تفرض الأزمات تعديلاً في أنماط الاستهلاك. ففي لبنان لم يعد التمييز بين الأساسيات والكماليات هو المقياس الفعلي، بل يصبح الحصول على الغذاء الكافي هو الأولوية القصوى. الخيارات المتاحة باتت مقتصرة على تقليص عدد الوجبات والتخلّي عن بعض أنواع الغذاء أو تقنين الحصول عليه، فضلاً عن تخلّي الراشدين عن بعض وجباتهم من أجل صغارهم. هذا الأمر ليس تعديلاً هامشياً في بنية المجتمع، بل هو مجزرة اجتماعية أسبابها ليست مرتبطة بارتفاع الأسعار فحسب، إنما البطالة أيضاً. في الفترة ما بين تموز وآب، صرّحت الأسر المقيمة في لبنان بأن 40% منها تعاني من صعوبات في الوصول إلى الغذاء، وأن السبب الأساسي هو نقص المال، و55% من الأسر قالت إنها لا تملك كميات كافية، بينما 19% تعاني من أنظمة غذائية غير كافية. عمق الأزمة ووتيرة تدهورها قد يفرضان تعديلاً أسوأ على السلوك الاجتماعي.
عندما تصرّح 87% من الأسر المقيمة في لبنان بأنها باتت تحصل على غذاء أقلّ كلفة وعلى نوعيات لا ترغب فيها، وعندما تقول 54% من الأسر إنها خفّضت عدد الوجبات مقابل 46% منها صرّحت بأنها خفّضت عدد وجبات الراشدين من أجل تغذية الصغار، فهذا مؤشّر واضح إلى الكارثة الاجتماعية المقبلة. حتى الآن، ورغم الفقر والبطالة وضيق الموارد المالية، فإن الأسر تُكافح عبر تعديل أنماط استهلاكها الغذائي. لكن المشكلة أن انحدار الأزمة لم يتوقف بل توقف البحث عن خطّة إنقاذ تعترف بالخسائر وتوزّعها بشكل عادل وترسم مساراً للخروج.

الفقر الغذائي
الأزمة فرضت تعديلاً قسرياً على سلوك الأسر. قلبت أولوياتهم. ألغت من قاموسهم كلمة «كماليات». موازنات الأسر صارت محدودة، ما فرض عليها المفاضلة بين الأساسيات حصراً: نشتري لحمة مرّة أسبوعياً أو مرّة شهرياً؟ هل نشتريها طازجة أو مجمّدة (أرخص)؟ ماذا عن الدجاج و السمك؟ هل نشتري أنواعاً من الفاكهة أم نكتفي بالأرخص عندما يتوافر المال؟ مَنْ من أفراد الأسرة سيحصل على عدد وجبات كاف؟ من سيأكل ماذا؟ ثمة العديد من الأسئلة التي تقف الأسر أمامها بعجز واضح. تتم عملية المفاضلة بهدف الاستمرار. الصمود في مواجهة الجوع. الخيارات أحلاها مرّ. فمع ازدياد معدلات الفقر المدقع، بحسب تقارير المؤسّسات الدولية (إسكوا، البنك الدولي...)، انزلقت نسبة كبيرة من الأسر المقيمة في لبنان نحو الفقر. نسبة الفقراء باتت تصل إلى 50% من بينهم 23% يعيشون في فقر مدقع، ومن بينهم أيضاً أسر كانت تصنّف في الطبقة الوسطى.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بحسب منظمة الغذاء العالمية، فإن مؤشرات الأمن الغذائي تدهورت في لبنان بحسب تقريرها الأخير بعنوان «تقييم الأمن الغذائي تموز - آب 2020». فقد ازداد عدد الأسر التي تعاني من صعوبات في الحصول على الغذاء، والذين يحصلون على نظام غذاء غير كاف أيضاً. في مواجهة ذلك، لجأت الأسر إلى آليّات خاصّة تتيح لها التكيّف، مثل «التحوّل نحو استهلاك أنواع غذاء منخفضة الكلفة، أو أنواع غذاء غير مفضّلة، وتقليص الحصص الغذائية لكل وجبة وغيرها من الطرق التي تخفّف كلفة الغذاء» وفق تقرير صادر عن المنظمة.

%19

هي نسبة العائلات المستجوبة التي لا تحظى بنظم غذائية كافية


من أبرز الأسباب المباشرة التي عبّرت عنها الأسر لتبرير التعديلات على سلوكها الغذائي، عدم توافر الأموال. بحسب تقرير المنظمة، صرّح أكثر من 49% من الأسر بأن نقص الأموال هو السبب الأساسي في تدهور نوعية وكمية الغذاء الذي يحصلون عليه. 19% من الأسر أشارت إلى ارتفاع الأسعار و9% عزت الأمر إلى «جائحة كورونا». يُعدّ تدهور القدرة الشرائية من أبرز الأسباب. فالشحّ المالي وارتفاع الأسعار مرتبطان مباشرة بهذا التدهور. كذلك يُعدّ ارتفاع معدلات البطالة مؤشراً أساسياً. فقد كانت تقديرات معدلات البطالة تشير إلى 25% قبل 17 تشرين الأول 2019 وفقاً لأرقام صادرة عن «الدولية للمعلومات»، أما منظمة الغذاء العالمية فقد أشارت إلى أن معدلات البطالة بلغت 49%.
تأتي هذه التقديرات بعد انفجار الأزمة التي أجّجها الإقفال الناتج من انتشار جائحة «كورونا»، وفوقها انفجار مرفأ بيروت في 4 آب. في الفترة نفسها، بلغ سعر الصرف أقصى ذروته. بحسب موقع «Lebaneselira.org» بلغ سعر صرف الدولار الواحد في 3 تموز 9900 ليرة، وبلغ حدّه الأدنى 6500 في 13 آب. في مطلع الأسبوع الثاني من شهر تشرين الأول عاد إلى الارتفاع مسجلاً 9000 ليرة، لكنه منذ مطلع آب ولغاية 10 كانون الأول كان يتحرّك بين 8500 ليرة و6500 ليرة. غير أن ما زاد من حدّة الأزمة، اعتماد لبنان في غذائه على الاستيراد بشكل أساسي. هذا الأمر يجعل أي خضّة في قيمة العملة اللبنانية تنعكس مباشرةً على أسعار المواد الغذائية. هذا تحديداً ما حصل خلال السنة الجارية. فانخفاض سعر صرف الليرة مقابل الدولار كان سبباً رئيسياً في تضخّم الأسعار. بلغ معدّل التضخّم الوسطي منذ مطلع السنة ولغاية نهاية تشرين الأول، نحو 136% كما تشير أرقام صادرة عن إدارة الإحصاء المركزي، علماً بأن معدّل تضخم أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية بلغ 223%.

46 % من الأسر أبلغت منظمة الأغذية العالمية اضطرارها إلى تقليص استهلاك الأفراد الراشدين من الغذاء


انعكست هذه التطورات على الأسر بشكل دراماتيكي. 40% من الأسر التي شاركت في استبيان منظمة الأغذية العالمية، صرّحت عن صعوبات في الوصول إلى الغذاء والحاجات الأساسية الأخرى في الأسبوعين السابقين على الإحصاء. ولم يكن مفاجئاً أن المحافظات الموسومة بالنسبة الأكبر من الفقر كان لها النصيب الأكبر من هذه المعاناة، ففي محافظة عكار أبلغ 55% أنهم عانوا من هذه الصعوبات، وفي بعلبك - الهرمل بلغت النسبة 48%.
لكن مشاكل الأسر لا تنحصر بهذه الصعوبات، بل إن قدراتها البنيوية تضرّرت كثيراً. فقد أبلغ 55% من الأسر المستجوبة أنه ليس لديهم كميات كافية من الغذاء في منازلهم في فترة الأيام الـ14 السابقة على الاستبيان. ضمن هذا المعدل العام، سجّلت محافظة عكّار أعلى نسبة من الأسر التي تملك كميات كافية من الغذاء (68%)، تليها محافظة بعلبك - الهرمل بنسبة 63%. كما أن أبناء هاتين المحافظتين هم الأقلّ قدرة على تخزين الغذاء إذ أن 37% من الأسر في كلّ منهما تعجز عن ذلك. أما لجهة المدّة التي تغطيها مخزونات الغذاء، فقد تبيّن أن 15% فقط أبلغوا بأن لديهم مخزوناً كافياً من الغذاء لمدّة تزيد عن الشهر، مقابل 27% لديهم مخزون يكفي بين أسبوعين وثلاثة، و38% لديهم من مخزون يكفي أسبوعاً أو أقل.
جودة الغذاء متدنية أيضاً. 19% من الأسر تستهلك نظاماً غذائياً غير كافٍ. كذلك، إن نسبة استهلاك الأنظمة الغدائية غير الكافية أعلى عند الأسر التي أبلغت أن فرداً واحداً منها، على الأقل، عاطل من العمل، إذ أن 47% من هذه الأسر تستهلك نظاماً غذائياً غير كافٍ. كما أن 27% من الأسر التي أبلغت عن مخزون غير كافٍ من الغذاء، تعاني أيضاً من استهلاك هذه الأنظمة الغذائية غير الكافية.
في الواقع، هناك ثلاثة مستويات تعتمدها المنظمة لتصنيف الجودة: نظام غذائي فقير، نظام غذائي على الحد الأدنى ونظام غذائي مقبول. الأنظمة الغذائية الفقيرة أو تلك التي تقع ضمن الحدّ الأدنى تُعدّ غير كافية بحسب معايير المنظمة. تصنيف الأنظمة الغذائية مرتبط بعدد أيام استهلاك كل نوع من الغذاء خلال الأسبوع وهي تتضمن: بروتينات، حبوباً، فواكهَ، منتجات الألبان، سكّراً، خُضراً، دهوناً وموادَّ غذائية أساسية (مثل الأرز والبطاطا والقمح...). فإذا كان استهلاك البروتينات بمعدّل 0.3 أيام في الأسبوع، أي حوالى يوم كل ثلاثة أسابيع، يُعدّ النظام الغذائي فقيراً، وكذلك بالنسبة إلى الحبوب 0.6 أيام، وإلى الفواكه 0.3 أيام، وإلى الألبان 0.2 أيام، والسكّر 3 أيام، والخضر 2.6 أيام، والدهون 3.9 أيام، والمواد الغذائية الأساسية 6.8 أيام. ويختلف تصنيف النظام الغذائي بحسب تغيّر معدّل عدد أيّام استهلاك كل نوع من الأغذية في الأسبوع.


وفي مواجهة الأزمة تلجأ الأسر إلى آليات التكيّف. تحاول أن تتأقلم مع تدهور قدراتها الشرائية، ومع انحدار أحوالها إلى ما دون خطوط الفقر. الأمر ليس مسألة صعبة فحسب، بل هو مسألة البقاء على قيد الحياة. هو صراع من أجل الاستمرار. من بين التدابير التي اتخذتها الأسر لمواجهة الجوع والفقر، تعديل أنظمتها الغذائية. فبحسب تقرير المنظمة، أبلغ 87% من الأسر أنها تتبع تدبيراً واحداً على الأقل يُسعف نظامها الغذائي على التأقلم مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها وتحوّلت نحو أطعمة أقل كلفة وغير مفضّلة لديها، كما أن 54% من الأسر قررت تقليص حجم الحصّة الغذائية في الوجبة الواحدة، و46% منها اضطرت لأن تقلّص استهلاك الأفراد الراشدين من الغذاء.
إذاً، ما هي قدرة صمود الأسر؟ التقرير استخدم «مؤشّر استراتيجيات التأقلم» الذي يُحتسب من خلال الأخذ في الاعتبار صرامة وتواتر استخدام استراتيجيات التأقلم من قبل الأسر لمعرفة آليات تعاملها مع النقص في استهلاك الغذاء. تشير النتائج إلى أن محافظة عكّار تحظى بأعلى مؤشّر (25) تليها محافظتا بعلبك - الهرمل والنبطية بمؤشّر (23) لكل منهما، أي أن هناك اعتماداً كبيراً على استراتيجيات المواجهة في ظل صعوبات الحفاظ على أنظمة غذائية كافية.