العلاقات السياسية للشركات الخاصّة موجودة على نطاق واسع، وهي متجذّرة إلى درجة أنها تستحق البحث والدراسة نظراً إلى ما تثيره من الأسئلة المهمة وأبرزها: كيف يؤثّر السياسيون على سلوك الشركات؟ كيف يُترجم هذا التأثير على الأداء الاقتصادي الإجمالي؟ هناك قوتان متعاكستان يجب النظر إليهما في هذه العلاقة. فمن جهة قد تحصل الشركات على امتيازات اقتصادية من خلال العلاقات السياسية تكون على شكل: دعم مالي حكومي، تراخيص، تخفيف المعوّقات القانونية أو تسهيل الوصول إلى عقود الصفقات العامة. لكن هذه العلاقات السياسية قد تكون مكلفة على الشركات، إذ تعدّ بمثابة دين يتوجب عليها تسديده لاحقاً عبر توفير وظائف يحتاج إليها السياسيون لأتباعهم مثلاً. هذا النوع من الآليات قد يحفّز عملية خلق الوظائف. ومن جهة ثانية، يمكن أن يؤدي توفير هذه الامتيازات غير العادلة للشركات المرتبطة سياسياً إلى تقليل حوافز الشركات الأخرى غير المرتبطة سياسياً، والتي تحتاج إليها للدخول إلى الأسواق، ما يضرب قدرتها على النمو. هذه الآلية ربما تؤثّر سلباً على حوافز الشركات غير المرتبطة سياسياً وتحدّ من إمكاناتها اللازمة لخلق وظائف جديدة. لذا، فإن تأثير العلاقات السياسية على عملية خلق الوظائف يبقى ملتبساً.
إن عدد الأبحاث التي أجريت حول التأثيرات الاقتصادية التي تنتج من العلاقات السياسية للشركات في تزايد مستمر. أشارت الأبحاث إلى مواضيع عدّة؛ منها كيف يحاول السياسيون التأثير على الشركات من خلال الدعم الحكومي لها مقابل الحصول على دعمها السياسي، أو تأثير العلاقات السياسية على عدة نواحٍ منها: قيمة الشركات، احتمالات الكشف عن غشّها، وصولها إلى التمويل، وصولها إلى الأسواق العالمية، حصولها على عقود الصفقات العامة وغيرها... إن مساهمة هذه الدراسة تكمن في تحليل أثر العلاقات السياسية على قرارات التوظيف على مستوى الشركات الخاصة.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يُعدّ لبنان بلداً مناسباً لمثل هذه الدراسة لعدّة أسباب؛
- أولاً، لأن هناك أدلّة متسلسلة حول العلاقات الوثيقة بين السياسيين والشركات. ففي فترة إعادة الإعمار في التسعينيات أدت ضرورة توطيد الأمن إلى تشكيل تحالف سياسي كبير لجلب الاستقرار الشامل مقابل نظام الغنائم الواسع. وأظهرت التحقيقات الصحافية والدراسات الانثروبولوجية أن العديد من الشركات المرتبطة بسياسيين تتلقّى مزايا خاصّة في قطاعات متنوعة مثل الدواء، الغاز والنفط، استيراد الفيول، الإنشاءات، النفايات، التعليم، الاتصالات، قطاعات الإعلام والكسّارات.
- ثانياً، تعتمد الزبائنية السياسية، في لبنان، جزئياً على قدرة السياسيين في إيجاد الوظائف لأتباعهم ومناصريهم في القطاعين العام والخاص. فمثلاً، من بين طلاب الجامعات الذين شملهم الاستطلاع الذي أجراه المركز اللبناني للدراسات السياسية في عام 2013، هناك من اعتقد أن العلاقات السياسية مهمّة للحصول على الوظائف، و20% منهم قالوا إنهم استعانوا بهذه العلاقات.
- ثالثاً، استطلاعات البنك الدولي التي أجريت في عام 2013 في لبنان أظهرت أن ثلاثة أخماس الشركات اللبنانية تعتبر أن الفساد عقبة أساسية أمام نموها. كما أن استطلاعات أخرى أظهرت أن الرأي العام اللبناني ينظر إلى الفساد في القطاعين العام والخاص نظرة سلبية أكثر من كل دول الشرق الأوسط الأخرى.
- أخيراً وليس آخراً، كان أداء الاقتصاد اللبناني في العقدين الأخيرين من الزمن سيئاً من ناحية خلق فرص العمل لأجيال الشباب.
أتاح لنا الحصول على بيانات رسمية للشركات اللبنانية، القدرة على دراسة العلاقة بين الارتباطات السياسية وعملية خلق الوظائف. وتضم البيانات التي بحوزتنا كل الشركات اللبنانية المدرجة رسمياً في سجلات وزارة المالية اللبنانية، وتتضمن معلومات سنوية على مدى خمس سنوات بين عامَي 2005 و2010 عن مستويات التوظيف وإنتاج هذه الشركات. وباستخدام السجل التجاري اللبناني في وزارة العدل، يمكننا تحديد جميع الشركات الكبيرة في هذه المجموعة. ولتحديد الشركات ذات العلاقات السياسية من بين هذه المجموعة، أعددنا لائحة تضم كل السياسيين والمعاونين الأساسيين لهم، ثم حدّدنا الشركات التي تضم مالكاً واحداً على الأقل، من بين المدرَجة أسماؤهم على هذه اللائحة. وتسمح لنا قاعدة البيانات، الناتجة عن الدراسة، بتحليل الأسس الدقيقة لخلق فرص العمل في لبنان، وكذلك مقارنة أداء الشركات والقطاعات التي لها صلات سياسية مع القطاعات والشركات التي لا تمتلك مثل هذه الصلات.

انقر على الصورة لتكبيرها

ومن خلال قاعدة البيانات هذه، توصّلنا إلى استنتاجين عن تأثير العلاقات السياسية على نمو التوظيف في لبنان هما:
- أولاً، الشركات المرتبطة سياسياً وهي الأكبر، تخلق وظائف أكثر وتدفع رواتب أعلى من الشركات التي لا ترتبط بالسياسيين، لكنها في المقابل أقل إنتاجيةً منها.
- ثانياً، الشركات المرتبطة بسياسيين تتحمّل مسؤولية انحسار فرص العمل والتوظيف على مستوى القطاعات من خلال التأثير سلباً على نمو الشركات غير المرتبطة سياسياً: فمقابل كل شركة مضافة مرتبطة سياسياً ينخفض عدد الوظائف المخلوقة بنسبة9.4%. وهذه النتائج تبرز الآثار السلبية للزبائنية على الاقتصاد اللبناني.
تُظهر مجموعة النتائج الأولى لهذه الدراسة، أن التوظيف في لبنان يتركّز أكثر في الشركات الكبرى مقارنةً مع الدول الأخرى. وهذه الشركات الكبرى تميل لدفع رواتب أعلى من الشركات الصغيرة، لكن من دون الحصول على أداء أفضل من ناحية الإنتاجية. لكن عند النظر إلى الشركات غير المرتبطة سياسياً، يظهر أن الشركات الكبرى تتمتع بفعّالية عمل أفضل. ويطرح هذا الأمر فرضية أن الشركات المرتبطة بسياسيين تتجه للتوظيف المفرط مقابل الحصول على امتيازات اقتصادية (لا يمكن رؤيتها من خلال الأرقام). ومع ذلك فإن هذا الارتباط بين الشركات ذات الصلات السياسية وعملية خلق فرص العمل لا يثبت العلاقة السببية بينهما بشكل قاطع. فمن المحتمل أن يميل أصحاب الشركات الناجحة إلى الالتحاق بالطبقة السياسية من دون أن يحصلوا على الامتيازات الاقتصادية، وإن الإفراط في التوظيف قد يكون فقط بسبب الخضّات الاقتصادية وقلّة مرونة سوق العمل. ولمواجهة هذه الفرضية، تحرّينا عما إذا كانت الزيادة في التوظيف من قبل الشركات المرتبطة بسياسيين تعود لاتجاهات السوق أو لاعتبارات سياسية. فظهر من خلال مجموعة من الأدلّة أن احتمال أن تكون العلاقات السياسية هي التي أدّت الى الإفراط في التوظيف هو أكثر ترجيحاً.
الشركات المرتبطة سياسياً وهي الأكبر، تخلق وظائف أكثر وتدفع رواتب أعلى من الشركات التي لا ترتبط بالسياسيين، لكنها في المقابل أقل إنتاجيةً منها وهي تؤثّر سلباً على الشركات غير المرتبطة بسياسيين


أما المجموعة الثانية من نتائجنا، فكانت عن تأثير العلاقات السياسية على الاقتصاد الكلّي. إذ إن احتمال أن تخلق الشركات غير المرتبطة سياسياً وظائف أقل في القطاعات التي تنشط فيها شركات ذات صلات سياسية هو أمر معقول، ففي حال توسّعت هذه الأخيرة من المرجّح أن تتقلص الشركات التي لا ترتبط بسياسيين بسبب حجم السوق ومحدوديته. لكن السؤال الأساسي هو ما إذا كانت القطاعات التي تتضمن شركات ذات صلات سياسية نموها أقل، وتخلق وظائف أقل، نسبياً، من القطاعات الأخرى.
وللإجابة عن هذا السؤال، جرت المقارنة بين أداء القطاعات، مع متغيّر يتعلق بوجود الشركات ذات صلات سياسية، فتبين أن القطاعات التي تتضمن عدداً أكبر من الشركات المرتبطة بسياسيين تخلق وظائف أقل نسبياً من القطاعات التي لا تضم هذه الشركات. في حين أن هذه النتيجة تثبت وجود علاقة بين الامتيازات الخاصة وقلّة خلق فرص العمل على مستوى القطاعات، إلا أنه لا يكفي للادّعاء بوجود علاقة سببية. فهناك عدّة تفسيرات أخرى لهذه العلاقة. قد يكون أحد التفسيرات أنه حين تزيد حصة الشركات التي تحظى بعلاقات سياسية من أي قطاع يصبح القطاع أكثر تركيزاً لرأس المال، لأن هذه الشركات تستطيع الوصول إلى رأس المال بشكل أسهل، وهذا الأمر قد يؤدي إلى خلق فرص عمل أقلّ. كما أنه من الممكن القول بأن الشركات ذات الصلات السياسية تتواجد بشكل أكبر في القطاعات الريعية. وأخيراً، إن المنافسة غير العادلة تُضعف الحركة الاقتصادية بسبب تدني مستوى تحفيز الشركات الرائدة والشركات الأخرى للابتكار. وهنا يصحّ تبني التفسير الأخير لكونه متناسقاً مع البيانات التي بحوزتنا.

*هذا النص من مقدّمة ورقة بحثية أعدّها الكاتبان نُشرت في The Journal of Development Studies في 15 كانون الأول 2020

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا