أضحت عملية «غسيل السيارات» أحد أشهر عناوين مكافحة الفساد حول العالم. حين انطلقت على شكل تحقيق في قضية تبييض أموال روتينية في البرازيل، لم يكن القيّمون عليها يعلمون أبداً - على حدّ علم الرأي العام بالحدّ الأدنى - أنها ستتحول إلى جرف يكشف عن فساد شركة النفط الوطنية ومعها كبرى شركات البناء. وباستمرار التحقيق منذ سبع سنوات في 12 بلداً، تُقدّر قيمة هرم الفساد الذي يكشفه بنحو 13 مليار دولار، ويُثبت تورّط العشرات من المسؤولين الحكوميين والسياسيين فيه.من البرازيل إلى ماليزيا حيث عمد القيّمون على أحد أكبر الصناديق الاستثمارية، 1MDB، إلى صوغ مؤامرة على نطاق عالمي مكنتهم من سرقة أموال تُقدر بـ4.5 مليارات دولار عبر عمليات تحويل معقّدة وشركات وهمية، وإيداعها في حسابات في الولايات المتّحدة وسويسرا وسنغافورة ولوكسمبورغ. بنتيجة التحقيق صودرت أصول وأموال محوّلة وسُجن مسؤولون من بينهم رئيس الوزراء السابق نجيب رزاق، وصولاً إلى المسّ بحقوق الفيلم السينمائي «ذئب وول ستريت» نظراً إلى ارتباط الصندوق بإنتاجه في عام 2013.
وأخيراً، إلى ليبيا التي رفعت فيها إدارة الاستثمار، وهي صندوق الثروة السيادية في البلاد، دعوى على مصرف سوسييته جنرال، أمام المحاكم البريطانية، لاستعادة نحو 1.5 مليار دولار من الخسائر بعد قيام المصرف الفرنسي برشوة مسؤولين في شركة مسجّلة في بنما، بهدف الدخول في عمليات إتّجار تفوق قيمتها ملياري دولار. استفاد من مخطط الرشوة هذا نحو 50 شخصاً ليبياً. وبنتيجة التحقيق تم التوصل مع المصرف إلى دفع تسوية بقيمة 963 مليون دولار.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

تُعدّ هذه القضايا تشكيلة بارزة من أمثلة الفساد المنتشرة حول العالم. هي عمليات، سواء كانت معقّدة أو بسيطة، هدفها شفط الموارد العامة عبر السرقة أو الرشوة أو التهرّب الضريبي. وهي في صميم النسخة الثانية من «كتيّب استعادة الأصول» الذي صدر أخيراً عن مجموعة البنك الدولي بالتعاون مع مبادرة استعادة الأصول المنهوبة بعد جهد مشترك مع مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة.
الكتيب يقدّم مقاربات مختلفة تحيط بمسائل استعادة المال العام بجميع جوانبها الاستراتيجيّة والقانونيّة والعمليّة، ويعرض خريطة طريق للمعنيّين بهذه الجهود سواء كانوا يفضلون تنفيذ مخطّطهم عبر المقاربات الجرمية أو المدنية أو الإدارية أو حتى مصادرة الأصول من دون تحقيق الإدانة. المهمّ برأي معدّيه الحفاظ على جوهر الإجراءات التي تبدأ بجمع المعلومات والأدلّة والبدء بتتبّع الأصول المسروقة، وبعدها تحصين الأصول لدى مصادرتها، ثم التنسيق مع الجهات الأجنبيّة المعنيّة حيث يتم إخفاء الأصول المسروقة، وأخيراً فرض تنفيذ الأوامر وردّ الأصول كلّياً.
قد تعكس هذ الإجراءات تدابير نخبوية لا ترى فيها الشعوب التي تعاني آفة الفساد سوى ترتيب منمّق لإجراءات تطبيق القانون حين يتعذّر ذلك. وإلّا كيف يُمكن إطلاق عمليات تتبّع ورصد وتنسيق بحقّ كبار الرؤوس المعنية بالرشوة والسرقة؟
لبنان يُعدّ مثالاً بارزاً عن حالات الفساد على نطاق واسع في مساحة جغرافية ضيقة وبعدد سكان محدود. فالبلاد التي تعيش إحدى نسخ نموذج الدولة الفاشلة، تعاني من آفة الفساد منذ عقود وقد وصلت إلى مرحلة شبه الإفلاس بغياب الأفق السياسي لحلول عملية ومنطقية لأزمة شح العملات الأجنبية. اليوم يُصنّف لبنان في المرتبة 137 بين 180 بلداً لناحية مؤشّر الفساد ويرى أكثر من ثلثي الشعب أن معدلات الفساد ازدادت خلال فترة العام السابق، وفقاً لبيانات منظمة الشفافية العالمية. ورغم كل ذلك، ليس هناك تحقيق واحد فعليّ حقيقيّ وشفاف على المستوى الوطني يبحث في كيفية تبخّر مليارات الدولارات من القطاع العام ووصول الدين العام إلى 160% من الناتج.
أياً يكن الحال، فإن الاحتكام إلى دليل البنك الدولي يُعد وثيقة قد تفيد كثيرين في المجتمع الواحد وخصوصاً لدى قياس النتائج التي يُمكن أن تتحقق. وفي هذا الإطار، يجزم صندوق النقد الدولي في بحث نُشر عام 2019، أن لمكافحة الفساد انعكاسات إيجابية جمة على الاقتصادات المختلفة، وخصوصاً أن البلدان الأقل فساداً تحقق إيرادات ضريبية نسبةً إلى الناتج أعلى بـ4% مقارنة ببلدان أخرى عند مستوى الدخل نفسه إنما بمستويات فساد أعلى.
البلدان الأقل فساداً تحقّق إيرادات ضريبية نسبةً إلى الناتج أعلى بـ4% مقارنة ببلدان أخرى عند مستوى الدخل نفسه إنما بمستويات فساد أعلى


وبإمكان البلدان، إذا سارت على نهج مكافحة الفساد أن تحقق مداخيل ضريبية إضافية بنحو تريليون دولار سنوياً؛ للمفارقة هو الرقم نفسه الذي يدفعه الأفراد والشركات حول العالم على شكل رشوة سنوياً.
لا تخالف هذه الأرقام بيانات الأمم المتّحدة التي تفيد بأن كلفة الفساد الإجمالية حول العالم تبلغ 2.6 تريليون دولار، أي ما يعادل 5% من الناتج العالمي. هذه الأموال المشكّلة من رشى وإيرادات غير محقّقة وسرقات وهدرٍ عبارة عن اختلاس، تُسحب تحديداً من قنوات التنمية في البلدان الفقيرة والنامية. هذا ما يدفع الأمم المتّحدة إلى التشديد على أن «مواجهة الفساد هو جهد عالمي، نظراً لانتشاره في البلدان النامية والمتقدمة على حدّ سواء، وأن الأدلة تفيد بأن الفئات الأفقر هي الأكثر تأثراً». لذا، فإنّ الفساد هو أحد أبرز المعوقات أمام تحقيق أهداف الألفية بحلول عام 2030 التي تشمل الفقر والجوع والتعليم والبنى التحتية الجيدة.
لكن طالما هناك أموال عامة موجودة للإنفاق ولتلزيم المشاريع، وطالما هناك إمكانيات للتهرب الضريبي، سيواصل المخالفون محاولاتهم للالتفاف على القانون وحرمان الفقراء والفئات المهمّشة من ثمار المشاريع الاستثمارية أو حتى من الإنفاق العام الاجتماعي التعاضدي الناجم من تحصيل الضرائب وإنفاقها على الصالح العام. يتحوّل هؤلاء إلى «ذئاب المال العام» حتى يتم فضحهم وتسميتهم عبر الاستراتيجيات التي يطرحها دليل استهداف الفاسدين لاستعادة الأموال المنهوبة أو بأيّ وسيلة أخرى قد تكون العرف في البلاد التي اعتادت الفساد وتأقلمت معه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا