شهدت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية تدخّلاً منهجياً من جانب الدولة لتحقيق الاستقرار في الاقتصادات الرأسمالية. هذا التدخل كان مماثلاً للدور الذي لعبته الدول في الأسواق الاستعمارية وشبه المستعمرة خلال فترة واسعة من القرن التاسع عشر ولغاية الحرب العالمية الأولى. يتضمن الأمر ضمان حصول حافز خارجي من أجل التأثير على النموّ في الاقتصاد الرأسمالي.لم يؤدّ تدخّل الدولة بعد الحرب العالمية الثانية إلى استقرار الرأسمالية فقط، أي بمعنى توفير حافز خارجي للنمو، بل قدّم ضمانة بأن النظام سيعمل على مستوى نشاط يلامس «التوظيف الكامل». فاتخذت الدولة تدابير فعّالة لمواجهة التقلبات الدورية: كثّفت الإنفاق (أو فرضت خفوضات ضريبية) كلما بدأ الاقتصاد في الانزلاق نحو الركود، وحالت دون حدوث انكماش خطير. هذا الأمر شجّع على الاستثمار الخاص وأدّى إلى ارتفاع في معدلات نموّ الناتج المحلي الإجمالي ونموّ إنتاجية العمل والعمالة، وزاد بشكل ملحوظ ارتفاع معدلات نموّ الأجور الحقيقية.
ليس مستغرباً أن تسمّى فترة الخمسينيات والستينيات وأوائل السبعينيات «العصر الذهبي للرأسمالية». إلا أنه مع انطلاقة النيوليبرالية في السبعينيات، التي تتلاءم مع هيمنة التمويل المعولم، انسحبت الدولة من دورها. فرأس المال المالي عارض العجز المالي، ووقف ضدّ الضرائب المفروضة على الرأسماليين، بينما الاقتصاد الرأسمالي النيوليبرالي، لا يمتلك الأدوات التي كانت الرأسمالية تمتلكها سابقاً لتوفير حصن ضدّ انزلاقها إلى الركود. السؤال هو: هل لديها (النيوليبرالية) أي أدوات على الإطلاق؟ هناك إجابة تشير إلى أن للنيوليبرالية حصّتها من «الابتكارات» التي تشكّل حافزاً خارجياً تمنع تموضع الاقتصاد في حالة ثبات وتحافظ على نموّه إيجابياً. غير أنه في الحقيقة، هذه الابتكارات ليست حافزاً خارجياً، فهي تؤثّر، نظرياً فقط، على شكل الاستثمار وليس على قيمته، وهو ما يهم الطلب الكلي (Steindl 1976). المؤرخون الاقتصاديون أشاروا إلى أن الابتكارات لم تُستخدم أثناء الكساد الكبير في الثلاثينيات بسبب حالة الطلب المنخفضة (لويس 1979).

أنجل بوليغان ــ المكسيك

ورغم أن الإنفاق الحكومي لم يعد يلعب دور استقرار في الاقتصاد الرأسمالي، فإن معظم البلدان ملزمة الآن بالتشريعات للإبقاء على العجز المالي في حدود 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وحتى الولايات المتحدة، التي لا تلتزم تشريعياً بهذه الطريقة، فهي تعمل على إبقاء العجز المالي تحت السيطرة. لا يتوقف تدخّل الدولة عن الوجود. يعمل هذا التدخّل من خلال السياسة النقدية التي تؤثّر على تطورات عالم التمويل وعلى قرارات الإنفاق الخاص.
في الواقع، كينز أكّد أن السياسة النقدية يجب أن تلعب هذا الدور. وفي مواجهة ذرائع خبير اقتصادي آخر في كامبريدج، دينيس روبرتسون، الذي اقترح أنه لمنع حالات الركود الحاد يجب زيادة سعر الفائدة عندما تبدأ الطفرة، لاحظ كينز (1946) أن مثل هذه السياسة ستُبقي الاقتصاد في حالة حالة دائمة من شبه الركود. بدلاً من ذلك، اقترح كينز أنه كلما كان الاقتصاد يميل إلى التباطؤ في أدائه، يجب خفض سعر الفائدة لمنع الركود آملاً الحصول على مستوى أعلى من النشاط والتوظيف، رغم أنه لم يكن واثقاً جداً من فعّالية سياسة سعر الفائدة.
سعر الفائدة ليس الأداة الوحيدة التي يمكن الدولة استخدامها. كانت تستخدم، على الأقل في العصر النيوليبرالي، رغم أنها بطريقة أقل وضوحاً، عبارة عن أداة للحفاظ على استمرار الازدهار من أجل إضفاء الطابع الاجتماعي على المخاطر الرأسمالية (المقصود فيها اشتراكية للأثرياء الذين يخسرون فيتم رفع الضرائب على الفقراء من أجل تسديد الخسائر. كلما يقع رأس المال في أزمة نجري اشتراكية لرأس المال وتحميل المخاطر أو جزء كبير منها للضرائب).
فبالنسبة إلى أي شركة، يُحدّد الاستثمار ومدّته من خلال التقاطع بين كفاءة رأس المال، وكلفة الفائدة. أما المخاطر فلا يتحمّلها رائد الأعمال الفردي، لأن حاملي الأسهم الآخرين الذين يقدّمون رأس المال، يتشاركون أيضاً في هذه المخاطر؛ الدائنون لا يقصدون تقاسم المخاطر، لكن يُجبرون على ذلك. فعلى سبيل المثال، المصارف هي الدائن المباشر، وكونها مجرد وسيط مالي يعني أساساً أن هناك أعداداً كبيرة من المودعين الذين لا يعرفون المخاطر التي يتعرضون لها. هؤلاء لا يرغبون في زيادة تعرضهم للمخاطر وليس لديهم الرغبة في مشاركة مخاطر رواد الأعمال؛ لكنهم أُجبروا على القيام بذلك من دون علمهم وبسبب افتقارهم إلى المعرفة حول العالم الاقتصادي الذي يواجههم. المودعون لا يعرفون كيف تقرض المصارف مواردها.
هكذا ينشأ وضع مماثل في ما يتعلق بالقروض التي تقدمها المصارف للمستهلكين. المخاطر المرتبطة بالتخلف عن السداد غير معروفة للمودعين أو للذين اشتروا الأصول المكوّنة من مثل هذه القروض.
في الواقع إن المخاطر المتزايدة سوف تتفوّق تلقائياً على نشوة «الطفرة» بسبب الزيادة في نسبة المديونية؛ لكن ما يمنع مثل هذه الخاتمة هو تدخل الدولة، أو الجهد المتعمد من جانب الدولة للحثّ بطرق مختلفة على التقليل من المخاطر.
في الولايات المتحدة، ساهم في تشكيل الفقاعات، إلغاء إدارة كلينتون لقانون غلاس - ستيغال، وهو الإجراء الذي تم وضعه خلال فترة الكساد الكبير للفصل بين الخدمات المصرفية التجارية والاستثمارية، بحيث لا تتعرض ثروة المودعين لمخاطر غير معروفة. وبالمثل قام رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي آلان غرينسبان بخفض أسعار الفائدة عندما انهارت فقاعة الإنترنت، ليطلق فقاعة جديدة بدأت على شكل فقاعة الإسكان وخلقت «طفرة» جديدة.
من الواضح أن تدخل الدولة بهذه الطريقة من أجل إطالة أمد الازدهار لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. كلما طال أمد الطفرة، كلما زاد التهديد للنظام المالي الهشّ. الهشاشة المتزايدة الناتجة من إطالة أمد الازدهار، تشير إلى أن أدنى صدمة للنظام على شكل فقدان ثقة ويدفع نحو تفضيل السيولة أو «تفضيل الأمان» من جانب هؤلاء الوكلاء الاقتصاديين، له تأثير دومينو. عندما يظهر مثل هذا التأثير، يتعيّن على الدولة إنقاذ النظام المالي من خلال غرس الثقة فيه، ولهذا الغرض تستخدم موارد الموازنة عادة.
كان على إدارة أوباما في الولايات المتحدة أن تتعهد بتقديم دعم بقيمة 13 تريليون دولار لمنع انهيار النظام المالي الأميركي (ليس من الواضح أنه يجب استخدام كل ذلك بالفعل). في الهند، تمثل إعادة رسملة مصارف القطاع العام بمساعدة موارد الموازنة بسبب أعباء الأصول المتعثّرة. مثل هذا الجهد لتحفيز الازدهار لا يمكن أن يستمر في التكرار.
إن أدوات السياسة التي تحافظ على الشرعية الاجتماعية للرأسمالية لا يمكن أن تعمل على توليد اتجاه إيجابي، بينما الأدوات التي يمكن أن تنقل اتجاهاً إيجابياً غير مسموح بها في ظل النيوليبرالية، لأنها تقوّض الشرعية الاجتماعية للنظام. الرأسمالية النيوليبرالية معيبة في جوهرها


يعتقد شاندراسيخار Chandrasekhar (2016) أنه يمكن للتمويل أن يوفر حافزاً يذكرنا بما فعلته نفقات الدولة في سنوات ما بعد الحرب مباشرة أو أسواق ما قبل الرأسمالية في وقت سابق؛ هذا صحيح لكن كما يلاحظ هو نفسه، فإن الحافز الذي يوفّره التمويل لا يتساوى تماماً مع التحفيز الذي توفّره الأسواق ما قبل الرأسمالية أو نفقات الدولة. يمكن أن تكون النشوة التي تحافظ عليها وتطيل أمدها مسألة طلقة واحدة (أو في أحسن الأحوال علاقة ثنائية اللقطات)، لكن لا يمكن أن تكون سمة منتظمة للنظام تولد اتجاهاً إيجابياً.
هذه الحجّة مماثلة لما اقترحه Kalecki (1943) في ما يتعلق بسعر الفائدة (خفضها في فترة الركود لبدء طفرة جديدة). باختصار، إن الاعتماد على السياسة النقدية لتوليد اتجاه إيجابي سيضطر في النهاية إلى دفع سعر الفائدة إلى المنطقة السلبية، وهو أمر مستحيل طالما يمكن الاحتفاظ بالنقد الذي ينتج عنه معدل فائدة صفري بدلاً من أي أصل سلبي العائد.
إن رأس المال المالي كان دائماً يعارض تدخّل الدولة عبر التوسّع في الإنفاق، لأن تدخّل الدولة بهذه الطريقة يقوّض الشرعية الاجتماعية للرأسمالية. لكن ليس لدى الرأسمالية اعتراضات على استخدام سياسة سعر الفائدة لتحفيز النشاط الاقتصادي على اعتبار أن سياسة سعر الفائدة تعمل من خلال تعزيز الإنفاق الخاص. إن استخدام سياسة سعر الفائدة لا يقوّض الشرعية الاجتماعية للرأسمالية بالطريقة التي تعمل بها السياسة المالية (بخلاف تلك التي تسعى إلى تحفيز النشاط من خلال خفض الضرائب على الرأسماليين).
لكن السياسة النقدية، وكذلك السياسة المالية، التي تعمل من خلال خفض الضرائب على الرأسماليين، لا يمكن أن تكون بمثابة حافز خارجي لإدخال اتجاه إيجابي بالطريقة التي يمكن أن يشكّلها إنفاق الدولة.
إن أدوات السياسة التي تحافظ على الشرعية الاجتماعية للرأسمالية هي أدوات لا يمكن أن تعمل على توليد اتجاه إيجابي، في حين أن الأدوات التي يمكن أن تنقل اتجاهاً إيجابياً غير مسموح بها في ظل الرأسمالية النيوليبرالية لأنها تقوّض الشرعية الاجتماعية للنظام. الرأسمالية النيوليبرالية معيبة في جوهرها، بمعنى أنها لا تملك حافزاً خارجياً للنمو المستدام، وهي حقيقة أصبحت واضحة بشكل متزايد أخيراً.
الإنفاق الحكومي لا يوفر حافزاً خارجياً للنمو فحسب، بل هو أيضاً أداة لمواجهة التقلّبات الدورية للحفاظ على مستوى نشاط مرتفع. كانت أسواق ما قبل الرأسمالية، كما لاحظ المؤرخ الاقتصادي إس بي سول (1960)، «أسواقاً على الصنبور» في ظل النظام الاستعماري. ومع ذلك، فإن تيسير التمويل ليس فقط حافزاً خارجياً للنمو، ولكن لهذا السبب تحديداً ليس أداة يمكن التلاعب بها للحفاظ على مستوى النشاط. ليس مستغرباً أن الرأسمالية النيوليبرالية، والتي تفتقر إلى مثل هذا الحافز الخارجي القابل للتلاعب، تعاني من ميل جوهري نحو الركود.

* نصّ منقّح لمحاضرة ألقاها برابهات باتنايك في معهد تاتا للعلوم الاجتماعية - مومباي - في 11 شباط 2019.
للاطلاع على كامل النص يرجى زيارة الرابط الآتي:
https://www.networkideas.org/featured-articles/2019/05/finance-and-growth-under-neo-liberalism/

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا