تحديد مَنْ تقع عليه مسؤولية انهيار الاقتصاد اللبناني أمر ضروريّ، ولا سيما إذا كانت ثمّة إرادة للخروج من الأزمة باقتصاد جديد وصحيّ يُعفي الأجيال القادمة من أزمات مماثلة. لكن مع توالي الأحداث خلال الأشهر الـ12 الماضية، وما شهدته الساحة السياسية من تشابك مواقف هجين أحياناً، وتضعضع التحالفات وانقسام الكتل الواحدة أحياناً أخرى، ضاعت مسارات النقاش الموضوعيّ والعلميّ، وطغى على المشهد العام تصوّر الفوضى السياسية والإدارية. هذه الصورة الضبابيّة دفعت إلى الواجهة حجّة أن اللبنانيين أنفسهم مسؤولون عمّا يجري معهم، فهم انتخبوا هذه الطبقة السياسية التي أدارت البلاد منذ عام 1992 وطبّقت نموذجاً نيوليبرالياً تماشياً مع الحريرية السياسية. فهل تقع المسؤولية على عموم اللبنانيين حقّاً؟ هل كان بإمكانهم إيقاف قطار الحريرية السياسية والنيوليبرالية؟هذا المسار بدأ في مطلع تسعينيات القرن الماضي، إلّا أنه في سياق محاولة الإجابة عن هذا السؤال يُفترض أن يكون البحث على مستوى آخر من التحليل، أي منظومة الاقتصاد العالمي وموقع لبنان منها وفيها ومدى تداخل العوامل الخارجيّة والداخليّة في صناعة القرار اللبناني.

تطوّر منظومة الاقتصاد العالمي
يرى سمير أمين (وهو من رواد نظريّة المنظومات العالمية) أن التمييز بين العوامل الخارجية والداخلية أمر نسبيّ، لأن كل العوامل داخلية على مستوى المنظومة العالمية الواحدة، وتصبح خارجية حين تكون آتية من خارج المنظومة. بالنسبة له (ولكلّ من يعتمد هذه النظرية)، هناك منظومة عالمية واحدة اليوم: «منظومة الاقتصاد العالمي». ففي كتابه «أبعد من الهيمنة الأميركية»، يشير إلى أنّ تطوّر هذه المنظومة ارتبط بالتوسّع الرأسمالي ومرّ بأربع مراحل:
- الأولى المرحلة التجارية (Mercantilism) بين عامَي 1500 و1800: خلالها أعادت أوروبا الأطلسيّة تشكيل العلاقة بين «دول المركز» و«دول الهامش» من خلال غزو الأميركتين، وتطوير تجارة الرقيق والاعتداءات التجارية المبكرة على آسيا وأفريقيا.
- المرحلة الثانية وهي المرحلة الكلاسيكيّة للنظام بين عامَي 1800 و1950: انتقل التقسيم إلى مستوى أكثر تعقيداً واستقطاباً بين «المركز» الصناعيّ و«الهامش» غير الصناعيّ؛ وعلى أثره تم اختزال الدول الهامشية إلى مستعمرات أو تقع تحت وضع شبه استعماري.
- المرحلة الثالثة وهي مرحلة ما بعد الحرب بين عامَي 1950 و1980: أتاح انتصار حركات التحرّر الوطني و/ أو الثورات الاشتراكية، لدول الهامش، أن تفرض مراجعة لقواعد النظام العالمي غير المتكافئة ودخول العصر الصناعي. وصّف أمين هذه الفترة بفترة العولمة «التفاوضية» والاستثنائية، ملاحظاً أن العالم شهد خلالها أقوى مستوى نموّ معروف في التاريخ، فضلاً عن أقلّ معدّلات التفاوت في توزيع الإنتاج. وهذه المرحلة هي التي أعطت الدول الهامشية شجاعة المطالبة بالسيادة الوطنية والعمل على المحافظة عليها. كانت هذه الفترة محكومة بجوّ ناتج من انتصار مزدوج، انتصار الديمقراطية على الفاشية في الحرب العالمية الثانية، وانتصار شعوب أفريقيا وآسيا على الاستعمار. وقد حَكَمَ هذا الانتصار المزدوج، الأشكال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لإدارة المنظومة، على المستوى الوطني وعلى مستوى المنظّمات الدولية. ولفترة من الوقت، اضطرت البلدان الإمبريالية المركزية إلى التكيّف مع مطالب حركات التحرّر باحترام سيادة الشعوب المعنيّة، وقبول خططها للتنمية الوطنية والاجتماعية.
- الرابعة هي المرحلة التي نعيش فيها اليوم: يتم بناء نظام عالميّ يستفيد فيه «المركز» من «الاحتكارات الخمسة» التي تمنحه التحكّم في إعادة إنتاج النظام العالمي.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

هذه المرحلة الأخيرة، هي التعبير الإمبريالي عن التوسّع الرأسمالي الذي أنتج دائماً، منذ بدايات الرأسمالية الأولى، استقطاباً حادّاً للثروة والسلطة لمصلحة الدول «المركزية»، بحسب أمين. وتحدِّد «الاحتكارات» التي يتمتّع بها «المركز» في علاقاته غير المتكافئة مع «هامش» المنظومة، كلّ مرحلة من المراحل السابقة. فمنذ الثورة الصناعية في بدايات القرن التاسع عشر حتى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان «الاحتكار» الأساسي هو «احتكار صناعي». بمرور الوقت أصبحت دينامية «المركز والهامش» موازية للعلاقة بين الدول الصناعية وتلك غير الصناعية. وهذا يساعدنا في أن نفهم لماذا جعلت حركات التحرّر الوطني في الأطراف التصنيع أولوية لها ضمن منظور أوسع «للحاق بالركب» مع المركز. فقد أجبر نجاح الكثير من حركات التحرّر الإمبريالية على التكيّف مع جهود «اللحاق بالركب»، علماً بأنّ معظم هذه الحركات لم تلحق بالركب وأنّ العالم لم يدخل في فترة «ما بعد الإمبريالية» من التاريخ. لذا، أعادت «الدول المركزية» التنظيم حول «احتكارات» جديدة (الاحتكارات الخمسة) منحتها السيطرة على التكنولوجيا والوصول إلى الموارد الطبيعيّة في العالم، وعلى التدفّقات المالية الدولية والاتصالات وإنتاج أسلحة الدمار الشامل. هذه الاحتكارات تعيد إنتاج وتعميق الاستقطاب على نطاق عالميّ.
ويعبّر أمين عن تصدّر الولايات المتحدة الأميركية لمنظومة «الاقتصاد العالمي» من خلال مصطلح «الإمبريالية الجماعية». فالإمبريالية لطالما كانت ظاهرة تعدّدية منذ بداية التوسع الرأسمالي في القرن السادس عشر. ولطالما لعب الصراع الدائم - والعنيف في الكثير من الأحيان - بين الإمبرياليات المختلفة دوراً مهمّاً في تشكيل العالم. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية بتحوّل كبير في شكل النظام العالمي، حلّت «الإمبريالية الجماعية» (الولايات المتحدة الأميركية، أوروبا، اليابان) محلّ تعدّدية الإمبرياليات. لكن دور الولايات المتحدة في هذا «الثلاثي» كان الدور الرائد والقيادي. واقترن ظهور «الإمبريالية الجماعية» بانقلاب الظروف التنافسية. ففي حين أن الشركات الكبرى كانت تخوض معاركها التنافسية في الأسواق الوطنية بشكل رئيسي (أسواق دول المركز)، أصبح المطلوب منها التنافس المباشر في السوق العالمية. وعندها يمكن للشركات التي تحصل على حصص وازنة من السوق العالمية حجز حصص لها في الأسواق الوطنيّة. هكذا تصبح العولمة، الإطار الأساسيّ لنشاط الشركات الكبيرة. بعبارة أخرى، إن السببية قد انعكست في دينامية الوطني/ العالمي: حيث كانت المعادلة سابقاً أن القوّة الوطنية تُستخدم للسيطرة على الوجود العالمي، لكنّها انعكست اليوم. وبالتالي، فإن الشركات العابرة للحدود، بغضّ النظر عن بلدها الأصلي، لديها مصالح مشتركة في إدارة السوق العالمية. وتتداخل هذه المصالح مع الصراعات التجارية المستمرّة التي تحدّد جميع أشكال المنافسة الخاصّة بالرأسمالية.
ويرى أمين أنّ مشروع الهيمنة الأميركية، القائد «للإمبريالية الجماعية»، يستلزم وضع «سيادة المصالح القومية للولايات المتحدة» فوق كلّ المبادئ الأخرى التي تؤطّر شرعية العمل السياسي، إذ أن واشنطن توضح اليوم بشكل صارخ ما اضطرت لإخفائه سابقاً: لا تقبل حتى فكرة وضع قانون دوليّ أعلى مما تعتبره ضرورياً للدفاع عن المصالح القومية للولايات المتحدة. فمن الضروري لاستمرار الهيمنة على الأسواق العالمية، أن تدخل كلّ الدول تحت أطر التجارة والقوانين التي تفرضها النيوليبرالية وأن تتبنّاها، وأن تضمن كل عوامل استمرار احتكار «الإمبريالية الجماعية» للاحتكارات الخمسة، حتى إن كان الثمن هو التخلّص من مسارات التنمية الوطنيّة وتعزيز السيادة الاقتصادية. هذا يعني أنّ ما تنطوي عليه هذه المرحلة الرابعة من التوسّع الرأسمالي هو انقلاب فعليّ على مبدأ سيادة الدول (على وجه التحديد دول الجنوب) والحقّ في صونها، وعلى القانون الدولي، اللذين أنتجتهما المرحلة الثالثة.
وسقوط مبدأ السيادة يُطلق العنان للنيوليبرالية لفرض منطق يجاهر بأن الأسواق هي التعبير الأكثر تقدّماً عن الحرية (تُفهم على أنها حريّة الأفراد المستخلَصة من ميراثهم وبيئتهم الاجتماعية)، بحسب أمين. وبالتالي يجب أن تخضع الحياة الاجتماعية لمنطق الأسواق الأحادي الجانب. ثم يتم تفكيك النماذج المختلفة للعقد الاجتماعي والضمانات الاجتماعية من أجل تحقيق مزيد من «المرونة» في السوق. بينما لا يجب أن يُسمح بأدنى درجة من تدخل الدولة، وفي المقابل تتم الدعوة إلى تركيز السلطة خارج سيطرة البرلمان أو المواطنين، عبر فرض تعدّد الهيئات المستقلة «التقنية» المفترضة. ويتم الترويج للّامركزية التي تشكّل بدورها مراكز سلطة جديدة، تنبثق منها المصالح الخاصّة من دون ضرورة تحمّل أي مسؤولية رسمية. وهكذا يصبح النظام السياسيّ مزيجاً هجيناً من المصالح، وولّاداً للأزمات، حيث يُنسى أن أولوية النظام يجب أن تكون ابتكار إجابات متماسكة للمشكلات التي تعصف بالمجتمع.

السيادة الوهمية
التمعّن قليلاً، في المسار السياسي العام للبنان منذ نهاية الثمانينات إلى اليوم، يوضح أنه انعكاس مطابق لما شرحه أمين عن المرحلة الرابعة من التوسّع الرأسمالي. فما أتت به الحريرية السياسيّة من نيوليبرالية ليس إلّا تنفيذاً لمصالح الهيمنة الأميركية التي تتلطّى خلف «الإمبريالية الجماعية». فإذا أحصينا الدول التي نعتبرها ضمن «المجتمع الدولي» الذي يسعى معظم اللبنانيين لإرضائه، سنجدها دول المركز المتمثّلة في «الإمبريالية الجماعية»، كما يوصّفها أمين. لذا، يمكن القول إن الحريرية السياسية لم تكن مجرّد أفكار الرئيس رفيق الحريري وثلّة من المستشارين المحيطين به، بل كانت مشروعاً ضخماً يهدف إلى إدخال البلد في السياق النيوليبرالي (كما حصل في معظم دول الهامش في منظومة الاقتصاد العالمي بعد 1980).
لبنان جزء من المنظومة العالميّة منذ أكثر من قرنين وأيّ عامل في دول المركز هو عامل خارجي بالنسبة له وبالتالي لا يمكن عزله عن أيٍّ من العواصف التي تعصف بالمنظومة كلّها من أقصى المحيط الهادئ إلى غرب آسيا


هنا يمكننا أن نطرح السؤال: هل تقع المسؤولية على عموم اللبنانيين حقّاً؟ هل كان بإمكانهم إيقاف قطار الحريرية السياسية والنيوليبرالية؟
الإجابة تكمن في ثنايا ما قدّمته «الإمبريالية الجماعية» لدعم استمرار المشروع. فقد تغاضت هذه عن أكبر ارتكابات الحريرية السياسية بالنسبة إلى النيوليبرالية، أي تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، وقرّرت تعويم لبنان مرتين عبر مؤتمرَي باريس الأول والثاني. في حينه كان الوضع اللبناني مشابهاً لما كان عليه في بدايات عام 2019، أي على شفير الانهيار. والأسباب التي أدّت إلى الوضع السيئ في حينه هي نفسها الأسباب التي أدّت إلى الوضع الذي نشهده اليوم سواء لجهة عيوب بنيوية في الاقتصاد، وكلفة تثبيت سعر الصرف. إلّا أنه رغم ذلك، قرّرت الدول المانحة أنّ لبنان يستحق أن يُعطى قروض لاستنقاذ وضعه الاقتصادي. أمّا في عام 2008، فلم تمنع أي من الدول المركزية رأس المال من الهجرة منها إلى لبنان على أثر الأزمة العالمية، رغم الأزمات التي كانت تعصف بالعالم ما أسهم في إنقاذ الوضع مجدّداً. علماً بأن انهيار الوضع الاقتصادي في تلك الحالات كان سيعرقل استكمال مشروع انخراط لبنان في المسار النيوليبرالي.
ولكن لماذا لم يُدعم لبنان هذه المرة؟ هنا نعود إلى ما قاله أمين بأن التمييز بين العوامل الخارجية والداخلية أمر نسبيّ تبعاً لموقع البلد في المنظومة العالمية. ولأن لبنان جزء من هذه المنظومة منذ أكثر من قرنين لا يمكننا أن نظنّ أن أيّ عامل في دول المركز هو عامل خارجي بالنسبة إلى لبنان؛ لذا لا يمكن عزله عن أيّ من العواصف التي تعصف بالمنظومة كلّها من أقصى المحيط الهادئ إلى غرب آسيا.
اللبنانيون لا يتحمّلون مسؤولية ما حلّ بهم، بل هم يدفعون ثمن موقعهم في منظومة الاقتصاد العالمي. لم يختاروا الحريرية السياسية، بل فرضُها على البلاد كان جزءاً من التوسّع الإمبريالي لدول المركز في المنظومة، وكان ثمن رفضها في حينه العزلة من المنظومة حين لم يكن هنالك خيار غيرها. أمّا اليوم بعدما حانت ساعة الحقيقة، فالسؤال عن رفض ما تريد فرضه المنظومة يكتسب شرعية أكبر: ماذا ستكون خياراتنا في ظلّ التغيّرات التي تعصف بالمنظومة؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا