حتى الآن، الثابت بالطرق العلمية المتّبعة، أن هناك تناسقاً قوياً بين تطوّر الكتلة النقدية بالليرة وتطوّر سعر الصرف في السوق الموازية. العلاقة قويّة بينهما إلى درجة أنها اقتربت كثيراً من العلاقة الكاملة، وإن كان ذلك لا يدلّ بالتحديد على أنها علاقة سببية. هناك معادلة حسابية لهذه «العلاقة» يمكن احتسابها على برنامج (excel) لقياس درجة التنافر أو التناسق بين مجموعة معطيات رقمية يفترض أنها مرتبطة ببعضها البعض. التنافر يُعبَّر عنه بـ (1-) والتناسق يعبّر عنه بـ (1). كلما كانت النتيجة أقرب إلى (1) كانت العلاقة متناسقة وقويّة بين الأمرين وصولاً إلى حدّ التكامل، وكلما كانت أقرب إلى (1-) كلما كانت العلاقة متنافرة بينهما إلى درجة التكامل أيضاً، وإذا كانت صفراً فهذا مؤشّر على عدم وجود علاقة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

النتيجة الظاهرة للعلاقة بين الكتلة النقدية بالليرة المتداولة خارج مصرف لبنان، وبين سعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق الموازية، تشير إلى وجود علاقة متناسقة وقوية بينهما. نالت هذه العلاقة 0.92 ما يعني أنها قوية لأنهما يتحرّكان ضمن مسار واحد واتجاه واحد وبدرجة ما بالوتيرة نفسها. في الواقع، لا يمكن القول إنه في المسائل المتّصلة بالسياسات النقدية، أن العلاقة بين تطوّر حجم الكتلة النقدية وارتفاع سعر الصرف، نشأت بالصدفة، كما لا يمكن القول إنها علاقة سببية أيضاً. ربما تطوّرت بمرور الوقت لتصبح علاقة سببية أو محفّزة، أي أن أحد من طرفي العلاقة يحفّز الثاني أو بالعكس، أو التحفيز متبادل بينهما.
على أي حال، إن وجود علاقة قوية بين الكتلة النقدية وسعر الصرف مصدره السياسات النقدية التي يتبعها مصرف لبنان في فترة الأزمة. منذ بدء الأزمة، وتحديد، منذ إغلاق المصارف بعد أحداث 17 تشرين الأول الماضي، ولغاية اليوم، واظب مصرف لبنان على توسيع الكتلة النقدية بالليرة. في الأشهر الأولى، أي بين تشرين الثاني 2019 وأيار 2020، كان حجم الكتلة النقدية يزداد حجماً أكثر من ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة. في أيار 2020 تقاطع المساران، وبات سعر الدولار يزداد بوتيرة أكبر. رغم ذلك، ظل مسار الاثنين يتسارع في الاتجاه نفسه طوال الفترة الممتدة بين تشرين الثاني 2019 وأيلول 2020، ما يشي بأن العلاقة بينهما فيها شيء من السببية والتحفيز المتبادل. أصلاً هذا النوع من العلاقة أمر متاح في أزمات مثل التي يمر بها لبنان.
في كانون الأول 2019، كانت الكتلة النقدية تزداد بنسبة 87% بينما سعر الصرف ازداد بنسبة 36%

فعندما تتضخم أسعار السلع على وقع التوقعات والتقديرات السوقية بارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة، يصبح لزاماً على المصرف المركزي، أي مصرف مركزي في العالم، أن يعوّض النقص في كمية النقد المتوافر محلياً عبر إصدارات جديدة يضخّها في السوق، إلا أن هذا الأمر يفرض، منطقياً، ارتفاع سعر الدولار قبل حصول زيادات كبيرة في حجم الكتلة النقدية، وهذا أمر لم يحصل. ففيما كانت الكتلة النقدية تزداد بنسبة 69% في تشرين الثاني 2019، كان سعر الدولار مقابل الليرة يرتفع بنسبة 30% (وسطياً) فقط. حتى في الشهر الذي تلى، أي في كانون الأول 2019، كانت الكتلة النقدية تزداد بنسبة 87% بينما سعر الصرف ازداد بنسبة 36%. لعلّ التفسير الأكثر رجاحة هو أنه مع قيام المصارف بفرض قيود غير مشروعة على سحب الدولار الورقي ومنع التحويلات (إلا للمحظيين ولأصحاب النفوذ) ومواصلة تحويل الليرات المودعة لديها إلى دولارات مجمدة على فترات طويلة، تهافت المودعون على سحب الليرات من المصارف وتحويلها إلى دولارات من الصرافين أو من السوق الموازية، وهو ما انعكس بعد بضعة أسابيع، إلى جانب عوامل ومحفّزات أخرى سياسية واقتصادية، طلباً إضافياً على الدولار دافعاً سعره إلى تسارع وتيرة ارتفاعه. ثم اضطر مصرف لبنان أن يوّسع الكتلة أيضاً بسبب تضخّم الأسعار لإتاحة كميات إضافية من العملة في السوق تغطّي هذا التضخّم، وبسبب تعاميمه التي تتيح تسديد الودائع على سعر صرف 3900 ليرة مقابل الدولار بدلاً من 1515 ليرة. هناك من يرفض وجود مثل هذه العلاقة، لكن الواقع، أن كتلة الودائع تتقلّص شهرياً بمعدل وسطي يبلغ 1300 مليار ليرة، وهو رقم يوازي المعدل الوسطي لزيادة الكتلة النقدية قيد التداول. النقد بهذا المعنى هو سلعة، إذا اختلّ توازن عرضها وطلبها فستنخفض أو ترتفع انسجاماً مع هذا الأمر. انخفاض قيمة العملة في أي بلد يعني تراجع قيمة المدّخرات، ومزيداً من الفقر والبطالة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا