إذا كانت ولادة الحكومة اللبنانية الجديدة مرهونة بتطبيق المبادرة الفرنسية لأنّ باريس تعبّد المسار نحو مساعدات صندوق النقد الدولي وإعادة الاعتبار للبنان في الأسواق المالية الغربية، فالأجدر أن يتضمّن عمل الحكومة الجديدة إصلاحات جوهرية تُقنع الخارج بأنّ مؤشّر الفساد سوف يتراجع.لقد جاء في وثيقة «مشروع برنامج للحكومة اللبنانية الجديدة» التي وزّعتها السفارة الفرنسية في بيروت يوم 2 أيلول فقرة تتعلّق بمصرف لبنان وتتحدّث عن «القانون المتعلّق بالكابيتال كونترول والتدقيق في حسابات مصرف لبنان». هذا الإجراء يمثّل جانباً ضئيلاً مما يجب عمله لإصلاح مصرف لبنان. فحتى بعد شهر ونصف من بدء التدقيق على يد شركة Alvarez & Marsal لا يتعاون مصرف لبنان كما يليق بمصارف مركزية حول العالم، عندما يُطلب منها توفير معلومات وأجوبة على مؤسسات تفتيش عيّنتها الحكومة. فمصرف لبنان يردّ «بالقطّارة» وبمزاجية، ما يعرقل أعمال آلفاريز ويؤخّر تحضير أيّ تقرير محترم، وقد يدفعها لأن تنسحب أمام هذا التعامل من قِبل جهة رسمية تتصرّف وكأنّها دولة ضمن الدولة.
استناداً إلى تجربتي السابقة في وزارة المالية الفدرالية الكندية ومهمّتي في تنسيق إصدار سندات الخزينة مع المصرف المركزي الكندي، يمكنني أن أقول إنّ تصرّف مصرف لبنان تجاه التحقيق غير مقبول ويُضاف إلى أخطائه وخطاياه المتراكمة منذ 30 عاماً والتي لم أشهد مثلها في كندا. كنتُ أرى حاكم مصرف كندا المركزي الدكتور غوردن تايسون يقف بكلّ تواضع في طابور أمام بائع البطاطا المقلية في الشارع أمام مبنى المصرف، وأتبادل معه التحية وهو في غاية التواضع والشفافية، وقام بعمل رائع لسنوات طويلة ضبط فيها الدين العام الفدرالي الكندي الذي كان تفاقم لفترة وحمَى الدولار الكندي بسياسات سلسة، حتى وصل إلى سنّ التقاعد وغادر العاصمة إلى ولاية ساسكتشوان. ولم نعُد نسمع عنه فلا أصبح وزيراً ولا نائباً ولا جاء اسمه في أيّ فضيحة أو صفقة.
إنّ نظافة الكفّ تأتي في رأس لائحة الصفات المطلوبة في حاكم مصرف لبنان، وقد حان الوقت لاختيار حاكم جديد بعد مضي 27 سنة على حاكمية رياض سلامة. وهذا بعض الأفكار في سياق خريطة طريق إصلاح مصرف لبنان على الحاكم الجديد تنكّبها منذ يومه الأول في المنصب:

أولاً: في إدارة مصرف لبنان
- على الحاكم الجديد عقد اجتماع عام في بيروت خلال أسبوع من تعيينه لكلّ موظفي مصرف لبنان وفروعه السبعة في المدن الفرعية. وكل موظّف يتخلّف عن الحضور من دون إذن خطي يعرّض نفسه للمساءلة الإدارية.
- يعقد الحاكم الجديد اجتماع عمل مع المسؤول الأول في التفتيش المركزي في الإدارة الرسمية والمسؤول الأول في ديوان المحاسبة ويطلب من التفتيش المركزي والمحاسبة إعداد تقرير إداري ومالي عن مصرف لبنان خلال ثلاثة أشهر. ويحقّ لهاتين الهيئتَين الرسميّتَين مقابلة أيّ مسؤول مهما علا شأنه داخل المصرف. وهذا الإجراء هو بمعزل عن أيّ تحقيق تقوم به شركة آلفاريز.
- تعزيز الذراع البحثي للمصرف وإصدار مؤشّر شهري للتضخّم مع سلسلة أسعار السلع الأساسية ومؤشّر البطالة كل 90 يوماً، حتى لا يبقى التضخّم والبطالة مسألة رأي. وإصدار جدول الفوائد في سوق بيروت المالية وملخص لبيانات مصرف لبنان، وإصدار دراسات فصلية عن السياسة النقدية.
يجب العمل تدريجياً على إنهاء عهد الدولرة وفكّ ارتباط الليرة بالدولار وفق جدول زمني طويل الأمد مرتبط بنمو الاقتصاد اللبناني على أن تُجرى مراقبة السوق المالية وضخّ ما يلزم من نقد (بنكنوت) وطنيّ لكي تبقى ضمن حيّز مستقرّ ما يسهم في استقرار سعر الدولار على 3000 ليرة لبنانية خلال سنوات


- تعزيز موقع لجنة الرقابة المصرفية التي أسّسها الرئيس سليم الحص عام 1967 في الهيكلية التنظيمية لمصرف لبنان حتى تقوم بواجبها الرقابي على المصارف.
- تخصيص ساعة من وقت الحاكم بعد ظهر كل يوم جمعة للقاء المواطنين في مكتبه، على أن تخصّص هذه الساعة كل رابع أسبوع للقاء عام مع الطلاب الجامعيين أو الوفود الشعبية لطرح الأسئلة وشرح السياسة النقدية.
- مراجعة جدول الأجور والحوافز والمصارفات داخل مصرف لبنان، وترشيد كلّ ما لا ينسجم مع قيود ديوان المحاسبة ومع شروط التوظيف في الدولة اللبنانية.
- رفع رواتب موظفي مصرف لبنان وفروعه لتكون أعلى من رواتب موظفي المصارف التجارية لجذب أفضل العقول الإدارية والمصرفية خدمة للمواطنين.
- الإلغاء التدريجي للتعيينات الكيفية من مستشارين ومتعاقدين خارج الملاك والخدمة المدنية ومنع التدخلات السياسية في شؤون التوظيف، وخاصة إنهاء مسألة أن يكون نواب الحاكم تابعين لزعامات سياسية.
- خفض راتب حاكم مصرف لبنان من 35 ألف دولار شهرياً إلى 10 آلاف دولار.

ثانياً: في السياسة النقدية
- العمل مع سوق بيروت المالي لترشيد جدول الفوائد بحيث تكون في حيّز 2.5% إلى 7.5% على القروض والودائع. واقتران أسعار الفوائد بالأسعار العالمية مثل LIBOR London Interbank Rate.
- تقديم حوافز للمصارف التجارية لتشجيع القروض الميسّرة للصناعة الوطنية والزراعة الوطنية بفائدة 2 و3 في المئة وخاصة في زمن الكورونا وانهيار الاستيراد.
- تعزيز قروض الإسكان بنفس مواصفات قروض الصناعة والزراعة، وفرض سقف أعلى هو مساحة 100 متر للشقة لكي يتزوج الصبايا والشباب، واسترداد مبالغ القروض كافة التي أُنفقت في مشاريع فساد ربحية وفي الشقق الفخمة فوق 180 متراً. على أن يُصدر مجلس الوزراء مرسوماً بهذا الخصوص يوافق عليه البرلمان.
- هذا في ما يتعلّق بالفوائد. أما بالنسبة إلى العملة الوطنية: يبدأ العمل تدريجياً على إنهاء عهد الدولرة وفكّ ارتباط الليرة بالدولار وفق جدول زمني طويل الأمد مرتبط بنمو الاقتصاد اللبناني. على أن تُجرى مراقبة السوق المالية وضخّ ما يلزم من نقد (بنكنوت) وطني لكي يبقى ضمن حيّز مستقرّ. وهذا يسهم في استقرار سعر الدولار على 3000 ليرة لبنانية خلال سنوات، ثم يستمر الجهد في تقوية الليرة شرط أن يحقّق لبنان استقراراً أمنياً واقتصادياً.
- يؤكد حاكم مصرف لبنان الجديد عزمه على تنفيذ قانون النقد والتسليف بحذافيره، ما يعني استعادة مصرف لبنان لأسنانه واحترام الهوّة بينه وبين جمعية المصارف، فلا يكون صديقاً خادماً لأصحاب مصارف وأصحاب الودائع الكبيرة، وكذلك لا يكون عدّواً للمصارف. بل يعمل ما فيه لمصلحة الاقتصاد اللبناني بعيداً عن الريعية. فالمطلوب ليس COLLISION تصادم مع المصارف ولاتواطؤ COLLUSION، بل سياسة سلِسة لسوق مالية تخدم لبنان والمنطقة العربية.

ثالثاً: حول الدين العام والعلاقة مع وزارة المالية
- الاستفادة من تجربة حاكمية الياس سركيس (1968-1978) وإدمون نعيم (1984-1990) في كيفية التصرّف وتنظيم العلاقة مع وزارة المالية بما فيه مصلحة لبنان العليا.
- التفاوض مع القطاع المصرفي اللبناني لإعادة هيكلة الدين العام بحيث تُستبدل السندات ذات الفوائد العالية بأخرى ذات فوائد تلتزم بجدول مذكور أعلاه (2 ونصف إلى 7 ونصف في المئة) والتركيز على سندات طويلة الأمد.
- وقف العمل بما يسمى الهندسات المالية التي مورست قبل سنوات، والطلب إلى المحكمة التجارية اللبنانية مراجعة ما جرى تحت هذه الهندسات وتصحيحه وفقاً للقانون.
- توضيح حجم ومكان الكتلة الذهبية وإمكان لبنان استعمال حقّ غبّ الطلب في استدعاء الذهب ليس لبيعه بل لتعزيز ثقة المواطن اللبناني بعملته.
- تهذيب وتبسيط بيانات مصرف لبنان بحيث يفهمها كل المواطنين.
- إبلاغ الرأي العام بأي لقاء بين حاكم المصرف وأي مسؤول في الحكومة اللبنانية، ومنع السياسيين منعاً باتاً من التواصل مع الحاكم ونوابه ومجلس المصرف تحت طائلة المساءلة واستصدار مرسوم بهذا الشأن. وأي موظف في مصرف لبنان مهما علا شأنه يتواصل مع أي زعيم أو منصب سياسي يعرّض نفسه للعقوبة الإدارية وصولاً إلى المجلس التأديبي والفصل من العمل. زمن الكومبينات في السهرات الاجتماعية يجب أن ينتهي.

رابعاً: العلاقات العربية
- خلال عشرة أيام من تعيينه يقوم حاكم مصرف لبنان الجديد ونوابه ومجموعة من كبار موظفي البنك بزيارة المصارف المركزية في الإمارات العربية والسعودية ومصر والعراق وسورية لبحث وتنسيق ومقارنة السياسات النقدية وطلب مبلغ 5 مليارات دولار من هذه الدول مجتمعة لإيداعها في مصرف لبنان بفائدة صفر.
- يُقام لقاء سنوي بين حكّام المصارف العربية بعيداً عن الطابع المهرجاني والكسب السطحي للجوائز، بهدف تحضير خطة عمل عربية مستقبلية يكون من أهدافها ولادة عملة بنكية عربية، ومقارنة جداول الفوائد التي تمنحها المصارف العربية التجارية.
- التنسيق في ما بين السياسة التجارية والسياسة النقدية واستعمال العملة الموحّدة العربية للتبادل.

خامساً: العلاقات الدولية
- يقوم الحاكم الجديد ونفس الوفد المذكور أعلاه وخلال 21 يوماً من تعيينه بزيارة حكام المصارف المركزية في فرنسا وسويسرا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والطلب إليها الإيعاز إلى المصارف التجارية العاملة في أراضيها بتجميد أصول أي تحويلات جاءت من لبنان خلال 12 شهراً سابقاً، لأن لبنان في وضع ملاحقة الفاسدين والسارقين لأجل استعادة المال العام. وتعيين فريق محامين لمتابعة إمكانية استعادة الأموال المنهوبة.
- عقد لقاء بين حاكم مصرف لبنان وحاكم ولاية نيويورك لنفس الهدف والعمل على رفع أيّ عقوبات مصرفية أساسها سياسي عن لبنان وإعادة الاعتبار لأي مصارف تعرّضت للتشهير الأميركي سابقاً.
- زيارات دورية مشتركة يقوم بها وفد من مصرف لبنان ومن وزارة المالية اللبنانية إلى المحافل الدولية لشرح أهمية لبنان الاستثمارية وحسناته الاقتصادية، مع تقديم بورتفوليو يجدّد شهرياً للمستثمرين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا