني رسالة على الهاتف تتضمن فيديو قصيراً. فشاهدت مطلع الفيديو وفيه انفجار نووي، قُلت لعلّه فيلم جديد لجيمس بوند. ولكن مهلاً: هذا مشهد مألوف. إنه مرفأ بيروت. قلب بيروت. أعدت المشاهدة. فعلوها أخيراً، وأسدلوا الستارة على الانهيار الاقتصادي للبنان. وسيمضي وقت طويل قبل صدور تقرير رسمي لبناني ودولي يشخّص الآثار الاقتصادية والاجتماعية لتفجير مرفأ بيروت، ولكن هذا لا يمنع من تقديم موجز أوّلي نختصره بما يلي:
أولاً، على صعيد الخسائر، إنّ أرقام وزارة الصحة اللبنانية تشير إلى سقوط نحو 6000 شخص بين قتيل وجريح جراء الانفجار. وأعلن محافظ بيروت أنّ 300 ألف شخص باتوا بلا مأوى، وأنّ الخسائر المادية تتراوح بين 3 و5 مليارات دولار. إلا أنّ المحافظ عدّل في حجم الخسائر التي ذكرها صعوداً نحو 10 إلى 15 مليار دولار بعد يوم من الانفجار. ذلك أنّ العصف التفجيري وصل إلى المناطق السكنية والوسط التجاري. وعلى سبيل المقارنة حول فداحة الضربة، فإنّ خسائر حرب السنتين في محيط مرفأ بيروت 1975 - 1976 لم تزد على ملياري دولار، منها 600 مليون دولار خسائر القطاع العام، و430 مليون دولار خسائر قطاع الخدمات، و350 مليون دولار خسائر قطاعات أخرى وأملاك خاصة.
مرفأ بيروت نفسه لم يتضرّر كثيراً في حرب لبنان الطويلة، بل وقع ضحية النهب ولا سيما من ميليشيا القوات اللبنانية التي سيطرت عليه طيلة سنوات الحرب، في حين قامت ميليشيات الجانب الآخر بنهب الوسط التجاري، لتبلغ قيمة النهب في المرفأ ووسط بيروت 6 مليارات دولار.
وقبل الانتقال إلى مسألة إعادة الإعمار، تجدر الإشارة إلى أنّ خسائر انفجار مرفأ بيروت يوم 4 آب 2020 لا تكتمل من دون الإشارة إلى خسائر الدخل الفائت جراء تعطيل التجارة البرية والترانزيت مع الدول العربية عبر مرفأ بيروت منذ اندلاع الحرب السورية في ربيع 2011، وغياب السياح العرب والأجانب عن وسط بيروت التجاري ما حوّله إلى مدينة أشباح.
وكان ثمّة أمل أن تنتهي حرب سورية لتبدأ ورشة عمل يكون لمرفأ بيروت حصّة فيها. أمّا وقد أصاب مرفأ بيروت الدمار، فالأذية باتت مضاعفة لأنّها أوقفت أيضاً 80% من حركة الاستيراد للاستهلاك المحلي، خصوصاً أنّ لبنان يستورد معظم حاجاته الغذائية والسلعية من الخارج، وكذلك التصدير الصناعي والزراعي اللبناني (والخسائر الفائتة من مساهمة مرفأ بيروت في الناتج المحلي القائم تحتاج إلى معالجة مستقلة).
ثانياً، حول كلفة إعادة الإعمار: إنّ إعلان مجلس الوزراء اللبناني في 5 آب أنّ بيروت مدينة منكوبة هو تجميل للمشهد الرهيب، لأنّ لبنان بأكمله بات بلداً منكوباً. لقد دأبنا منذ مطلع 2018 على نفي حملة التهويل والتخويف التي انطلقت في الإعلام العربي والغربي ورديفه اللبناني والتي تحدثت يومياً عن انهيار اقتصادي.
كان منطقنا أنّ الانهيار يعني أن تستيقظ في الصباح وترى الأبنية من حولك مهدّمة والشوارع مشقّقة وهذا لم يحصل، بل اقتصر الأمر على أزمة مالية عامة وسط حاجة إلى معالجات يمكن تنفيذها لينهض البلد بإمكانياته: فالمصارف والفنادق والمستشفيات والجامعات والمؤسّسات الأخرى موجودة وجاهزة، وكذلك البنية التحتية على تواضعها من مطار ومرفأ وطرق ووسائل اتصالات هي في مكانها. وحتى مع جائحة كورونا منذ آذار الفائت وتدهور العملة ووحش الغلاء، كان لا يزال ثمّة أمل في نهوض لبنان.
غير أنّ انفجار مرفأ بيروت، غيّر كل هذه الحسابات، وبات مشهد الانهيار الذي ثابرنا على نفيه، واضحاً أمامنا يوم 4 آب. إذ وحتى مساء 3 آب الجاري، كان النقاش في بيروت بين الحكومة وجمعية المصارف ومصرف لبنان هو حول توزيع الخسائر، وهو نقاش نظري أين منه نقاش الإغريق حول جنس الملائكة فيما الأتراك يدكّون جدران بيزنطية. وفيما لبنان يحتاج عملياً إلى تأهيل البنية التحتية وتجديد شبكة الماء والكهرباء والطرق خارج بيروت، برزت فجأة كوارث بالجملة تحتاج إلى إعادة إعمار مرفأ بيروت وأحياء في الوسط التجاري والجميزة ومار مخايل.
ثالثاً، مصادر تمويل إنقاذ الاقتصاد وإعادة الإعمار: رغم تدفّق المساعدات الطبيّة والعينيّة الآنيّة طوال أيام بعد الانفجار، فهي قليلة جداً مقارنة بالمبالغ الضخمة التي يحتاجها لبنان.
وفي هذا السياق، بلغت قيمة أكبر خطة إنقاذ دولية أدارها صندوق النقد الدولي نحو 57 مليار دولار للأرجنتين عام 2018. لكن انهيار لبنان الحالي يحتاج إلى واقعية وإلى مراجعة ما حصل سابقاً: لبنان وبعدما عانى من 15 سنة من الحروب نسيه العالم عام 1990 واختفى عن رادار الإعلام العربي والغربي. والانهيار الذي بدأ في عام 1985 تواصل في السنوات الأولى لزمن السلم، ولم يأتِ الإنقاذ المالي حتى بعد خمس سنوات من حكومة مرضي عنها تماماً أميركياً وعربياً وأوروبياً. وفقط بعد صمود لبنان بوجه إسرائيل في نيسان 1996، نال لبنان بعض الاهتمام من الغرب عندما وُلدت لجنة تفاهم نيسان من الولايات المتحدة وفرنسا وسورية ولبنان وإسرائيل في 26 نيسان 1996، ما تطوّر إلى آلية سمحت لرئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري بالقيام بزيارة حول العالم توّجت بمؤتمر أصدقاء لبنان في واشنطن في 16 كانون الأول 1996. وجاء في رسالة الرئيس الأميركي بيل كلنتون إلى الرئيس اللبناني الياس الهرواي أنّ هدف المؤتمر «سيتخطى ما خلّفته عملية نيسان من دمار، ويتناول إعادة إعمار لبنان عموماً».
هنا تصاعدت يوفوريا حكومية وشعبية في لبنان وقامت ورشة رسمية بابتكار 31 مشروعاً رسمياً بكلفة 5 مليارات وهو المبلغ الذي طلبه لبنان من المؤتمر.
شارك في مؤتمر أصدقاء لبنان 30 دولة عربية وأجنبية و8 مؤسسات تمويل دولية. وفيما التزمت الدول المانحة بتقديم 3.2 مليار دولار تبيّن أنّها ستبدأ بمبلغ مليار دولار فقط عام 1997 لتنفيذ مشاريع محدّدة مع البنك الدولي، في حين ينتشر المبلغ المتبقي على عدّة سنوات.
لذا، فقدت حكومة الحريري الأمل في مال يأتي من الخارج، وباشرت بالاستدانة منذ 1997 من أجل تمويل إعادة الإعمار استناداً إلى توقعات شركة بكتيل الأميركية بأنّ النمو الاقتصادي الناتج من الإعمار سيصل إلى %10 وسيعوّض عن الديون. غير أن هذا لم يحصل، بل إنّ الفساد والمحاصصة والهدر كانوا أسياد الموقف، وتحوّل برنامج التمويل عبر الاستدانة إلى تورّم سرطاني ضخم تجاوز 100 مليار دولار في عام 2020.
ربما ستخرج وعود بالمساعدة بعيدة عن حاجات لبنان وتجربة الماضي تُظهر أنّ المطلوب شيء آخر


حاول رفيق الحريري مجدّداً الحصول على مساعدات دولية بعد عودته إلى رئاسة الحكومة عام 2000. نجح بمساعدة فرنسا في إقامة مؤتمر باريس 1 في عام 2001 وباريس 2 في عام 2003. لكن المؤتمرَين فشلا فشلاً ذريعاً بسبب الموقف الأميركي الرافض الذي ألزم صندوق النقد الدولي والدول الصناعية الكبرى بعدم مساعدة لبنان. ثم جاء مؤتمر سيدر في باريس في نيسان 2018 واكبته حكومة سعد الحريري، وهو يمثّل باريس 4. ووعد المؤتمر الذي حضرته 50 دولة ومؤسسة بمبلغ 12 مليار دولار منها، للأسف، نحو 9 مليارات دولار قروض مقابل هبات بقيمة 860 مليون دولار. والحبكة كانت ربط المساعدة بسلسلة شروط وطلبات ملغومة، بعضها بريء يدعو للإصلاح، ولكن معظمها استنفد بالنقاش.
يبقى أنّ اهتمام الخارج بلبنان جاء بعد الصورة المثيرة للانفجار التي بثتها أجهزة التلفزة حول العالم، ما حرّك مشاعر شعوب وحكومات عربية وأجنبية. وجاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قلب المأساة.
ربما ستخرج وعود كثيرة بالمساعدة - التي لا تزال عينية وإنسانية بعيدة عن الحاجات الكبيرة التي يريدها لبنان للنهوض – لكن تجربة الماضي تُظهر أنّ المطلوب من لبنان هو شيء آخر، ما يعيدنا إلى أجواء 1996:
إنّ طلب الرئيس ماكرون مكافحة الفساد كبداية للمساعدات المالية، هو قمّة جبل الجليد فقط ويخفي وراءه أنّ على لبنان أن يمرّ عبر شروط صندوق النقد الدولي قبل أن يتأمل الحصول على العون المالي. وفي صندوق النقد يكمن شيطان التفاصيل وأقواها سياسي. فالطبقة الفاسدة في لبنان معظمها مرتهن للجهة التي تهيمن على إرادة صندوق النقد والطلب الغربي بمكافحة الفساد ذراً للرماد في العيون، لأنّ تلك الطبقة مستمرة في التحكّم بمفاصل السلطة في لبنان وفي دولته العميقة. وما توظيف الخارج الغربي والعربي لنكسة بيروت بعد دقائق من الانفجار لتحميل المسؤولية لجهة سياسية معينة في لبنان سوى إمعان في التركيع وفي الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة وأعوانها على لبنان منذ 1996. أي عودٌ على بدء.