في العقدين الأخيرين، تجذّرت فكرة التجارة الحرة في العالم، وتسيّد مفهوم الأسواق المفتوحة والمعولمة. ولوهلة من الزمن بدا أن النزاعات التجارية قد أصبحت أمراً من الماضي يستذكره تلاميذ التاريخ والاقتصاد بشكل سريع خلال دراستهم، من باب العلم بالشيء. لكن دونالد ترامب، أعاد تذكيرنا بالحقيقة عبر افتتاح الحرب التجارية مع الصين: التجارة، والصراعات والحروب حولها، لعبت دوراً أساسياً عبر التاريخ في صناعة أحداثه وصعود وسقوط الإمبراطوريات والمنظومات العالمية، والرأسمالية الغربية التي سيطرت على العالم من خلال منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد، فعلت ذلك من بوّابة التجارة، ولا سيما تجارة الشرق الآسيوي من خلال المحيط الهادئ. والتجلي الأبرز لسيطرة منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد، كان بعد «فتح الصين» أمام التجارة الغربية إثر توقيع «اتفاقية نانجينغ» التي أنهت حرب الأفيون الأولى 1439-1442. عبّرت هذه الاتفاقية عن بداية ضمور الصين كقوّة اقتصادية عالمية وكمركز متحكّم بمنظومة عالم شرق آسيا. وإذا استعدنا المسار التاريخي لصعود المنظومة الرأسمالية الغربية، سنرى أن الصين كانت آخر مركز عصيّ على الاختراق الغربي.
البذور الأولى
نتائج حرب الأفيون لم تكن صنيعة سنوات الحرب الثلاث، أو حتى العقود التي سبقتها. فبذور المسار الذي سلكته الصين، وتالياً الدول الأوروبية، زرعها الصينيون أنفسهم في بدايات القرن الخامس عشر. ففي عام 1405 أطلق ثالث أباطرة سلالة «مينغ» مشروعاً لفرض هيمنة الصين على التجارة في المحيطين الهندي والهادئ. كان المشروع على شكل حملات بحرية دبلوماسية، امتدت بين عامَي 1405 و1433، الهدف منها إظهار عظمة الصين للعالم تحت قيادة «تشنغ خه». وإثر هذه الرحلات، هيمن الصينيون على مراكز التجارة الرئيسية في المحيط الهندي وسيلان (سريلانكا) وكاليكوت، وعلى وجه الخصوص مضيق ملقّا.
نجح المشروع نجاحاً باهراً، فاتّسع نظام الجزية الصيني إلى ذروته، وقد أشارت سجلات سلالة «مينغ» إلى أكثر من 100 دولة من شرق آسيا وجنوب شرقها كانت تدفع الجزية، بحسب هاري غيلبر في كتابه «التنين والشياطين الأجانب». ووصلت إلى بكين بعثات دبلوماسية من مناطق بعيدة مثل هرمز وماليندي (على ساحل كينيا اليوم).

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

عملياً سيطرت الصين على التجارة في المحيط الهندي، والجزء المعروف في حينه بالمحيط الهادئ. وحصلت بطرق دبلوماسية على جزء من القيمة المضافة من تجارة السلع الأساسية في الشرق، بالأخص التوابل. ولكن هذه الرحلات توقّفت في عام 1433 بعد وفاة الإمبراطور، بسبب صراع عقائدي داخل الإدارة البيروقراطية في الصين. وبحلول عام 1480 كانت سجلات رحلات سفن الكنوز قد دُمّرت. وقبل انتهاء القرن حتى كان الإمبراطور قد حظّر بناء السفن البحرية ونهى رعاياه عن الإبحار. فأصبحت التجارة الخارجية الصينية مقيّدة بشدة حتى عام 1560، بينما كان التجار الأجانب محصورين في عدد قليل من الموانئ التي تتحكّم فيها البيروقراطية عن كثب.

المثلث الهندي
كان هذا القرن من الغياب عن مراكز التجارة في محيطَي الشرق كافياً لتفقد الصين سطوتها على كثير من دول جنوب شرق أسيا، وتفقد معها السيطرة على تجارة المحيطين الهادئ والهندي. وذلك بسبب عاملين أساسيين؛ الأول هو انشغال الصين المستمر بتأمين حدودها الشمالية، ما منعها من إعادة تخصيص موارد للتوسع البحري، حتى حين حاول أباطرة سلالة «مينغ» المتأخرون أن يعكسوا سياسات الانغلاق. والعامل الأهم كان وصول الأوروبيين واستقرارهم في بعض السواحل الهندية وعقد التجارة الأساسية في المحيط الهندي، كما يقول ويليام بيرنستين في كتابه «تبادل رائع». وكان للوجود البرتغالي والإسباني والهولندي المبكّر في المحيط الهندي تأثير على تجارة الشرق نحو أوروبا وتوزيع القيمة المضافة من أرباحها من الفضة التي تأتي من القارة الأميركية. ولكن على المدى الطويل، كان التواجد البريطاني الأكثر ضرراً على الصين.
فالتوسع المطّرد لشركة الهند الشرقية (الإنكليزية) في الهند أدّى في النهاية إلى استغلال بريطانيا للحظة تاريخية للسيطرة على ما تبقّى من هيكل إداري لإمبراطورية المغول الهندية في منتصف القرن الثامن عشر. وهذه الإمبراطورية كانت من الاقتصادات الأولى عالمياً عند سقوطها، كما يقول بيتر روب في كتابه «تاريخ الهند». علماً بأنه في أوائل القرن السابع عشر، كانت شركة الهند الشرقية تستحوذ على جزء صغير فقط من تجارة التوابل، وتعمل بشكل رئيسي في تصدير الحرير الفارسي الذي يتم شحنه عن طريق الجمال عبر الصحراء السورية إلى الموانئ التركية، بالإضافة إلى الاستفادة من أسواق النسيج الهندية. ولكن احتلال الهند حوّلها الى المصدّر الأول للنسيج والقطن والصباغ الهندي، وفق بيرنستين. وبالإضافة إلى ذلك، فجأة فُتحت أسواق الهند الضخمة أمام الشركة لتصدّر إليها منتجات بريطانيا ومستعمراتها في العالم الجديد. باختصار سيطرت بريطانيا على واحد من أكبر اقتصادات العالم في حينه وعلى القيمة المضافة المتولّدة من التجارة بمحاصيله ومصنوعاته، وأصبحت لها حدود مشتركة مع الصين والدول التابعة لها في بورما والتيبت.
ومع الوقت تضافرت هذه العوامل لتساعد بريطانيا على السيطرة على التجارة الأوروبية مع الصين، إذ كانت تسيطر على 80% منها كما يذكر بيرنستين. فرغم أن الصينيين لم يقدّروا البضائع البريطانية، إلا أنهم كانوا يتوقون إلى القطن الهندي. فالصين كانت تزرع القطن لآلاف السنين، إلا أن الإنتاج المحلي قبل عام 1800 كان غير كافٍ، وكان على الصينيين استيراد كل من القطن الخام والأقمشة القطنية من الهند. وهنا ظهر مثلّث تجاري أَضلاعه: السلع المصنعة البريطانية التي تُورّد إلى الهند، والقطن الهندي الذي يُورّد إلى الصين، والشاي الصيني إلى إنكلترا. وساهم تطبيق الصين لنظام المرفأ الواحد (نظام كانتون) في تعزيز هذا المثلث. فقد كان يُسمح للتجار الغربيين بالتجارة عن طريق مرفأ مدينة غوانغتشو فقط. حتى إن التجار كانوا ممنوعين من دخول المدينة، وكانوا يتبادلون البضائع في مراكز إقامتهم-مخازنهم المحدّدة خارجها عن طريق عدد من التجار الصينيين المحدّدين سلفاً تحت إشراف بيروقراطي.
السيطرة على تجارة القطن مع الصين أمّنت حلاً لمشكلة بريطانيا في استيراد البضائع الصينية من حرير وخزف، ولا سيما الشاي. شكّل الشاي عامل استنزاف بالنسبة إلى البريطانيين. فبحلول منتصف القرن الثامن عشر، عرف الإنكليز تعطشاً متزايداً للشاي، لكن الصينيين لم يرغبوا بالسلع البريطانية، سواء كانت من الصناعات النحاسية أو الميكانيكية الحديثة، بحسب بيرنستين. والقليل مما استوردته الصين من الغرب لم يكن يكفي لسداد ثمن حتى جزء صغير من مشترياته للشاي. لذا كان لزاماً على الإنكليز أن يدفعوا ثمن الشاي بالفضة. وتظهر سجلات القرن الثامن عشر الصادرة عن شركة الهند الشرقية أن نحو 90% من قيمة صادرات إنكلترا إلى الصين كانت على شكل سبائك فضيّة. ولكن مع بدايات القرن التاسع عشر انخفض الطلب الصيني على القطن الهندي، بسبب نجاح الجهود الصينية في زيادة الزراعة المحلية للقطن ذي النوعية الجيدة. فتجدّدت مشكلة بريطانيا مع الاستنزاف الصيني للفضة البريطانية.

الطريق إلى الحرب
كان لزاماً على بريطانيا أن تجد سلعة أخرى لتعدّل من خلالها الاختلال في الميزان التجاري. وتحولت أنظار شركة الهند الشرقية إلى محصول هندي آخر وهو الأفيون، والذي تقع حقوله الرئيسية في المناطق المحيطة بباتنا وفاراناسي التي احتلتها الشركة عام 1757. وبدأت الشركة بتهريب الأفيون إلى الصين من خارج الإطار الشرعي، أي «نظام كانتون». وكانت السلطات الصينية قد حظّرت استيراد واستخدام الأفيون عام 1729، بعد أن ورّده البرتغاليون بكثرة بداية، بسبب استنزافه للفضة من خزائن الإمبراطورية حتى في تلك السنوات المبكرة. لذا أتقنت الشركة نظام «زراعة الأفيون في الهند والتبرؤ منه في الصين» وفق تعبير بيرنستين. وتبيّن سجلات الشركة أن عام 1806 كان العام الذي انعكس فيه تدفق الفضة بين بريطانيا والصين. ففي الأعوام التالية تجاوزت قيمة واردات الأفيون الهندي إلى الصين، قيمة صادرات الشاي الصيني إلى بريطانيا، وبدأت الفضة الصينية تتدفق إلى خارج الصين لأول مرة. وبعد عام 1818 شكلت الفضّة خمس القيمة الإجمالية للسلع المصدرة من الصين.
خسرت الصين بمجرّد أن تخلّت عن سيطرتها على تجارة المحيطين الهندي والهادئ في القرن الخامس عشر، وعن القيمة المضافة من تجارة التوابل والقطن التي ذهبت إلى من حلّ مكانهم من الأوروبيين


ولكن بعد عام 1830 ازداد الاستنزاف البريطاني للفضة الصينية بشكل مضاعف. ويعود ذلك إلى عاملين أساسيين: الأول هو تبني البريطانيين لتصميم جديد للسفن الشراعية زاد من قدرتهم على الإبحار في موسم الأعاصير في المحيط الهادئ، فتضاعف عدد رحلاتهم التجارية السنوية من موانئهم الهندية إلى الصين. والعامل الثاني هو إنهاء البريطانيين، في عام 1834، لاحتكار شركة الهند الشرقية للتجارة في الشرق، ما أطلق العنان للشركات الخاصة البريطانية في تصدير الأفيون، بعيداً من القيود التي كانت تفرضها شركة الهند الشرقية لتوقي غضب الإمبراطور. فتضاعف حجم تجارة الأفيون أربع مرات في أقل من أربع سنوات ما دفع السلطات الصينية في غوانغتشو إلى مصادرة وإتلاف الأفيون المخزّن في مخازن الأجانب خارج المدينة (ومعظمه بريطاني).
عندها أرسلت بريطانيا إلى إمبراطور الصين مجموعة مطالب لخّصها آلان بيرفيت في كتاب «الإمبراطورية الجامدة»، على النحو الآتي:
- أولاً، التعويض المالي عن ما تم إتلافه من أفيون.
- ثانياً، فتح موانئ جديدة أمام التجارة الدولية بالإضافة إلى ميناء غوانغتشو.
- ثالثاً، توقيع اتفاقية جمركية.
- رابعاً، منح بريطانيا امتياز مركز تجاري على السواحل الصينية.
ومع هذه الرسالة أعلن البريطانيون «حملة تأديبية» على الصين. واستخدمت بريطانيا في هذه الحملة الهند كقاعدة متقدمة لأسطولها البحري ولتجنيد العساكر.
استمرت الحرب سنتين، اكتشف الصينيون خلالهما أن لا قدرة لبحريتهم على مواجهة البحرية البريطانية التي حاصرت معظم المدن الرئيسية على السواحل الجنوبية الغربية للصين ودخلت إلى وسط الصين عبر نهر يانغتزي وحاصرت مدينة نانجينغ. ووقّعت الصين «معاهدة نانجين» التي منحت بريطانيا تعويضاً نقدياً عن الأفيون الذي أتلفه الصينيون (بقيمة 6 ملايين دولار فضي)، وألغت «نظام كانتون»، وفرضت رسوماً جمركية منخفضة على الاستيراد الصيني، وفتحت أربعة موانئ أخرى بالإضافة إلى غوانغتشو للتجارة مع الغرب (شنغهاي، أموي، فوتشو وجزيرة نينغبو). وقد خضعت هذه الموانئ لحكم قناصل بريطانيين، بينما كان يتمتع البريطانيون بحصانة من القانون الصيني. أمّا الأفيون فلم يتم ذكره في المعاهدة، فبقي استيراده مفهوماً ضمنياً من كلا الجانبين.
عملياً، خسرت الصين التحكم بتحديد القيمة المضافة التي ستحصّلها من التجارة بالسلع الرائجة التي تنتجها، وكانت تملأ خزينتها بالفضة، ما أدى إلى دخول الصين في مسار انهيار الإمبراطورية. لكن بقراءة مع مفعول رجعي، فإن هذه النتيجة كانت حتمية بمجرد أن تخلت الصين عن سيطرتها على تجارة المحيطين الهندي والهادئ في القرن الخامس عشر، وعن القيمة المضافة من تجارة التوابل والقطن التي ذهبت إلى من حلّ مكانهم من الأوروبيين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا