فتحت هزيمة الصين في حروب الأفيون الباب أمام سقوط منظومة عالم شرق آسيا، إلاّ أن هذا السقوط أعطى هذه المنطقة أهمية كبرى في دعم استمرار واشتداد سطوة منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد. وظهرت الأهمية القصوى لهذه المنطقة من خلال الصراع على التجارة فيها والذي تمظهر على شكل صراع بين اليابان الصاعدة آنذاك والمركز الغربي للمنظومة ولا سيما الولايات المتحدة.
الانفتاح بالمدافع
في العقود التالية لحرب الأفيون الأولى، أحكمت الدول الغربية سيطرتها على كمبوديا وفيتنام، وهما دولتان تابعتان للصين تاريخياً. وبدأت هذه الدول تخطّط لتوسيع تجارتها في باقي دول شرق آسيا المغلقة أمامها، وخصوصاً اليابان. فالأخيرة أغلقت باب التجارة مع الخارج منذ عام 1641، بحسب جورج ألين في كتاب «تاريخ اقتصادي قصير لليابان الحديثة». يومها فرض حكّام اليابان سياسة عزلة تجارية عن تأثيرات التجارة الدولية. واقتصرت التجارة بين اليابان والعالم الخارجي، على الصينيين في مدينة ناغازاكي، وعلى الهولنديين في مدينة ديشيما. وتحكّمت اليابان بدقّة بحجم ونوع هذه التجارة، فكانت الواردات الرئيسية من الحرير الخام والمصنوعات الحريرية التي يُسدّد ثمنها بصادرات الذهب والفضة والنحاس التي تنتجها مناجم اليابان. وكان الهدف الأساسي من سياسة الانغلاق، الحفاظ على ثروة البلاد من المعادن الثمينة وحماية النظام السياسي الصارم.
لكن في آخر سنوات القرن الثامن عشر، بدأ التجار الإنكليز وغيرهم من الأوروبيين، يطالبون السلطات اليابانية بفتح موانئها أمام التجارة الدولية. ومع بدايات القرن التاسع عشر بدأت مياه غرب المحيط الأطلسي تعجّ بالسفن الأميركية بسبب استيطان الولايات المتحدة للسواحل الغربية لقارة أميركا الشمالية. ولفترة طويلة استطاع حكّام اليابان التهرّب من المطالب الأميركية المتعلّقة بالتجارة، كما يسرد ألين. إلا أن حروب الأفيون فتحت شهية الدول الغربية. ففي عام 1854 رست سفن «حملة بيري» للمرّة الثانية في خليج سوراغا، ورفض قائد الحملة، ماثيو بيري، المغادرة من دون توقيع اتفاق يُنهي سياسة العزلة اليابانية. وبعد استعراض قوة الأسطول الأميركي، كان على الحكومة اليابانية الإذعان. وسرعان ما كرّت سبحة الدول الغربية التي تطالب باتفاقات مشابهة للاتفاق مع الأميركيين. وفي عام 1858 اضطرت الحكومة إلى توقيع معاهدات منحت حقوق التجارة للمواطنين البريطانيين والفرنسيين وغيرهم. فُتحت خمسة موانئ للتجارة الأجنبية. وحين حاول بعض العشائر المعادية للانفتاح تحدّي الوضع الجديد، أثبتت المعدّات البحرية الغربية قوتها التي لا تقاوم من خلال قصف منطقتي كاجوشيما وشيمونوسيكي في عامَي 1863 و 1864. وسلّط هذا العدوان الأجنبي الضوء على ضعف النظام القديم لليابان مؤكّداً الحاجة إلى التغيير ورسم طبيعة التحولات في الحياة الاقتصادية والسياسية التي يجب على اليابان أن تتبنّاها.
فاتحة هذه التحوّلات كانت التخلي عن النظام الإقطاعي. وبالفعل حصل ذلك في عام 1869. وتزامن مع تغييرات سياسية أعادت السلطات إلى يدي الإمبراطور بعدما كانت موزّعة بين الزعماء الإقطاعيين وكبير أمراء الحرب (شوغون) منذ أكثر من ألف عام. وهذا ما سمح للسلطة بالبدء بتنفيذ سياسات مركزية تهدف إلى تحديث البلاد. فكان التركيز الأساسي على التجارة الخارجية. وكان لا بدّ من سداد مدفوعات كبيرة بالعملات الأجنبية مقابل استيراد المعدات، مثل السفن التجارية والسفن الحربية والذخائر والآلات اللازمة لتنفيذ برنامج التحديث الصناعي. وزادت واردات السلع الاستهلاكية، ولا سيما المنسوجات والكيروسين. وكان لا بد من سداد مدفوعات الفائدة على القروض الأجنبية، كما يقول ألين. ولكن هذه البرامج بدأت تؤتي أُكلها بسرعة نسبية، إذ أنّ صادرات اليابان ازدادت واختلف نوعها بشكل قياسيّ. فبعدما كانت الصادرات اليابانية الأساسية هي مواد أولية (بيوض دود القزّ والمعادن من النحاس والفضة) ومواد تحويلية (خيوط الحرير)، تطوّر قطاع التعدين حتى أصبحت اليابان قادرة على تصدير كميات صغيرة من الفحم الحجري؛ لاحقاً، تطوّر قطاع الصناعات حتى تمكنت اليابان من تصدير المنسوجات الحريرية والصوفية والقطنية المتنوعة. وتزامنت عملية التحديث هذه مع توسع ياباني عسكري حوّل كوريا وتايوان وجزء من شمال شرق الصين إلى مستعمرات يابانية، ساهمت في توسيع أسواق التصدير اليابانية.

على طريق التحديث
يعتقد ألين أن هذا التطوّر العسكري انسحب على التجارة. فبحلول نهاية القرن التاسع عشر كان التجار اليابانيون يحققون تقدماً كبيراً في التجارة مع الصين وحدها، وكانت تسعة أعشار التجارة الخارجية تتم عبر التجار الأجانب، إلا أنه مع بدايات القرن العشرين، حقّق اليابانيون توسعاً تجارياً إضافياً وتراجعت حصّة الأجانب من تجارتهم الخارجية. لكن القفزة الحقيقية للتجارة اليابانية الخارجية حصلت بعد الحرب العالمية الأولى. بنتيجتها استحوذت اليابان على مستعمرات ومصالح ألمانيا في الصين. وحتى الحرب العالمية الأولى، كانت الصادرات اليابانية الأساسية محصورة بالحرير الخام الذي كان يُصدّر إلى الولايات المتحدة، بالإضافة إلى كميات صغيرة من السلع القطنية التي كانت تُرسل بشكل أساسي إلى الصين. لكن الحرب وما تلاها من صعوبات مالية عاشتها اليابان في بدايات ومنتصف عشرينيات القرن العشرين، دفعا الحكم الياباني إلى العمل نحو تغيير الدور الصناعي والتجاري للبلاد. وبدأت اليابان تتطلّع إلى استغلال الموارد الطبيعية والمواد الخام في شرق آسيا وبحارها، واستخدامها للبنية الصناعية التي باتت تتمتّع بها، وخصوصاً أن اليد العاملة اليابانية كانت تُعدّ رخيصة، أي أن اليابان كان بإمكانها أن تلعب دور الدولة التي يمكنها أن توفّر سلعاً استهلاكية بكميات وفيرة وأسعار رخيصة لشعوب شرق آسيا الفقيرة، حتى ولو كانت ذات جودة أقل من المصنوعات الغربية.
بدأ هذا المسار يؤتي نتائجه مع نهاية عشرينيات القرن العشرين. بحسب ألين، إن التجارة الخارجية ازدادت بين عامَي 1913 و 1929 بمقدار ثلاثة أضعاف في القيمة ومرتين في الحجم. وكانت التجارة بين اليابان ومستعمراتها مسؤولة عن الجزء الأكبر من هذه الزيادة العامة في حجم التجارة الخارجية اليابانية. فقبل عام 1914، كانت التجارة الاستعمارية قليلة الأهمية، وحتى مع نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت تمثّل فقط نحو 12% من تجارة اليابان الخارجية. لكن خلال العشرينيات كان هناك توسّع سريع. وبحلول عام 1929، مثّلت التجارة الاستعمارية نحو خمس المجموع. ميزة هذه التجارة أنّها لم تكن تعوقها الرسوم الجمركية أو قيود الاستيراد، فالتعرفات الاستعمارية على البضائع الأجنبية كانت مثل تعرفات البلد الأم. في تلك الفترة، تحوّل شكل تجارة اليابان مع مستعمراتها إلى نموذج للعلاقات الكلاسيكية بين المستعمرات والدول المستعمِرة. فصدّرت اليابان السلع المصنّعة، بما في ذلك السلع الرأسمالية لبناء مواردها؛ بينما تشكلت الواردات بالكامل تقريباً من المواد الغذائية والمواد الخام. فأرسلت كوريا بشكل رئيسي الأرز والفاصولياء والمنتجات البحرية والأسمدة؛ بينما أرسلت تايوان السكر والأرز بشكل رئيسي. وفي المقابل كانت تركيبة تجارة اليابان مع العالم الخارجي خلال هذه الفترة تتطور بشكل كلاسيكي. نسبة المصنوعات الجاهزة في إجمالي صادراتها ارتفعت بشكل كبير في مقابل صاردراتها من المواد الخام والتحويلية.
ودفع نجاح هذه السياسة في عقد العشرينيات من القرن الماضي، اليابان إلى التطلّع إلى المزيد من التوسّع، ولا سيما في الصين التي كانت في طور التفكّك وتفتقد إلى سلطة مركزية حقيقية. لذا، بدأت اليابان توسّعها من خلال حملة احتلال منطقة منشوريا في عام 1931. خلف سياسة التوسع هذه، تبنّت الحكومة اليابانية «اقتصاد شبه الحرب» لتوجيه كل مهاراتها الفنيّة المكتسبة في الأعوام الخمسين السابقة ودفع اقتصادها نحو تمويل الحروب التوسعية وامتصاص الأسواق التي ستخلقها. وبينما كانت دول الغرب تتخبّط في سياسات مالية أدّت إلى الكساد الذي عصف بالعالم كله بعد عام 1929، كانت اليابان تخلّصت من هذه السياسات باكراً في بداية العشرينيات، وبدأت بتطبيق سياسة «التوظيف الكامل»، تعبيراً عن استعدادها للإنفاق الحكومي الدائم للحفاظ على مستويات بطالة منخفضة. ويرى ألين أن نجاح سياسة اليابان الاقتصادية في حينه كان ثمنه الارتباط بإعادة التسلّح على نطاق واسع والعدوان العسكري. واجترحت اليابان مبدأ «مجال الازدهار المشترك لشرق آسيا الكبرى»، للتعبير عن تطلّعها لإخراج الغربيين من شرق وجنوب شرق أسيا، وحلولها مكانهم كدولة راعية لتوزيع موارد المنطقة وازدهارها.

الصراع على الصين
وبالفعل لم يتوقف التوسع العسكري الياباني في الصين رغم انتهاء الحرب رسمياً عام 1932. كانت اليابان تقضم تدريجاً المزيد من المساحات على السواحل الشمالية الشرقية للصين بحجّة أن الدولة الصينية لم تعد موجودة بينما القوى الغربية تتناتش السيطرة على الأراضي الصينية. في المقابل، كان هذا التوسع الياباني يواجه مقاومة متزايدة من الولايات المتحدة الأميركية التي ورثت الهيمنة على المحيط الهادئ بعد الحرب العالمية الأولى. وقد جاءت نصوص اتفاقية واشنطن البحرية بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة واليابان تعبيراً عن ذلك. بحسب هيربرت فيّس، في كتاب «الطريق إلى بيرل هاربور»، فإن المعارضة الأميركية تمثّلت في إقناع الفرنسيين والبريطانيين بعدم الانسحاب من الصين تحت الضغوط اليابانية، إلا أنه بعد بدء الحرب الصينية- اليابانية الثانية في عام 1937، بدأت الولايات المتحدة بإرسال الدعم المادي لحكومة «الكومنتاغ» الصينية. وبدأ التوغل الياباني بإقلاق الولايات المتحدة التي انتشرت بشكل كبير في الصين، وأحكمت السيطرة على جزء كبير من منطقة غرب المحيط الهادئ وموارده الأولية بعد حروبها مع إسبانيا.
بين عامَي 1940 و1941 حظرت الولايات المتحدة تصدير المعادن والنفط إلى اليابان وجمّدت أرصدتها المالية وأصولها على الأراضي الأميركية لإجبارها على الخروج من الصين


ويشرح فيّس، أن كل توغل إضافي للجيش الياباني إلى مدن في الداخل الصيني كان يتبعه تحكم بالتجارة الأميركية فيها بالكامل لتناسب الخطط اليابانية، بالإضافة إلى طرد الأعمال الأميركية منها. وبدأ الحديث في داخل الولايات المتحدة عن أن اليابان فقدت الحقوق القانونية في الحماية الاقتصادية العادلة. علماً بأن الكثير من المواد الخام المطلوبة للنشاط العسكري كان مصدرها جنوب شرق آسيا وغرب الأطلسي (كالمطاط والقصدير والكينين والألياف) وكانت تشتريها الدول الأجنبية من أسواق الولايات المتحدة. بالإضافة إلى أن 80% من إمدادات النفط اليابانية كانت تُستورد من الولايات المتحدة، وكذلك 71% من خردة المعادن و93% من النحاس. وبين عامَي 1940 و1941 حظرت الولايات المتحدة، بقرارات متدرجة، تصدير المعادن والنفط إلى اليابان وجمّدت أرصدتها المالية وأصولها على الأراضي الأميركية. وهذا كان كفيلاً بعرقلة الآلة العسكرية اليابانية، بحسب التقدير الأميركي، وإجبارها على الخروج من الصين وكبح أطماعها في جنوب شرق آسيا. ولكنّ رد الفعل الياباني على قرارات الحظر الأميركية، ولا سيما قرار حظر بيع النفط، كان إعلان الحرب عبر الهجوم على «بيرل هاربور»، والتوسع في جنوب شرق آسيا وجزر غرب المحيط الهادئ. هذه الحرب التي انتهت عبر قنبلة نووية مثّلت التعبير الأبرز لتسيّد الولايات المتحدة مركز منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا