فيما تتحضّر الولايات المتحدة للخروج من عهد ترامب، يعد الرئيس الجديد بإنفاق المزيد من حزمات التحفيز لمحاولة إنعاش الاقتصاد الأميركي المتضرر من جائحة كوفيد-19. وكانت البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي (OECD)، وهي بمثابة نادٍ للبلدان الغنية، تنتهج أيضاً سياسات إنفاق حكومية، مع الاستعداد للإبقاء على هذه السياسات إذا احتاج الأمر إلى ذلك. وتشير الأدلة بشكل واضح إلى أن أزمة كورونا قد عطّلت التوجه المالي المتحفّظ، الذي ثبّتته النيوليبرالية في ثمانينيات القرن الماضي.لكن يبدو أن لا قدرة لجميع الدول على الابتعاد عن العقيدة النيوليبرالية السائدة. انعدام القدرة يظهر بوضوح في الدول النامية على وجه التحديد. باستثناءات قليلة، فإن حكومات الدول النامية لم تتبع سياسات إنفاق ملائمة لمواجهة هذه الأزمة الصحية، ولم تقرّ شبكات أمان للمواطنين المنكوبين، ولم تقدر على الحدّ من الركود الاقتصادي وعكس اتجاهه من أجل استعادة نشاطه الطبيعي.
تشير تقديرات البنك الدولي، في تقرير «الآفاق الاقتصادية العالمية» الذي صدر في شهر كانون الثاني الحالي، إلى اختلافات صارخة بين البلدان على صعد مختلفة من التنمية ومستوى الدعم المالي الذي قدّمته الحكومات في أعقاب صدمة كوفيد-19. ففي حين يُقدّر وصول الإنفاق المالي لمواجهة الأزمة في الدول المتقدّمة إلى 22.6% من الناتج المحلي لهذه الدول، بلغت أرقام هذا الإنفاق في الدول النامية 6.2% من الناتج المحلي لديها، وفي الدول ذات الدخل المنخفض بلغت 2.4%. وكان الإنفاق الحكومي في عام 2020 حاجة ليس فقط لمواجهة الأزمة، ولكن أيضاً لإنعاش التوظيف والاستثمارات والنمو الاقتصادي على المدييْن المتوسط والطويل. فإذا كانت الدول الفقيرة قد أنفقت أموالاً أقل، وهي بالفعل قد فعلت ذلك، فيما أعادت الدول الغنية إنعاش اقتصاداتها، ستتجسّد نتيجة الأضرار الناجمة عن الأزمة بتوسيع حالات اللامساواة في العالم. وهذا التفاوت سيتزايد رغم أداء بعض البلدان الاستثنائي، كما فعلت الصين، وهذا الأمر قد يؤثّر في إجمالي أداء الدول النامية وقد يخفي حجم التغيير في الأرقام الإجمالية.




ما يقف خلف هذا التفاوت في مستويات الإنفاق هو الرغبة والقدرة على اللجوء إلى تمويل العجز الناتج عن هذا الإنفاق من خلال الاقتراض. هذا لا يعني أن الدين العام في البلدان الفقيرة لم يرتفع، لكنه ارتفع بدرجة أقل من الدين العام في الدول المتقدمة. وفيما كان العجز المالي في الدول المتقدّمة يُقدّر بنسبة 3.3% من الناتج المحلي في عام 2019، ارتفع إلى 14.2% في عام 2020. بين عامَي 2019 و2020 ارتفع هذا العجز من 4.8% من الناتج إلى 10.4% في الدول النامية ومن 3.3% إلى 5% في الدول ذات الدخل المنخفض. كما ارتفع الدين العام في الدول النامية بنسبة 9% من الناتج المحلي بين عامَي 2019 و2020 مقارنةً مع ارتفاعه بنسبة 4% بين عامَي 2017 و2019.
التفاوت في الإنفاق، الذي يتوقع أن يؤدي إلى زيادة اللامساواة في العالم، هو نتيجة عدم رغبة حكومات الدول النامية، وبالأخص الفقيرة منها، في إرهاق نفسها مالياً بينما هي في خضم مواجهة أزمة خطيرة مثل أزمة كوفيد-19. وعدم الرغبة هذا ينبع من تحوّل اقتصادات الدول النامية على مرّ العقود الماضية إلى استراتيجيات التنمية النيوليبرالية، التي يُعتبر من أسسها التحفظ في الإنفاق المالي. هذا التحوّل كان جزئياً بسبب الشروط التي فرضتها مؤسسات «بريتون-وودز» (البنك وصندوق النقد الدوليان)، كما كان أيضاً بسبب إجراءات طوعية لهذه الحكومات. ولكن في مواجهة الوباء بيّن البنك الدولي وصندوق النقد، انفتاحاً على فكرة الاستدانة من أجل الإنفاق، وفي بعض الأحيان كانت هذه الفكرة من توصياتهما.
السؤال المطروح هو لماذا لم تستجب البلدان النامية للأزمة من خلال الإنفاق التحفيزي، في حين تظهر أمامها أن حكومات البلدان المتقدمة، التي كانت تدعو إلى التحفظ في الإنفاق المالي والتقشف، تخلّت عن هذا النهج؟
- أول أسباب ذلك، هو تخوف حكومات البلدان النامية من أن الإنفاق، الذي يولّد العجز المالي، قد يسبّب هروب المستثمرين الأجانب من أسواقها، ولا سيّما من الأسواق المالية. وتُظهر الاتجاهات في حساب رأس المال في البلدان الفقيرة الاعتماد المتزايد على رأس المال الخاص الذي «اكتشف» العديد من الاقتصادات ذات الدخل المنخفض باعتبارها «أسواقاً أولية». فارتفعت حصة الدين الخاص من إجمالي رصيد الدين الخارجي للبلدان ذات الدخل المنخفض من 3.2% في عام 2010 إلى 8.5% في عام 2015 و10% في عام 2019. ويُرجّح أن ترتفع هذه الأرقام كثيراً في السنة الأخيرة (2020). فبحسب مجلّة «فاينانشل تايمز»، يقدّر «معهد المالية الدولي» أن الدين العام في جميع الدول النامية، عن طريق سوق السندات، ارتفع بقيمة 100 مليار دولار بين شهرَي نيسان وآب من العام الماضي 2020. ومن المعروف أن الدائنين والمستثمرين الأجانب يمقتون تدابير السياسة المالية الاستباقية. لذا فإن الوجود المتراكم للدين الخارجي الخاص والاستثمارات يولّد مخاوف عند هذه الدول من أن اللجوء إلى «الإنفاق بالعجز» قد يؤدي إلى خروج رأس المال هذا من أسواقها.
إذا كانت الدول الفقيرة قد أنفقت أموالاً أقلّ وهي بالفعل قد فعلت ذلك، فيما الدول الغنية أعادت إنعاش اقتصاداتها، ستتجسّد نتيجة الأضرار الناجمة عن الأزمة بتوسيع حالات اللامساواة العالمية


- ثانياً، من المرجّح أنه في كثير من البلدان الفقيرة، قد يؤدي الارتفاع في الطلب الناتج عن زيادة الإنفاق الحكومي، إلى زيادة حجم الواردات وارتفاع فاتورة الاستيراد، وذلك بسبب الاعتماد الكبير في الاستهلاك المحلي والاستثمار على الإمدادات الأجنبية. وفي الوقت ذاته أدّت صدمات العرض المحلي الناجمة عن عمليات الإغلاق، التي استلزمها الوباء، إلى زيادة الاعتماد على الواردات. ومن المحتم أن يكون تمويل هذه الواردات المتزايدة صعباً بسبب انخفاض عائدات الصادرات وتحويلات العاملين في الخارج بسبب الركود العالمي. لذا، يتوقع أن يكون جزء كبير من الاقتراض الإضافي، مقوَّماً بالعملات الأجنبية، وقد يكون الحصول على هذه القروض أمراً صعباً فتكون متاحة بمعدلات فائدة عالية. وتعاني غالبية البلدان الفقيرة من ضائقة ديون، فيما كان الدعم المقدم من قبل الدول المتقدمة، على شكل مبادرة تعليق خدمة الديون، على سبيل المثال، ضئيلاً للغاية. في الواقع، وفقاً للبنك الدولي، اختارت 44 دولة فقط من بين73 دولة قادرة ومؤهلة، اللجوء إلى مبادرة تعليق خدمة الديون. في حين تراجعت الدول الأخرى عن الإقدام على هذه المبادرة لأن الاستفادة منها ستقلّل من التصنيف الائتماني للبلد المعني وتحدّ من الوصول إلى الاستدانة من القطاع الخاص مستقبلاً. وفي ظل هذه الظروف، وخوفاً من أزمات ميزان المدفوعات التي قد تتطلب مزيداً من التقشف، تميل البلدان إلى تقليص الإنفاق الحكومي الإضافي.
إن تفاقم حالات اللامساواة العالمية، الذي ينتج عن هذه القيود على الإنفاق التحفيزي للبلدان الفقيرة، سوف يزداد حدةً على المدييْن المتوسط والطويل. والانخفاض في الإنفاق، في وقت تزداد فيه النفقات على قطاع الصحة وعلى شبكات الأمان الاجتماعي بسبب الوباء، يعني أن الإنفاق الرأسمالي الخاص سيتقلص بشكل غير متناسب بين البلدان الفقيرة والغنية. ونتيجة لذلك، سيتباطأ نمو الدخل في الدول الفقيرة في المستقبل، ما سيؤثر سلباً على الإيرادات الحكومية المستقبلية والقدرة على الوفاء بخدمة الدين العام. وهذا سيستلزم الإبقاء على سياسات التقشف، ما يؤدي إلى تفاقم تباطؤ النمو الاقتصادي.
في ضوء كل ذلك، من المتوقّع أن تزداد حالات اللامساواة عالمياً، ما سيؤدي إلى زيادة الحرمان الاجتماعي.

* نُشر هذا المقال على موقع networkideas.org في 12كانون الثاني الحالي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا