على إثر فرض الولايات المتحدة عقوبات على الوزير السابق جبران باسيل، تسرّب عبر الإعلام أن أحد المطالب الأميركية منه كان تعيين عدد من الموظفين في مواقع متفرّقة في الإدارات اللبنانية. وبعد التجارب المريرة مع التكنوقراط الذين عيّنهم الرئيس رفيق الحريري في أعلى المناصب الإدارية، هناك الآن توجّس من تبعات التعيينات التي تنطوي على أجندات تتجاوز الاستغلال السياسي من السيطرة على موقع ما. حالياً، في ذورة الانهيار، نشهد تبعات القرارات التي يتّخذها التكنوقراط الحريريون والتي تبدو شبه عشوائية وتتلاعب في الوقت نفسه بمعيشة المقيمين في لبنان. بمعنى آخر، هناك نمط للقرارات التدميرية الصادرة عن التكنوقراط وهو يفسّر بشكل ما، اهتمام الولايات المتحدة بتعيين المزيد منهم في الدولة اللبنانية انطلاقاً من ثلاث مسائل أساسية: علاقة التكنوقراط بالنيوليبرالية أولاً، الشكل العام لسياساتهم المشتركة ثانياً، ومصدر سلطاتهم الواسعة داخل الدولة ثالثاً.
التكنوقراط والنيوليبرالية
لعلّ أفضل من عبّر عن تفسير ملخّص لمفهوم التكنوقراط، هو العالم السياسي الأميركي روبرت باتنم الذي ميّز بين «التقني» وهو صانع قرار مدرّب في العلوم التطبيقية، و«التكنوقراطي» وهو صانع قرار مدرّب في العلوم التطبيقية يفتقد للحساسية الاجتماعيّة والسياسية. يمكن أن نجد تفسيراً لهذه «اللاحساسية» الاجتماعية والسياسية في تبنّي معظم التكنوقراط للسياسات النيوليبرالية. بحسب ميغيل سِنتينو في ورقة أعدّها بعنوان «سياسات المعرفة: هايك والتكنوقراط»، فإنّه اعتباراً من السبعينيات، تزامن صعود جيل من التكنوقراط الشباب مع تبنّي التكنوقراط شبه العالمي «إجماع واشنطن» النيوليبرالي. وهذا الأخير دعا إلى الانضباط المالي، وتحرير التجارة وحركة رأس المال، والخصخصة، وإلغاء الضوابط القانونية من أمام القطاع المالي.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

في هذا السياق، يعيد سنتينو الترابط بين التكنوقراط والنيوليبرالية إلى أربع مسائل: أولاً، إن التكنوقراط سلّموا بصوابية النيوليبرالية؛ ثانياً، بسبب الخلفيات الاجتماعية التي أتى منها الكثير من التكنوقراط؛ وثالثاً، التحالف بين النخب السياسية الإقليمية والمؤسسات المالية الدولية؛ ورابعاً، هناك الارتباط بالجامعات الأميركية والشبكات اللاحقة التي تم تطويرها هناك وكذلك دور مراكز الفكر والمؤسسات.
كلّ هذا يرسم، بحسب سِنتينو، صورة تكنوقراط يتماهون مع أيديولوجيا معيّنة من دون وجود حوافز مالية بالضرورة، ويعتمدون على المعرفة الاقتصادية لإضفاء الشرعية على الحكومة التي وظّفتهم. ولكن يضيف سِنتينو أمراً إضافياً. فهو يربط بين تبنّي التكنوقراط للنيوليبرالية، وبين نظرية فريدريش فون هايك الاقتصادية - الاجتماعية. أفكار هايك، تُعدّ الجذور الرئيسية للنيوليبرالية، ونظريته عن المعرفة تتفق مع التحوّل المعرفي المعاصر في حينه، وهي نظرية يقينيّة حاسمة تقلّل التعقيدات التي قد تواجه من يريد تفسير العالم من حوله. فإذا كان ماركس يؤمن بالحتمية الاقتصادية، فإن هايك كان يؤمن بالحتمية المعرفية (الإبستمولوجيا). بالنسبة إلى الأخير، فهم الإنسان لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال تحليل التصرفات الفردية. وهذه تتراكم بشكل مشترك لتبني المؤسّسات التي يقوم عليها المجتمع. لذا، فإنّ تصرفات الجماعات ليست سوى تفاعل بين مجموعة متنوعة من الأفراد. إن تفسير هذه التصرفات الفردية لن يتمّ إلّا عبر قراءة تشتمل على تحيزات القارئ وتصوّراته المسبقة. لذلك، بالنسبة لهايك، فإن تطوير نظرية تقوم على الملاحظات التجريبية هو حماقة. وكل ما يمكننا القيام به هو تطوير سلسلة من الافتراضات التي تتناسب مع نمط منطقيّ ومتماسك.

يقين وسياسات
لكن كيف ينعكس هذا اليقين المعرفي والاقتصادي والسياسي عند هايك على سياسات التكنوقراط؟ يمكن أن نصنّف الأيديولوجية التكنوقراطية النيوليبرالية على أنها تتكون من ثلاث نقاط بسيطة:
أولاً، هناك أشكال من المعرفة ومن الحقائق أعلى مما يسمح به النقاش السياسي- والنقاش السياسي هنا هو بمثابة أخذ الملاحظات التجريبية في الاعتبار.
ثانياً، السوق هو أفضل وسيلة لتحقيق تلك المعرفة - والسوق هنا هو بمثابة النمط المنطقي القائم والمتماسك.
ثالثاً، يجب عدم السماح للصراع السياسي والاجتماعي بالتدخل في الأداء الطبيعي للسوق.
انطلاقاً من هذه النقاط الثلاث، لا يثق التكنوقراط بالمواطنين لاتّخاذ القرارات السياسية الأفضل، بل يسعون إلى حمايتهم من أسوأ غرائزهم السياسية (المفارقة أنّهم ضمنياً سيثقون بهم لاتخاذ الخيارات الاقتصادية الصحيحة). فبينما يعلن التكنوقراط حبّهم للديمقراطية، يعبّرون في الوقت نفسه عن ازدرائهم مبدأ الانتخاب الشعبي. وفي تناقض مماثل، يستخفّ التكنوقراط بدور الدولة في الاقتصاد رغم بذلهم جهوداً كبيرة لتركيز السلطة في مؤسّسات حكومية مختارة.
لكن ما هي الخطوط العامة لسياسات التكنوقراط النيوليبراليين؟ يلخّص سِنتينو هذه السياسات، في بحث آخر أعدّه بالتعاون مع باتريسيو سيلفا بعنوان «سياسة الخبرة في أميركا اللاتينية». تتمحور سياسات التكنوقراط حول مجموعة نقاط أبرزها: إعطاء الأولوية للنموّ الاقتصادي على حساب التنمية الاجتماعية؛ قبول الحاجة إلى النظام السياسي؛ الإحجام عن تحدّي التسلسل الهرمي الاجتماعي.
سياسات التكنوقراط تركّز على النموّ في سياق نيوليبرالي يحتّم اتّباع إملاءات الأسواق الدولية، وهم يشتركون في الاعتقاد بأنه في حال نشبت النزاعات، يمكن حلّها أو التحايل عليها من خلال تحسين فعّالية استعمال الموارد. لذا، كلّ القطاعات الاجتماعية من طبقات ومجموعات المصالح والأفراد في صراع، لأن الموارد يتمّ توزيعها بشكل غير فعال. والحلّ بالتأكيد لن يكون نتيجة توازن القوى بين القطاعات الاجتماعية المختلفة.
يُبدي الباحثان ملاحظة أساسيّة حول الخلفيات الفكرية المتشابهة للتكنوقراط النيوليبراليين، مثل التدريب في الاقتصاد و/ أو الهندسة، والزيارات الممتدّة لفترات طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة، والطلاقة في استعمال الأدبيات الدولية في مقابل إبداء عدم الارتياح الضمني لاستعمال الأدبيات الوطنية/القومية.
هذه الملاحظة مهمّة جداً لأنها متعلقة بمصادر قوّة التكنوقراط وسبب ميل غالبيتهم إلى النيوليبرالية.

الموقع في المنظومة العالمية
في دراسة بعنوان «الأسس المادية للتكنوقراطية» يشير بَن روس شنايدر، إلى أنّه من المنظور المهني، يمكن تعريف التكنوقراط على أنهم كبار المسؤولين المدنيين في الدولة الذين يحملون شهادات جامعية في العلوم التطبيقيّة والاجتماعية (بما في ذلك إدارة الأعمال والقانون)، ولكن في الوقت نفسه ليس لديهم خبرة أو خلفية انتخابية.
 لماذا الخلفية الانتخابية مهمّة؟ لأنّ الساسة حين يتّخذون القرارات يبنون على حسابات إعادة الانتخاب والمحافظة على الشعبية، أمّا التكنوقراط فيبنون على المعايير الفنية - التقنية. لذا يرتبط التكنوقراط عادةً ببرامج التكيّف النيوليبرالي التي غالباً تكون غير شعبية. لكن إذا لم يكن التكنوقراط منتخَبين، فمن أين تأتي قوّتهم في المواقع التنفيذية في الدولة؟
وفق شنايدر، فإنه يمكن تفسير قوّة سلطة التكنوقراط بأربعة أسباب: أوّلها «الحجّة الوظيفية»، التي تقول إن تحديث المجتمعات يحتاج إلى موظفين مدربين تقنياً في الدولة. ثانيها، أن لدى التكنوقراط شبكات ومجموعات اجتماعية تعمل على نشر أعضائها في المفاصل الأساسية في المجتمع لنيل أكبر قدر ممكن من السلطة. وثالثها يقول إن الساسة يضعون التكنوقراط في مواقع قوّة ليتعاملوا مع مصادر عدم اليقين السياسي ويتحمّلوا المسؤولية عنهم في مواضعه. ورابعها يزعم أن القادة السياسيين يبحثون عن تكنوقراط من أجل الإشارة إلى التزام الحكومة بالإصلاح الاقتصادي وبالتالي استعادة ثقة المستثمرين.
ويشرح شنايدر أن تبنّي المسارات النيوليبرالية يُربط بالجهود السياسية للإشارة إلى أن الحكومات ترغب في استعادة التوازن المالي وثقة المستثمرين. وذلك لأنّ المؤسسات المالية الدولية، ولا سيما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، هي الدوائر التي تحاول الحكومات إرسال هذه الإشارات إليها. لذا تسارع الحكومات إلى تعيين تكنوقراط من ذوي شبكات معارف واتصالات بمديري صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، من أجل تعزيز الموقف التفاوضي. وكما هو معلوم فإنّ المؤسّسات الماليّة الدوليّة التي تتبنّى إعلان واشنطن، شديدة الصراحة بميولها النيوليبرالية. لذا بات واضحاً أن المؤسّسات المالية الدولية عزّزت الفصائل النيوليبرالية في بيروقراطيات الاقتصادات.
لذا، يؤكّد شنايدر أن مستوى تأثير المؤسسات المالية الدولية، وتباعاً النيوليبرالية، على تركيبة البيروقراطية في بلد ما، يعتمد على موقع هذا البلد ضمن منظومة الاقتصاد العالمي. كلّما كان البلد أكثر اعتماداً على رأس المال المحليّ خفّ تأثير تقييم المؤسسات المالية الدولية عليه. وبالعكس، كلّما ازداد اعتماده على أسواق رأس المال الدولية للتمويل، انزلق أكثر نحو مسار تلبية الشروط النيوليبرالية للحصول على تقييم إيجابي من المؤسسات المالية الدولية، آملاً أن ينعكس ذلك على ثقة المستثمرين الأجانب (وعلى المؤسسات بحد ذاتها في حال ظهرت الحاجة إلى تمويل منها). وهذا طبعاً يؤدّي إلى استحواذ التكنوقراط على سلطة أكبر ومساحات أوسع من القوة السياسية.

لبنان «خير» نموذج
ولبنان يعدّ خير مثال على ما يقوله شنايدر عن علاقة موقع البلد ضمن منظومة الاقتصاد العالمي وتفشّي التكنوقراط النيوليبراليين فيه. ففي تجربة الحريرية السياسية منذ عام 1992 ولغاية 2019، يظهر أن كلّ المراكز التقنية في الإدارة اللبنانية قد مُلئت بالتكنوقراط النيوليبراليين. باستعراض سريع للأسماء التي تولّت أهم المراكز التنفيذية داخل الإدارة اللبنانية، سنكتشف شبكات علاقات متداخلة تربط شاغلي أهم المراكز بالمؤسسات المالية الدولية وبالولايات المتحدة.
يتّهم الكثير من معارضي الحريرية السياسية هؤلاء التكنوقراط بالفشل، ويأخذون كدليل على فشلهم، نتائج قراراتهم على البنية الاجتماعية - الاقتصادية. في الفترة الأخيرة، يكاد لا يمرّ أسبوع من دون قرار يؤثّر على قطاع حيوي ويأخذ اللبنانيين إلى حافة الهلع ومن ثم يتم التراجع عنه. معظم هذه القرارات تتعلق بدعم السلع والخدمات الأساسية والسياسات النقدية وقوننة الأسواق المالية اللبنانية، وبعضها إن حصل وتمّ المضي به إلى النهاية سيؤدي إلى انهيار البنية الاجتماعية في لبنان.
القرارات التي يتّخذها التكنوقراط في لبنان تقع تحت مظلّة السياسات النيوليبرالية ومن ينفّذها يؤمن بأنّ الصراعات القائمة هي نتيجة سوء استخدام الموارد (ما تبقى من دولارات في البلد مثلاً) والحلّ لن يكون إلّا عبر توزيعها بشكل فعّال (لا عادل) عبر استخدام المعرفة المتأتيّة من السوق، أي إن التوزيع سيخدم عملياً القوى المؤثّرة في السوق، لا الفئات الاجتماعية الأكثر تضرّراً

وبينما يظهر أن هذه القرارات تنمّ عن عدم معرفة، يلجأ البعض إلى ترجيح تواطؤ التكنوقراط مع أطراف خارجية بهدف زعزعة الوضع الداخلي. إلّا أن التمحيص في هذه القرارات سيوضّح أنّها تقع تحت مظلّة السياسات النيوليبرالية، وأنّ من اتخذ القرار كان ينفّذ ما يؤمن بأنّه الحقيقة المطلقة التي لا ثاني لها. فبنظره إن الصراعات القائمة هي نتيجة سوء استخدام الموارد (ما تبقى من دولارات في البلد مثلاً) والحلّ لن يكون إلّا عبر توزيعها بشكل فعّال (لا عادل) عبر استخدام المعرفة المتأتيّة من السوق. أي إن التوزيع سيخدم عملياً القوى المؤثّرة في السوق، لا الفئات الاجتماعية الأكثر تضرّراً. لذا، أصبحنا نلاحظ أنّ التراجع عن هذه القرارات يكون بسبب ضغط من القوى السياسية التي تأخذ في الاعتبار التداعيات الشعبية على قرارات كهذه.
لكن هذا لا يعني أنّ التكنوقراط وطنيون وبمنأى عن الاتهام بالارتهان للمؤسسات المالية الدولية ومنظومة الاقتصاد العالمي. ببساطة ما يحصل هو أنّ السياسيين اللبنانيين، ومن ضمن سعيهم لإرضاء الأسواق والمؤسسات المالية الدولية والولايات المتحدة، يعينون تكنوقراط نيوليبراليين مؤدلجين، لدرجة أنه بالنسبة لهم الخضوع لأيّ اقتراح أو إيحاء صادر عن تلك المؤسسات (ومن خلفها الولايات المتحدة) مجرد مسار طبيعي لممارسة المهام المنوطة بهم، بغض النظر عن مفاهيم السيادة والمصلحة الوطنية.
في هذا السياق يمكن التوصل إلى استنتاجين:
- من الطبيعي جداً أن تطلب الولايات المتحدة من جبران باسيل أو من غيره تعيين تكنوقراط في الإدارات العامة اللبنانية. فالمواصفات النيوليبرالية لمعظم التكنوقراط اليوم تعني أنّ كلّ هذه الفئة تقع تحت التأثير الأميركي بشكل مباشر أو غير مباشر.
- يجب أن يصبح من البديهيات التشكيك بأي شخصية تقنية تطرح نفسها لتولّي جزء من الحيّز العام حتى يثبت عدم وجود أيّ علاقات بينها وبين المؤسسات المالية الدولية وأنّه لم يسبق لها العمل معها ولا تطمح لذلك مستقبلاً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا