في خضم الحديث المتنامي عن قرب رفع الدّعم عن المشتقّات النفطية والنقاش حول وجهة استعمال الاحتياطات المتبقية بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، وبالتالي استشراف أزمة كهرباء جديدة تلوح في الأفق، يأتي التجديد المتوقّع للعقد التشغيلي لشركة كهرباء زحلة (امتياز كهرباء زحلة سابقاً) الذي ينتهي أواخر هذا العام ليعيد الجدل حول مركزية أو لامركزية إنتاج الكهرباء في لبنان. لطالما سيطرت أفكار تروّج لنموذج كهرباء زحلة كحلٍّ ممكن لأزمة الكهرباء المزمنة، وبرزت اقتراحات على صعيد صنّاع السياسات حول إمكانية تكراره أو استنساخه في مناطق لبنانية أخرى.



في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، قامت مجموعة من الباحثين (علي أحمد، نيل ماكولوخ، مزنة المصري، ومارك أيوب) بدراسة معمّقة من خلال مراجعة جميع الوثائق والمنشورات المتعلقة بامتياز كهرباء زحلة منذ تأسيسه في عام 1923، وأجريت مقابلات مُكثّفة مع المعنيين في القطاع بين أيار 2020 وتشرين الأول منه، سواء على المستوى المركزي أو في زحلة، بمن فيهم مالكي مولّدات خاصّة وسياسيين وصحافيين ومجموعات من المجتمع المدني ومواطنين عاديين (أسراً ومالكي مؤسّسات) داخل وخارج مناطق الامتياز. تستكشف هذه الدراسة المسارات التي سمحت بنشوء خدمة شركة كهرباء زحلة الفعّالة، وإنّما الإشكالية أيضاً، ضمن السياق السياسي الطائفي المُعقّد في لبنان.
يُعدُّ أداء الكهرباء في لبنان سيئاً للغاية. في الواقع، يغطّي المرفق العام – أي مؤسّسة كهرباء لبنان – نحو 63% فقط من مجمل الطلب على الكهرباء، ما يؤدّي إلى تقنين دوري لفترات أطول في المناطق البعيدة عن بيروت الإدارية، ويوسّع هوّة التفاوتات الاجتماعية والتنموية. كذلك، يسجّل القطاع خسائر فنية وغير فنية عالية تقدّر معاً بنحو ثلث الطاقة المُنتجة في مؤسّسة كهرباء لبنان، فضلاً عن عدم تعديل تعرفة الكهرباء منذ عام 1994، ما يكبّد مؤسّسة كهرباء لبنان خسائر فادحة تمثّل أكثر من نصف الدَّيْن الحكومي الناتج أساساً من تحمّل الحكومة خسائر مؤسّسة كهرباء لبنان. نتج من هذا الخلل تشتّت غير رسمي وغير قانوني وغير منظّم حتّى وقت قريب لعشرات الآلاف من المولّدات الخاصّة العاملة على المازوت التي تؤمّن خدمة متغيّرة وعالية الكلفة، وغالباً بجودة منخفضة.
وسط الحالة العامّة السيئة في القطاع، تمكّنت زحلة من تشغيل مرفق خاص وتأمين خدمة كهرباء فعّالة وعالية الجودة. في الواقع، تغطّي شركة كهرباء زحلة مدينة زحلة و16 قرية مجاورة (أكبر الامتيازات التي ما زالت قائمة، وثانيها تاريخياً بعد امتياز قاديشا). وضمن هذا الامتياز لا تزيد الخسائر الفنية على الشبكة عن نسبة 5% فقط بينما تبلغ نسبة الجباية 100% من الفواتير وتحقّق أرباحاً، إذ تؤمّن الكهرباء بكلفة إجمالية لا تزيد عن الكلفة التي تدفعها الأسر التي تعتمد على المولّدات الخاصة في مناطق أخرى لتعويض نقص الإنتاج في مؤسّسة كهرباء لبنان.
ينبثق نجاح النموذج في زحلة من مقاربة إدارية وتقنية ذات احترافية عالية (وليس فقط بسبب توفير الكهرباء 24/7)، بالتوازي مع تموضع ماهر ضمن السياق السياسي. فنياً، تمكّنت شركة كهرباء زحلة من تقديم طاقة جيّدة من خلال استغلال عقد الامتياز الذي أبرمته منذ نحو قرن من الزمن، للتعاقد مع مقاول بريطاني خاصّ منتج للطاقة المؤقتة لتأمين الكهرباء ضمن نطاق تغطيتها عند انقطاعها في مؤسّسة كهرباء لبنان.
أمّا سياسياً، فشكّلت قدرة الشركة على إبرام ترتيبات مفيدة – لجميع الأطراف - مع الجهات السياسية الرئيسية والفاعلة تاريخيّاً جزءاً رئيسياً من نموذج عملها، إذ يكفي أن تحظى الشركة بسعرٍ تفضيلي لشراء الطاقة من مؤسسة كهرباء لبنان - 50 ليرة لبنانية لكل كيلواط ساعة - خلال سنوات الامتياز وحتى 2018، مقابل نحو 75 ليرة لباقي الامتيازات في مختلف المناطق، حتى تعكس طبيعة الاتفاق السياسي في لبنان.

70 ألف مشترك

هو عدد مشتركي كهرباء زحلة في حزيران 2020، و10 آلاف منهم حصلوا على العدّاد الذكي المفروض بالقانون 107/ 2018


لقد اكتشف الباحثون قصّة مُعقّدة، وفي بعض الأحيان غير سوية، حول كيفية نجاح هذا النموذج. على الصعيد المالي، يكمن أساس ربحية شركة كهرباء زحلة بكونها تشتري الكهرباء من مؤسّسة كهرباء لبنان، عند توافرها، بسعر مدعوم بلغ في العقد الجديد (القانون 107/2018) نحو 88.1 ليرة لكل كيلواط ساعة (بعدما كان 50 ليرة سابقاً)، وتبيعها بسعر أعلى من ذلك بكثير، وهو ما يُعدُّ عملياً، تحويلاً مباشراً للموارد من الحكومة المركزية (التي تتكفّل بخسائر مؤسّسة كهرباء لبنان وبالتالي تدعمها من المالية العامّة) إلى شركة كهرباء زحلة، أي بمعنى آخر ريوع. يُضاف إلى ذلك الأرباح الناتجة من العقد المبرم مع المقاول البريطاني، والذي تبقى تركيبة التسعيرة فيه غامضة وغير علنية، ولكن نظام الفاتورتين (واحدة لمولدات كهرباء زحلة كمشغّل وأخرى لمؤسسة كهرباء لبنان) الذي فرضه العقد الجديد في 2018 أظهر إضافة تعرفة ثابتة قيمتها 15,000 ليرة لبنانية عن كلّ اشتراك. أسهمت هذه الأخيرة في تعويض الخسارة الناتجة عن زيادة التعرفة المشتراة من مؤسسة كهرباء لبنان إلى 88.1 ليرة للكيلواط ساعة، وبزيادة الأرباح الإجمالية بنحو 3 ملايين دولار في 2019 مقارنة مع 2017 وقبل تدهور سعر صرف الليرة.
اجتماعياً، سمحت هذه الريوع الضخمة بتطوير البنية التحتية وتأسيس شبكات دعم على الصعيد المحلي وعلى الصعيد السياسي المركزي. كذلك، نجح النموذج في تعبئة المواطنين، إذ خلق إحساساً قوّياً لدى المجتمع المحلّي حول حقّه في ملكيّة خدمة جيّدة ومهنيّة، وهو ما ساعد بدوره في ضمان استمراريته، وكان فعالاً في مقاومة محاولات الجهات السياسية المركزية الاستيلاء على الشركة لمآرب خاصة. لقد لمس الباحثون ذلك على مستوى الأسر والمؤسّسات الصغيرة، ولا سيّما من النساء المسؤولات عن إدارة الشؤون المنزلية، وتحررهنّ من الاضطرار إلى التكيف مع إيقاع الكهرباء للقيام بهذه الأعمال، أو التخطيط لها بشكل يتوافق مع توافر الكهرباء. من جهة أخرى، عكست المقابلات حماسة المجتمع المحلّي للتخلص من المولدات الخاصّة واستعداده للدفع مقابل كهرباء موثوقة، مبرزاً بذلك أن رفع تعرفة مؤسسة كهرباء لبنان ليس من المحرّمات إذا ترافق مع خطوات ملموسة لتحسين الخدمة.
لقد ضخّم نموذج كهرباء زحلة نظرة الناس حول فساد مؤسسات الدولة، ورفع حالة اليأس العامة من ضعف الخدمات العامة، علماً بأن نجاح الشركة كان بفضل دعم الدولة لها بشكل رئيسي. كما استُخدم للإضاءة على فساد المؤسسات العامة بشكل عام دون غيرها، وبالتالي إبعاد النقاش عن دور الدولة في تقديم الخدمات العامة ولا سيما الكهرباء.
بالاستناد إلى ذلك، تشير الدّراسة ردّاً على السؤال الرئيسي حول إمكانية أو وجوب تكرار نموذج شركة كهرباء زحلة في مناطق أخرى من لبنان، تأتي الإجابة المُختصرة: «ليس بشكله الحالي»، وليس قبل معالجة الرّيوع الملقاة على مؤسسة كهرباء لبنان والفرق غير العادل بين تعرفة الشراء وتعرفة البيع. تطرح الدراسة نموذجاً إصلاحياً يسمح لمناطق أخرى بالحصول على طاقة فعّالة تؤمّنها مرافق لامركزية خاصة تحقّق أرباحاً وتُدار بطريقة جيّدة، من دون التأثير على مؤسّسة كهرباء لبنان أو الحكومة، وتستخدم مصادر طاقة نظيفة ومتجدّدة متى أمكن.

يخفي الخلل الوظيفيّ وانعدام كفاءة قطاع الطاقة السعي الدوؤب لمراكمة الريوع والاستيلاء على المؤسّسات العامّة


لقد شكّل الفساد في قطاع الطاقة عقبة رئيسية أمام النموّ الاقتصادي والتقدّم الاجتماعي في بلدان عدّة. في لبنان، يخفي الخلل الوظيفي وانعدام كفاءة قطاع الطاقة تحدّيات أعمق ضمن الاقتصاد السياسي، أبرزها السعي الدوؤب لمراكمة الريوع، والاستيلاء على المؤسّسات العامّة، وتفتّت الدولة. ربّما لم تتمكّن كهرباء زحلة من تقليص الفساد، لكنها حقّقت تنمية ملحوظة تتماشى مع طموحات المستهلكين.
فإلى نوّاب الأمّة المجددين اليوم، عليكم بمصارحة المواطنين أنّكم تجدّدون لأسباب شعبوية وأخرى سياسية في ظل غياب رؤية واضحة وخطّة للتعاطي مع أزمة الكهرباء التي ستتفاقم مع تفاقم الأزمة المالية. لن يكون سهلاً في الأشهر القليلة المقبلة المطالبة بإعادة التوازن المالي في مؤسسة كهرباء لبنان ووقف النزف المتواصل وترشيد الدّعم، في حين تموّلون ما هو نقيض الدّولة وتطيلون أمد الرّيوع القائمة لتعكس الاتفاق السياسي المعقّد في البلاد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا