يهدف استخدام دعم المحروقات في دولة ما إلى تحفيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية عبر تأمين موارد طاقة رخيصة الثمن ما يتيح لعملية الإنتاج أن تزدهر بعد خفض كلفتها، لكنّ الإفراط في استخدام الدعم ولا سيما في قطاع الطاقة، يخلق أقفالاً تدفع صانعي القرار لإصلاح الدعم عبر سياسات «غير شعبية».
مشروعية مرتبطة بالـ«أقفال»
- عندما تنتهج حكومة ما مسار الدعم فهي تضع نصب عينيها ركائز ثلاث تدفع هذه السياسة: الثبات الاقتصادي، التنمية، العدالة. غير أن الإفراط في الدعم يؤدّي إلى تأطيره على أنّه «ريع سياسي» فيأخذ خصائص اجتماعية، ويصبح ممزوجاً بالعقد الاجتماعي بين الدّولة والمواطن ما يجعل مشروعية الدّولة مرتبطة بقدرتها على تأمين هذه الخدمة بالسعر الذي بات المواطن يعتقد أنّه حق مكتسب له من أي حكومة يرضى بها لتدير حاجاته الخدماتية.


- السياسة المفرطة في دعم محروقات الطاقة لها تأثير كبير على شكل القطاع. فهي تشجّع وبشكل كبير على الاستثمار في مصادر إنتاج الطاقة التي تعتمد هذا النوع من المحروقات المدعومة، ما يجعل قطاع الطاقة أسير تكنولوجيا وحيدة. هذه الأحادية تؤدي إلى تشكيل بنى تحتية وشبكة معرفية ضيّقة تختصّ حصراً بهذه التكنولوجيا، فتصبح البنى التحتية، من شبكات نقل ومحوّلات طاقة، أسيرة لهذه التكنولوجيا. وبهذا تنشأ «أقفال» قطاعية تُصعّب دخول تكنولوجيات طاقة لتنويع مصادرها والحصول على أمن طاقة جيد.
- من أخطر ما يؤدّي إليه قفل أحادية التكنولوجيا هو اكتسابه خصائص ذات بُعد سياسي قائم على مركزية احتكارية لخدمات الطاقة. فتنشأ شبكة تحالفات قوية يتّسم أعضاؤها بمصالح متداخلة ومشتركة مرتكزة إلى أحادية التكنولوجيا تعمل على بسط سيطرتها المطلقة على القطاع عبر تعميق الانغلاق أكثر وأكثر.
هكذا، تبدأ المشكلة الحقيقية أمام صانعي القرار لإصلاح الدّعم حين يحدث خلل أو عدم توازن ماليّ في خزينة الدولة وموازنتها. أوّل ما يصطدمون به هو قفل «الريع السياسي» الذي بنى العلاقة بين الحكومة والمواطن، والذي كان يمنع أي نقاش لإصلاح الدّعم في الأيام العادية. هكذا يصبح صانع القرار تحت ضغطين؛ الأوّل اجتماعي نتيجة «الريع السياسي»، والثاني «تقشّف مالي» لا غنى عنه يُنتجه إصلاح الدعم. المشكلة الأكبر تكون في الدّول التي يعبَّر عنها اقتصادياً بـ«النامية» حيث يمتزج الخلل وعدم التوازن المالي، مع القصور المؤسّساتي للدفع نحو إصلاحات قاسية، ومع القفل الاجتماعي، فتكون النتيجة انعدام القدرة على اتخاذ القرار خوفاً من الاحتقان الشعبي أو قصوراً لخلل في آلية صنع القرار. لذا، فإنه بشكل عام، يتم إنتاج سياسات «غير شعبية» لإصلاح الدّعم في هذه الدّول بشكل تقليدي من دون العودة لدراسة تكنولوجيا الطاقة الموجودة، بل تذهب الحكومات لرفع تعرفة الطاقة لتغطي قيمة الدّعم عبر برامج مُعدّة من مؤسسات مالية دولية كصندوق النقد والبنك الدولي. إلّا أنّ من الممكن أن يكون الحل المخفّف للاحتقان الشعبي موجوداً في النّظام التكنولوجي للطاقة نفسه.

لبنان: الدعم VS الإصلاح
يعيش لبنان مشكلة ذات بعدين:
1- رزوح أقفال الدعم في كل مفاصل قطاع الطاقة في لبنان، حيث تأتي تجلياتها كالتالي:
◦ قفل العقد الاجتماعي. فتأمين خدمة الكهرباء مدعومة للبنانيين لمدة 30 عاماً عبر تعرفة متدنّية جعلت المواطن يراها حقّاً له يندرج في إطار العقد الاجتماعي لفترة ما بعد الحرب الأهلية. المساس بهذه التعرفة قد يؤدّي إلى خلل في هذا العقد يمكن أن ينتج منه غضب كبير.
◦ قفل أحادية التكنولوجيا لإنتاج الطاقة في لبنان: إن غالبية، إن لم يكن كل مصانع إنتاج الطاقة، تعمل على زيت الوقود الثقيل (Heavy Fuel Oil).

بالأرقام

0.2 دولار
هي كلفة المبيع الحالية للطاقة المنتجة في مصانع الكهرباء العاملة بواسطة الفيول، يتحمل منها المواطن 0.095 دولار
0.08 دولار
للكيلوات / ساعة هي الكلفة المقدّرة لإنتاج الطاقة بواسطة تكنولوجيا الألواح


◦ أحادية التكنولوجيا هذه، أدّت إلى نشوء أقفال مؤسساتية وتشريعية ومعرفية، إذ تفتقد هذه البنى الثلاث في قطاع الطاقة، إلى تشريعات وأدوات واضحة تخدم انصهار تكنولوجيات إنتاج طاقة جديدة. هذه الأقفال أدّت إلى منع تنويع مصادر الطاقة وبذلك بتنا في واقع أمن طاقة ضعيف، فإذا توقف معمل عن الإنتاج أو فشلت الدولة في تأمين محروقات للمصانع أو لم تستطع الوصول إلى عقود تزويد مصانع الإنتاج، فإن كل لبنان يتأثر بانخفاض ساعات التغذية وازدياد العتمة.
◦ يعاني لبنان أيضاً من قفل الاحتكارات وهي ظاهرة لا تقتصر على كارتيلات النفط والشركات العاملة إما في الإنتاج أو التوزيع أو الجباية، بل أيضاً عبر شبكات مولدات الطاقة الخاصّة. وجميعهم قد يعملون جاهدين لإفشال محاولات فتح السوق لشبكات خدماتية جديدة لا تمر عبرهم.
2- لبنان بحاجة ماسّة إلى إصلاح الدّعم نتيجة العجز المالي والخلل في ميزان المدفوعات الذي تعيشه الدّولة بشكل أساسي نتيجة الدين العام الضخم. فالدولة تدعم سنويّاً منتجات مختلفة بنحو 5.2 مليارات دولار، من ضمنهم 900 مليون دولار مخصّصة لمحروقات الطاقة في مؤسسة كهرباء لبنان. وقد بلغت تحويلات الخزينة إلى المؤسسة بين عامي 2000 و2019 نحو 22.8 مليار دولار. حاجة لبنان للإصلاح، تواجهها الأقفال المذكورة سابقاً. لذلك نرى تخبّط صانعي القرار في ما بينهم لمعرفة كيف، وبماذا، ومتى يبدأون عملية إصلاح الدعم. إلا أنّ ما يُجمع عليه غالبية السياسيين في لبنان، أن هذا الإصلاح سيأتي عبر سياسات غير شعبية، وهم بذلك يميلون إلى تطبيق نماذج دول أخرى اتفقت مع المؤسسات المالية الدولية لتطبيق برامج مساعدات مشروطة برفع الدعم. في لبنان، إن حصل هذا في قطاع الطاقة (وهو الأقرب لذلك)، فإن رفع تعرفة الكهرباء على المستهلك قد تتحوّل إلى غليان اجتماعي غير محسوب العواقب.

الطاقة الشمسية حلّ؟
لبنان أمام خيار قد يخفّف وطأة الأثر غير الشعبي لإصلاح الدعم عبر دمج تكنولوجيا الألواح الضوئية للطاقة الشمسية بسوق إنتاج الطاقة. هذا الإدخال بمقدوره حلحلة الأقفال التي يعيشها القطاع في لبنان:
• يمكن لهذه التكنولوجيا أن توقف أحادية تكنولوجيا الإنتاج المعتمدة على مصانع زيت الوقود الثقيل، وبهذا يصبح لدينا تنويع في مصادر الطاقة وأمن للطّاقة أفضل.
• للتكنولوجيا المستحدثة، القدرة على كسر قفل الاحتكار والكارتيلات ما يضعف الحاجة لهذه الجهات واعتبارها عقدة وصل أساسية في سلسلة إنتاج الطاقة.
• بالنسبة لقفل العقد الاجتماعي الناتج عن الريع السياسي، فإن التكنولوجيا لها القدرة ولو جزئيّاً على تأمين طاقة بكلفة إنتاج أقل من الكلفة المدعومة حالياً التي تتكبّدها مؤسسة كهرباء لبنان وخزينة الدّولة. كلفة المبيع الحالية للكيلووات ساعة في مصانع إنتاج الطاقة على الفيول هي 0.20 دولار يتحمّل المواطن منها ما يعادل 0.095 دولار، أي 47.5%، وتتم تغطية الكلفة المتبقية عبر الدّعم. أما الكيلووات ساعة لتكنولوجيا الألواح الضوئية فتقدّر كلفة إنتاجها بـ0.08 دولار وهي في بعض التجارب أقلّ. وبهذا لن تحتاج الدّولة إلى تحمل هذا الفرق بين الكلفتين، بل سيتكبّد المواطن تعرفة أقل من التي كان سيتكبّدها في حال رفع الدعم ورفع التعرفة في فاتورة الكهرباء. وهنا يصبح الضغط الاجتماعي أقل ليتم تخطّي قفل العقد الاجتماعي بأقل الخسائر الممكنة.


تبقى هنا مشكلة العجز المالي لدى الحكومة وعدم قدرتها على الاستثمار في بناء منشآت طاقة جديدة. هذه المشكلة وإن كانت متوقّفة على القرار السياسي إلّا أنّ لها حلولاً مختلفة، من بينها إشراك القطاع الخاص عبر مشاريع استثمارية بين القطاعين العام والخاص. وإذا كان الواقع السياسي في لبنان يعتبر أن الكهرباء هي سلعة سيادية يجب أن لا يدخل عليها القطاع الخاص، فهناك أيضاً إمكانية بحث وتطبيق مشاريع كهذه مع دول أجنبية تعمل على خفض نسبة مساهمتها في انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون عالميّاً لتستثمر لدينا في مقايضات تشبه، بعد التعديل، مقايضات الدين للمناخ (Debt for Climate).
هذا الخيار وإن كان صعباً، إلّا أنه يبقى متاحاً لنا في ظل اهتمام دولي، لا سيّما أوروبي/ فرنسي، لمساعدة لبنان على حل مشكلة الكهرباء. هذه الدول (وخصوصاً الأوروبية) ذات الانبعاثات الكبيرة لثاني أوكسيد الكربون الذي يؤدي إلى الاحتباس الحراري ومشاكل التغير المناخي، تلجأ إلى الاستثمار في دول مختلفة، غالبيتها دول نامية، لتخفيف الانبعاثات في هذه الدّول بنسبة معيّنة ومحدّدة تعادل نسبة مساهمتها في الانبعاثات التي قد وقّعت على خفضها في اتفاقيات المناخ المختلفة وأشهرها اتفاقيتا كوبنهاغن عام 2009 وباريس عام 2015.
لبنان أمام فرصة مفصلية واستراتيجية في قطاع الطاقة. أي قرار يُتخذ حالياً، قد يؤدي إلى أقفال تكنولوجية تخطيها في المستقبل مكلف جداً، أو إلى انفتاح لا يكبّدنا خسائر مالية ويضمن لنا مواكبة الأسواق والتغيرات العالمية السريعة جدّاً في مجال إنتاج الطاقة. إن غالبية معامل إنتاج الطاقة في لبنان أصبحت مستهلكة، أو في نهاية عمرها الاستهلاكي، ما يحتّم الاستثمار في مصانع إنتاج جديدة. لكن لبنان لا يملك ترف الاستثمار في تكنولوجيات معيّنة الآن، ثم الذهاب مستقبلاً للاستثمار في منشآت جديدة بهدف مواكبة التغيرات العالمية تكنولوجيّاً وماليّاً.

الغرق أو فكفكة العقد
إذا أردنا تفصيل سيناريوات قطاع الطاقة في لبنان، فنحن أمام أحد هذه الخيارات:
1- إبقاء المصانع الحالية مع توقّع انخفاض قدرة الإنتاج للطاقة، أي ساعات تغذية أقلّ نتيجة العمر الاستهلاكي للمصانع، وعدم قدرة لبنان على تأمين الزيت الثقيل لتشغيلها، بالإضافة إلى إلزامية رفع الدعم المباشر ما سيؤجّج الشارع الساخط أصلاً على صانعي القرار، وبالتالي لا ندري ما يمكن أن تكون النتيجة.
تأمين الكهرباء بأسعار مدعومة لمدّة 30 عاماً جعل المواطن يراها حقّاً يندرج ضمن العقد الاجتماعي الذي تأسّس بعد الحرب الأهلية


2- الاستثمار في مصانع إنتاج طاقة جديدة تعمل على المحروقات: الزيت الثقيل (كما نملك حاليّاً)، أو الغاز الأرخص ثمناً، والذي يعتبر حلاً جدّياً. في كلتا الحالتين، هذه المصانع لها نفقات رأسمالية وتشغيلية مرتفعة، ويترتب عليها مخاطر عدم قدرة تأمين عقود شراء محروقات من الخارج كما يحصل الآن، وسيحصل مستقبلاً. بالإضافة إلى أن هذا الاعتماد الأحادي على هذه التكنولوجيا سيؤدّي إلى إعادة فرض قفل أحادية التكنولوجيا الذي نعيش الآن. مع الأخذ في الاعتبار أن متوسط الكلفة المستوية للطاقة (LCOE) لتكنولوجيا الألواح الضوئية تساوي 56 دولاراً/ ميغاوات ساعة، أما المتوسط لتكنولوجيا الدورة المركبة التي تستخدم الغاز (Combined Cycle Power Plant) تساوي 71 دولاراً/ ميغاوات ساعة.
3- الإستثمار في الطاقة المتجدّدة يعني نفقات رأسمالية بلا نفقات تشغيلية، لذا ليست هناك حاجة لمحروقات ومخاطر تأمينها، ولا نحتاج إلى دعم محروقات ننتج بها الطاقة لشراء الريع السياسي.
4- الجمع بين الخيارين الثاني والثالث مع الاعتماد الكبير على الطاقة المتجددّة فيصح لدينا تنويع لمصادر الطاقة، مخاطر تشغيلية أقل، أمن طاقة أعلى.

تابع «رأس المال» على إنستاغرام

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا