تحوّلت إدارة النفايات في لبنان إلى مثال أسطوري. عندما لا تُلقى في الوديان، يتم إلقاؤها في البحر من دون معالجة، وتُقتلع سفوح الجبال لحماية الردميات. مشاريع المحارق يُعاد إطلاقها دوريّاً من دون إقامة أيّ اعتبار بيئي، ومع شكوك كبيرة بأن تغذيتها سوف تتم عبر استيراد النفايات من الخارج، لأن النفايات المحليّة عضوية في غالبيتها وغير قابلة للاحتراق. تستفيد هذه الأطروحات من المنارة التي ساهم فيها برنامج الأمم المتحدة للتنمية والتي سمحت في عام 2010 باعتماد استراتيجية مزعومة لمعالجة النفايات قوامها «التفكيك الحراري». وفيما وافق مجلس الوزراء، في عام 2015، على اتفاقيات مافياوية، وحتى وهمية، لتصدير النفايات، يرجّح أن تؤدّي الأزمة المالية إلى رحيل العمال الأجانب الذين يجمعون النفايات لأنّ الشركات المولجة بإدارة النفايات لم تدفع أجورهم منذ بضعة أشهر.
كيف وصلنا إلى هنا؟
بداية، هناك معطيان مؤسّسيان:
- تقع مسؤولية إدارة النفايات على عاتق البلديات حصرياً، وقد تولّت هذه المسؤولية قدر المستطاع عبر موظّفيها إلى حين اندلاع الحرب الأهلية.
- تتشارك البلديات، وفقاً لقاعدة منحرفة وإنّما معروفة، في الأموال الناتجة من تحصيل عدد من الضرائب والتي تغذّي «الصندوق البلدي المستقل»، ويُفترض أن توزّعها وزارة الداخلية عليها شهرياً.
في الوقائع، لم تُجرَ انتخابات بلدية بين عامي 1963 و1998. منذ ذلك الحين، وفي ظل غياب تعداد سكاني منذ عام 1932، لم يعد للناخبين أي علاقة بالسكان الفعليّين، وباتت المجالس البلدية مجرّد جمعية تضمن وجهاء البلدة الذي يمثّلون ملاكي الأراضي وحلقة وصل بزعماء الطوائف. فقد ارتفع عدد البلديات بشكل مطّرد إلى 1100 بلدية، غالبيتها لقرى صغيرة وبقدرات تشغيلية هزيلة، ما خلا البلديات المدينية الكبيرة التي تسيطر عليها السلطة السياسية مباشرة.


على هذه القاعدة، وفي ظل نظام يعتبر كلّ الأراضي قابلة للبناء، لا عجب بأن ترفض البلديات إقامة أيّ معمل للفرز أو للمعالجة أو أيّ مطمر في نطاقها، كونها تخفّض قيم الأراضي. ولأنها عاجزة عموماً عن التعامل مع المشكلة، لم تجد أي بلدية مصلحة في المطالبة بالمبالغ المستحقّة لها من الصندوق البلدي المستقل. راح الصندوق يراكم الإيرادات فوضعت الحكومة يدها عليها من دون منازع، وموّلت بأمواله عقداً غير قانوني مع مؤسسات خاصة لمعالجة النفايات (أبرزها شركة سوكلين) كان يُدفع لها تبعاً لوزن النفايات الإجمالي، أي من دون أي اعتبار للفرز أو للتجفيف، فتضخّمت المدفوعات مقابل أن تقوم المؤسسة بنيل رضى مختلف زعماء الطوائف عبر تقديمات شتى لهم.
بعد عام 2015، استُبدلت الشركة بشركات عديدة، كي يتولّى كل زعيم تنظيم أموره في منطقته، لأن أوضاعهم المالية كانت في تراجع. نشأت المشكلة من كون بيروت وضواحيها تُنتج القسم الأكبر من النفايات، أو بشكل أصحّ من الدولارات. كانت النفايات تُرمى لفترة طويلة في وادٍ تابع لقرية هُجّر سكانها بسبب الحرب. فقام أحد الزعماء بإقفال المطمر للضغط على منافسيه كي يحصّل حصّة أكبر من تلك التي توفرها له «منطقته» فتراكمت أكوام النفايات في الشوارع لأسابيع. حصلت حينها انتفاضة شعبية عارمة تجاه الوقاحة المشهودة، لكنّها فشلت في خلخلة المنظومة السياسية بسبب مكر أرباب تلك المنظومة، وجهل من أسموا أنفسهم «المجتمع المدني» أو «خبراء بيئيين» في إدارة المواجهة. وجدت السلطة حلاً قضى برمي النفايات في البحر وردمه، وفتحت بالتالي مناطق جديدة لأنشطة عقارية أمِلت في الاستفادة منها.

إجراءات تقنية ومؤسسية
تبدأ إدارة النفايات بإدراك أن النفايات هي واحدة من مراحل دورة المنتجات، ولكنها على عكس دورة المياه ليست دورة طبيعية ولا مغلقة. طالما بقيت الدورة تتضمّن كميات محدودة من المنتجات المصنّعة كانت تعمل بشكل طبيعي، حيث تكفي العوامل الطبيعية لـ«إعادة تدوير» المنتجات الطبيعية أو الزراعية. لكن مع الزيادة الهائلة في المنتجات والمدخلات المصنّعة أصبحت إدارة النفايات «مشكلة». بات فرز النفايات وإعادة تدويرها ضرورة نظراً لحجم الأضرار وطول الزمن الذي تتطلّبه الطبيعة لإعادة دمج المنتجات غير القابلة للامتصاص بشكل طبيعي.
يترتّب على ذلك ضرورة التمييز بين مرتبتين في العمل وهما:
- مرتبة نسمّيها تقنية، تتحسّن يوماً بعد يوم كفاءتها ولا يتمايز حيالها لبنان بأي خصوصية.
- مرتبة مؤسّسية تتصل بالاقتصاد السياسي حيث يشكّل لبنان حالة شاذة. وتجاهل القرائن التقنية الأكثر بداهة لا يتم إلا تحت تأثير هذا «الشذوذ».
على الصعيد التقني، تشمل الإجراءات:
1. التقليل من النفايات الصناعية (التعبئة والتغليف والأكياس البلاستيكية والحاويات البلاستيكية للسوائل، وغيرها) واستبدالها ببدائل قابلة للتحلّل (أكياس ورقية وغيرها)، أو اعتماد أنظمة توزيع لا تتطلّب التعبئة (شبكة مياه الشرب)، أو كميات أقل من عبوات التغليف (إعادة الزجاجات الفارغة). يجمع هذا الإجراء بين التدخّلات الإلزامية عند إنتاج النفايات والتدخلات المحفّزة عند الاستهلاك.
في ظلّ نظام يعتبر كلّ الأراضي قابلة للبناء، لا عجب بأن ترفض البلديات إقامة أيّ معمل للفرز أو للمعالجة أو أيّ مطمر في نطاقها


2. فصل أعلى نسبة ممكنة من النفايات وفقاً لعملية معالجتها (النفايات الزراعية والمعادن والزجاج والبلاستيك والنفايات السامة) عن طريق الفرز الذي يُمكن إجراؤه في المصدر (بطريقة إلزامية للشركات ومحفّزة للأسر) أو في مرافق الفرز بعد الجمع.
3. معالجة كل فئة من فئات النفايات بالطرق المناسبة: التسبيخ، إعادة التدوير في الإنتاج، التحلّل الكيميائي أو الحراري، العزل، وغيرها، وفقاً للطريقة الأفضل التي تجمع بين أحدث ما توصّلت إليه التكنولوجيا والاعتبارات البيئية والكلفة.
4. التخلّص من المخلّفات بالطرق المناسبة: بالنسبة إلى المواد الخطرة تتم معالجتها من خلال إبطال تفاعلاتها الكيميائية أو الفيزيائية. أما العوادم فتُستخدم لاستصلاح المواقع الطبيعية المشوّهة (المقالع على وجه الخصوص، أو الردميات للإنشاءات العامة وغيرها)، وفي المواقع التي يسمح بها المخطط الشامل 43 لترتيب الأراضي اللبنانية بناء على البيانات الجيولوجية والعمرانية.
على الصعيد المؤسسي تتضمّن الإجراءات:
1. توضيح مسؤوليات السلطات المركزية، وليس صلاحياتها (وزارة البيئة من حيث المعايير والضوابط، وزارة المالية من حيث الحوافز أو الروادع الضريبية) والمحلية (البلديات من حيث التنفيذ وتقديم الخدمات). وهو ما يجعل هذه الهيئات مسؤولة ضمن الإطار السياسي الذي تعمل فيه.
2. إعادة صياغة التقسيمات الإدارية لتكون البلديات قادرة على تحمّل مسؤولياتها بشكل فعّال والتفاوض مع القطاع الخاص والبلديات المجاورة والإدارة المركزية، وهو ما سيقلّل عددها بشكل كبير.
3. إعادة صياغة صفة المقيم والناخب بحيث يكون المستفيدون من الخدمات أو الذين يعانون منها، والذين يدفعون الرسوم، هم من يعيّنون أو ينتخبون المولجين بالإدارة، وذلك من خلال التعداد المنتظم للسكان.
4. تنظيم صلاحية الأراضي في لبنان، وفق أطر تجمع بين النهج المعياري (النطاق الوطني الذي يسمح بمراعاة التجهيزات الهيكلية للمجال، طبيعة التربة، التراث، المخاطر الطبيعية وغيرها) والنهج التعاقدي (اشتراط الصلاحية للبناء بتوفير التجهيزات والخدمة، وبالتالي تخفيض الريع العقاري واستعادة المالية العامة للريوع التي تنتج عن توسّع العمران).

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا