يبدو مسار تطبيع العلاقات بين بعض الدول الخليجية العربية وإسرائيل للوهلة الأولى وكأنّ له انعاكاسات سلبية على لبنان. هذا صحيح إلى حدّ ما، لكنّه لا يصل إلى عمق الأثر الكارثي لمعاهدة كامب دايفيد في عام 1979 على لبنان. في المقابل أثرُ التطبيع الخليجي على لبنان أعمق من التطبيع الأردني عام 1995، خصوصاً إذا التحقت به السعودية. عندها سيصيب التطبيع الخليجي قيمة التحويلات اللبنانية ويؤذي القطاعات الاقتصادية في لبنان ويقلّص أكثر حجم الاستثمارات ويضع علامة استفهام حول مستقبل التجارة اللبنانية مع دول الخليج.كان لبنان حتى في أصعب ظروفه واحة للاستثمارات الخليجية ومقصداً للسياحة والطبابة والاستشفاء والتعليم. وفي المقابل شكّلت بلدان الخليج جاذباً أساسياً للعمالة اللبنانية المهاجرة منذ ما قبل 1975، وقدّمت في العقدَين الأخيرين فرص عمل لخرّيجي الجامعات والمعاهد اللبنانية. هذا الطرد البشري اللبناني باتجاه الخليج وخصوصاً نحو السعودية والإمارات وقطر والكويت، خفّف من البطالة اللبنانية ووفّر عائدات مهمّة هي التحويلات التي بلغت أحياناً 10 مليارات دولار في السنة. كما أن الاستثمارات الخليجية المباشرة مثّلت 80% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في لبنان (FDI Foreign Direct Investment). أمّا في الاقتصاد الريعي، فاللبنانيون العاملون في بلدان الخليج استحوذوا على حصّة مهمة من إجمالي المودعين غير المقيمين في المصارف اللبنانية. كما أنّ نسبة تتراوح ما بين 70% و80% من الطلب على القطاع العقاري المحلي مصدره خارجي وبشكل أساسي من لبنانيين عاملين في بلدان الخليج أو من خليجيين.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

لقد وفّرت السعودية والإمارات والكويت وقطر الدعم المالي للبنان منذ عام 1979 وأسهمت في تمويل مشاريع بنية تحتية بهبات وقروض ميسّرة. هذا في زمن لم تكن هذه المساعدات مقابل ارتهان سياسي من الحكومة اللبنانية، بل حرصاً على استقرار لبنان الذي يفيد الخليج بمزاياه وبدور بيروت الإقليمي. غير أنه منذ القطيعة بين سورية والسعودية عام 2005 أصبح الموقف الخليجي من لبنان سياسياً بامتياز ويتماهى مع الإملاءات الأميركية حول تلزيم الحكومات اللبنانية المتعاقبة بالانصياع لمصالح محور خليجي – سعودي إجمالاً - يخدم حاجة أميركا لتطويع إيران. ورغم أنّ كلّ رؤساء الحكومة اللبنانية منذ 2005، كانوا شديدي الولاء للخليج واتخذوا مواقف متشدّدة من القوى السياسية الأخرى، فإنّ عدم تلبية الإملاءات كاملة ألحقت الضرر حتى بالمعسكر الموالي للخليج. فتمّ مثلاً، القبض على رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في الرياض وربطه بكرسي والتعامل معه كقاطع طريق. ولذلك يجب النظر إلى مسار التطبيع من باب عدم تورّع دول الخليج وإسرائيل عن ملاحقة حتى القوى اللبنانية التي تعتبر نفسها في المحور السعودي – الأميركي.
- أولاً، التحويلات المالية للعمالة اللبنانية: يقدّر حجم العمالة اللبنانية في دول الخليج بنحو 300 ألف ضمن جالية لبنانية قويّة بعائلات لها جذور قديمة، وقد يصل عدد أفرادها إلى ما بين 500 – 700 ألف شخص. تحويلات هذه العمالة عزّزت صمود العائلات اللبنانية الفقيرة والمتواضعة الدخل في لبنان وساهمت في تعويم ميزان المدفوعات اللبناني. لكن الواقع أنّ قيمة هذه التحويلات هي في هبوط تاريخي متواصل منذ أن وصلت إلى أوجها في ثمانينيات القرن العشرين (بعد نهاية الطفرة النفطية التي بدأت عام 1974) إلى 2005، ثم استمرت في منحى الهبوط بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008.
قبل الحرب في سورية كانت تقدّر قيمة تحويلات اللبنانيين المغتربين بنحو 6 مليارات دولار سنوياً، عدا عن مبالغ دخلت لبنان بوسائل أخرى تقدّر بنحو ملياري دولار سنوياً. هناك قسم مهم منها يأتي من دول الخليج. بعض التقديرات كانت تشير إلى 85%، لكن هناك تقديرات أكثر تحفظاً تشير إلى ما لا يزيد عن 40% من التحويلات مصدرها دول الخليج والباقي من دول أخرى (غرب أفريقيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وأوستراليا وبعض دول أميركا اللاتينية). مجمل هذه التحويلات كانت تساهم بـ30% من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني.
الواقع أنّ دول جذب العمالة في مجلس التعاون الخليجي قد جيّرت علاقاتها الاقتصادية مع دول طرد العمالة العربية (مثل مصر وسورية ولبنان والأردن واليمن وغيرها) بأمور تتعلّق بالواقع الإقليمي والنفوذ الأميركي في المنطقة وحاجات إسرائيل. فقد طردت السعودية 900 ألف عامل يمني عام 1990 بسبب رفض اليمن الانضمام إلى الحلف الأميركي ضد العراق. و«غربلت» السعودية العمالة السورية على أراضيها منذ 1981 حتى باتت في مطلع عهد الرئيس بشار الأسد بمعظمها على هوى الإسلاميين وسوريين معارضين لنظام الحكم في سورية. وهذا الأسلوب نفسه حكم مصير العمالة المصرية والفلسطينية في منطقة الخليج.
هذا التعامل غير المنطقي تجاه أخوة عرب - بل تجاه مواطنين عرب يبحثون عن لقمة العيش - قد مورس أيضاً تجاه لبنان. ففي العشرين عاماً الأخيرة خفّضت أعداد اللبنانيين الذين ينتمون إلى طائفة معيّنة أو ينهجون مواقف مؤيدة للمقاومة اللبنانية أو لهم موقف مغاير تجاه الحرب السورية. هذا الخفض المبنيّ على التمييز الطائفي والميول السياسية قابله استقبال نوعي لأبناء طوائف محسوبة على زعماء محدّدين، سواء من أنصار تيار المستقبل أو من حزب القوات اللبنانية أو من الحزب التقدمي الاشتراكي. وإضافة إلى تمويل الخليج لهذه القوى السياسية في لبنان، فإنّ مردود العمالة من أتباعها تأتي في المرتبة الثانية كمال سياسي. وتترجم التبعية المالية لهذه القوى إلى ولاء صارم للسعودية خاصة ودول الخليج عامة، ينعكس في خطاب صارم ومؤذٍ ضد قوى لبنانية أخرى لا تتمتع بهذا الدعم. حتى أنّ عدد اللبنانيين عمالاً وعائلات ارتفع بعد انقلاب جماعة 14 آذار عام 2005 وتسلّم الفريق الخليجي الهوى السلطة، فسجّلت الأعوام 2005-2007 دخول أكثر من 200 ألف عامل لبناني جديد إلى السعودية ودول الخليج، انضموا إلى من سبقهم، ليعود ويتراجع هذا الجذب بعد اتفاق الدوحة حول أزمة الحكم في لبنان عام 2008 وبعد الأزمة المالية العالمية. فانخفضت تحويلات اللبنانيين من دول الخليج نحو النصف في السنوات التي تلت اشتعال الحرب السورية، ووصلت إلى الحضيض في السنوات الثلاث الأخيرة.
وقد يكون تأثير تطبيع الإمارات والبحرين مع إسرائيل على تحويلات اللبنانيين ضئيلاً مقارنة بالماضي، ما لم تنضمّ السعودية إلى قطار المطبّعين. فبسبب حجمها العملاق مقارنة بباقي دول مجلس التعاون، جذبت السعودية النسبة الكبرى من العمالة اللبنانية منذ الستينيات، ولذلك فإقدام الرياض على التطبيع – وهو ما تُرشِّح حدوثه وسائل إعلام ومراكز بحوث غربية قريباً إن لم يكن قبل أيام من الانتخابات الرئاسية الأميركية في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل – سيكون له الوقع الأكبر على ما تبقى من فوائد يجنيها لبنان من التحويلات. إذ ستدخل في طيات المعاهدات التي توقّعها السعودية والإمارات والبحرين مع إسرائيل بنودٌ أمنية تتعلّق بتحويل الأموال ما يسمح لإسرائيل باستعمال فضفاض تستعمل مثله الخزينة الأميركية ضدّ أي كان أو ضدّ أي كيان في العالم تحت قوانين محاربة الإرهاب وحقوق الإنسان. وإذا رأت إسرائيل أنّ التحويلات من الخليج حتى تلك التي يقدّمها أنصار قوى موالية للسعودية في لبنان تُعزّز من صمود لبنان واقتصاده ويجب ضربها أو تقليصها وعرقلتها، فذلك يصيب بالدرجة الأولى عمالة أنصار القوات اللبنانية وتيار المستقبل والتقدمي الاشتراكي وفي لبنان بيئة تلك القوى من عائلات ومؤسسات. وسابقة تخلّي السعودية عن أقرب حلفائها هي علامة نحو هذا الطريق.
- ثانياً، على الصعيد التجاري؛ لبنان مصيره التجاري مرتبط بالسعودية والخليج أكثر من أي دولة عربية أخرى. حصّة دول مجلس التعاون الخليجي من الصادرات اللبنانية كانت تتراوح بين 75% و80%، إلا أنّ الحرب السورية وإقفال الحدود الأردنية والتزام لبنان - غير المفهوم - بمقاطعة سورية (كان لبنان الخاسر الأكبر من دون تعويض)، شلّ عمليات الترانزيت والتجارة اللبنانية مع السعودية والخليج (إلا بنطاق محدود جوّاً وبحراً).
إنّ أثر التطبيع الخليجي مع إسرائيل على التجارة الخارجية اللبنانية قد يكون ضئيلاً، لأنّ استمرار الحرب على سورية والإغلاقات المرافقة له يمنعان عبور البضائع من لبنان. وحتى في غياب عامل الإقفال السوري، فلا حدود بريّة مباشرة بين دول الخليج وإسرائيل تسمح بالتجارة البرية بسبب اعتراض مساحات شاسعة من الأراضي السعودية التي يجب اجتيازها. وهنا خطورة إقدام السعودية على التطبيع مع إسرائيل، لأنّ ذلك يفتح المجال للتجارة البرية بين دول الخليج وإسرائيل وكذلك يفتح المجال للنقل البري بين إسرائيل وشرق المملكة السعودية (الحجاز ونجد وعسير ونجران). وهذا الأمر يحتاج أيضاً ليس فقط لعبور الأراضي السعودية والمرور بالرياض، بل يتطلّب إسرائيلياً إقفال مرفأ بيروت وتجارة الترانزيت العربية عبره. فالمسافة من بيروت إلى دبي برّاً هي 3000 كلم لكنّها تمرّ في سورية والعراق وتحتاج إلى أيام طويلة. بينما المسافة من مرفأ حيفا في فلسطين المحتلة إلى دبي (مروراً بمدينتي عمّان والرياض) هي 2500 كلم وتحتاج إلى 28 ساعة في طرق صحراوية مستقيمة وآمنة. وإنهاء دور مرفأ بيروت وتجارة الترانزيت يصيب مباشرة رجال الأعمال المسيحيين بالدرجة الأولى الذين يعّولون على دعم غربي وخليجي لإنقاذ دورهم الاقتصادي في لبنان.
إذا التحقت السعودية بمسار التطبيع الخليجي فليس مستبعَداً أن يصيب التطبيع قيمة التحويلات اللبنانية من دول الخليج ويلسع مبادلاتنا التجارية معها


- ثالثاً، الاستثمارات والرساميل: وفق إحصاءات مطار بيروت، شكّل الوافدون الخليجيون 35% من إجمالي الوافدين العرب و12% من الإجمالي العام للوافدين (بمن فيهم اللبنانيون). لكن في المقابل، أنفق السياح الخليجيون 45% من إجمالي إنفاق السيّاح في لبنان وهو قطاع حيوي وهام جداً لاقتصاد لبنان. وعلى سبيل المثال، باستثناء النزلاء اللبنانيين، شكّل السعوديون معظم النزلاء المتكررين للفنادق والشقق المفروشة في بيروت والجبل. لقد سبق التطبيع مع إسرائيل عدّة سنوات كانت دول الخليج قد فرضت أثناءها حظراً اقتصادياً على لبنان هو في الحقيقة عقاب له خلفية سياسية معروفة. ولذلك تراجع عدد السياح الخليجيين في لبنان وذهبوا إلى بلدان أخرى كتركيا التي اشترو فيها عقارات. ثم بعد خلاف الإمارات والسعودية مع تركيا عام 2016 أخذ سيل السياحة الخليجية في تركيا يتراجع إلى الحضيض وانخفض كثيراً الاستثمار الخليجي في السوق العقاري التركي.
ومن ناحية أخرى، قُدّرت الاستثمارات التراكمية لدول الخليج في لبنان بنحو 16 مليار دولار، منها 5 مليارات مصدرها السعودية تليها الإمارات والكويت وخصوصاً في القطاعات العقارية والسياحية والمصرفية، والتجارة وخاصة السلع الاستهلاكية، وبنسبة أقل في القطاع الصناعي. إلا أنّ هذه الاستثمارات أخذت تتراجع منذ 2011 وتعطّل تراكمها السنوي، وفي المقابل ستسمح معاهدات التطبيع بدخول أصحاب أعمال وشركات ومصارف إسرائيلية إلى أسواق الدول الخليجية ما يهدّد الحضور اللبناني الذي يعود إلى خمسينيات القرن العشرين وكذلك تشجيع السياحة الخليجية في فلسطين المحتلة التي توفّر زيارات آنية لمصر والأردن vacation package.
أثناء اعتقال رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في الرياض في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، نصح رئيس الجمهورية ميشال عون كبار رجال الأعمال والصناعيين في لبنان بالبحث عن بدائل اقتصادية سواء في الغرب أو في الشرق. ويبدو أنّ استمرار المنحى الخليجي في مقاطعة لبنان ونزيفه الاقتصادي سيدفعان بيروت إلى البحث الجدّي عن بدائل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا