ليست هناك دراسات تشير إلى المنافع الاقتصادية التي جناها الأردن جرّاء اتفاقية وادي عربة. منظّرو التطبيع، مثل معهد طوني بلير للتغيير الشامل، أو معهد الشرق الأدنى لدراسات السياسة، وغيرهما، جهدوا لإيجاد منافع اقتصادية مباشرة لهذه الاتفاقية. حتى الكيان الصهيوني لم يستفد منها إلا أمنياً باعتبار الأردن مدخلاً إلى دول الخليج العربي. من هنا يمكن فهم خطورة التطبيع الخليجي الذي تلازم مع تفجير مرفأ بيروت، لجعل مرفأ حيفا والأردن المدخل للتجارة مع دول مجلس التعاون المطبّعة علناً أو من تحت الطاولة مع الكيان الصهيوني
أنجل بوليغان ــ المكسيك

لم نجد دراسات عربية تنقض سردية التطبيع بين الأردن والكيان الصهيوني من الناحية الاقتصادية. كأنه من غير المرغوب فضح سردية المنفعة من اتفاقية وادي عربة. بالفعل، يصعب إيجاد أدلّة تدعم جدوى التطبيع من الناحية الاقتصادية البحت. لذا، نلجأ إلى منهجية مقاربة الجدوى الاقتصادية المصرية نفسها (انظر العدد السابق بعنوان: اقتصاد مصر بعد أربعة عقود على التطبيع) لاتفاقية كامب دافيد، أي التأثير على النفقات العسكرية التي سـ«تُحرَّر» لأغراض التنمية والنمو، التجارة الخارجية، الاستثمارات الخارجية المباشرة. لم تظهر أدلّة قاطعة في كل هذه القطاعات على «نجاح» التطبيع مع الكيان الصهيوني. هذا يعود أولاً، إلى الرفض الشعبي للتطبيع، وثانياً لأن الاقتصاد الأردني قد لا يستطيع تقديم سوق اقتصادية للسلع الصهيونية أو فرص استثمار تنسجم مع مشاريعها التي يغلب عليها الطابع الأمني العسكري، لكن الأهم هو أن الأردن بوّابة للتجارة الخارجية الصهيونية لدول الخليج.

النفقات العسكرية
في عام 1994، أي حين وُقع اتفاق وادي عربة، كان الإنفاق العسكري يوازي 410 ملايين دولار، أي 6.54 % من الناتج الداخلي، بينما في عام 2010 وصل الإنفاق العسكري إلى مليارَي دولار أو ما يوازي 4.68% من الناتج الداخلي. هناك زيادة في الرقم المطلق (خمسة أضعاف)، إنما بنسبة أقل من الناتج الداخلي، ما يمثّل قفزة مهمة في الناتج الداخلي خلال تلك الفترة. لكن هذا لا يعني أنه تم «تحرير» موارد مالية توظّف في الاقتصاد بل تم تخفيف العبء الاقتصادي بسبب ارتفاع الناتج الداخلي. هذا الارتفاع يعود لأسباب عديدة خارج إطار هذه المقاربة.
في المقابل، ساهمت الولايات المتحدة في دعم القوّات المسلّحة الأردنية منذ سنة 1957 وتمّ تجديد المساعدات عبر السنوات. وصلت قيمة المساعدات الأميركية للقوّات المسلّحة إلى 2.17 مليار دولار في عام 2019. مهمّة القوّات المسلّحة الأردنية من المنظور الأميركي، حماية الحدود، المساهمة في عمليات مكافحة الإرهاب، وفي «عمليات مشتركة»!

التجارة الخارجية
يشير عدد من الدراسات، إلى أن التجارة الخارجية الأردنية نمت بفضل التغييرات التي أجرتها الحكومات الأردنية في البنية الاقتصادية. إعادة هيكلة الاقتصاد الأردني كان باتجاه «تحريره» من القيود التي كانت «تعيق» النمو والتنمية وفقاً لإرشادات المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. ليس هذا المقال مخصّصاً لمقاربة هذه التغييرات وتقييمها بل لرصد أي مردود من التطبيع على الاقتصاد الأردني. فالتجارة الخارجية الأردنية، لم تنمُ بسبب اتفاقية وادي عربة مع الكيان الصهيوني بل بسبب الاتفاقات التي عقدها الأردن مع الولايات المتحدة، كالتجارة الحرّة عبر المناطق الصناعية المؤهّلة (كويز) كما في مصر، علماً بأن الأردن سبق مصر بعشر سنوات في توقيع الاتفاقية. فقد ارتفع حجم التجارة الخارجية الأردنية من نحو 5 مليارات دولار قبل عام 2000 إلى نحو 26 مليار دولار في عام 2017، مع ميزان تجاري سلبي بقيمة 4.3 مليارات دولار.
إقدام دولة الإمارات على التطبيع مع الكيان الصهيوني سيؤدّي إلى تراجع ملموس في الاقتصاد الأردني وخصوصاً في مجال الطيران


شركاء الصادرات الأردنية هم الولايات المتحدة في المرتبة الأولى بنسبة 25%، بلاد الحرمين في المرتبة الثانية بنسبة 13%، ثم العراق والهند بنسبة 8%، والكويت بنسبة 5%، واتحاد الإمارات العربية بنسبة 5%. الأسواق العربية في الخليج والعراق تشكّل 30% من الصادرات الأردنية ما يجعل تأثير تلك الدول مهماً على الأردن، إضافة طبعاً إلى التأثير الأميركي.
أما على صعيد الاستيراد، فتأتي الصين بالمرتبة الأولى حيث تشكّل 14% من إجمالي الاستيراد، ثم بلاد الحرمين بنسبة أقل من 14%، فالولايات المتحدة بنسبة 10%، والإمارات بنسبة 5%، وألمانيا بنسبة 4%.
حجم الناتج الداخلي لسنة 2017 كان نحو 40 مليار دولار، ما يجعل التجارة الخارجية المقدّرة بنحو 26 مليار دولار تمثّل 65%، ما يدلّ على انكشاف كبير تجاه الخارج بشكل عام وتجاه الولايات المتحدة ودول الخليج العربي.

اتفاقية الغاز
وقّعت الحكومة الأردنية اتفاقاً مع الكيان الصهيوني في عام 2016 لاستيراد الغاز بقيمة 10 مليارات دولار يمتدّ على 15 سنة، علماً بأن البرلمان الأردني رفض اتفاقاً مماثلاً في عام 2014. ترافق التوقيع مع احتجاجات كبيرة مندّدة بالاتفاق، وخصوصاً أن بنود الاتفاق لم تُنشر إلا سنة 2019 بتسريب من نائب معارض في البرلمان. عدم الشفافية من قبل السلطات الأردنية أثار حفيظة قطاعات واسعة ولا سيما أن الحاجة إلى هذا الغاز غير مبررة في ظل مصدر ثان للغاز من قطر. حجة الحكومة الأردنية، تفيد بأن الاتفاقية مع الكيان ستسهم في استقرار سعر الغاز وستؤدّي إلى توفير ما يوازي 500 مليون دولار لمصلحة الموازنة الأردنية. يسجّل للبرلمان الأردني رفض الاتفاقية عبر مسودة قرار صدر في 19 كانون الثاني 2020. لكن ليس واضحاً إذا التزمت الحكومة الأردنية بقرار البرلمان.
من سلبيات الاتفاق، الضغط على عدم الاستثمار في مصادر طاقة بديلة منسجمة مع ضرورات الحفاظ على البيئة. الالتزام باستيراد الغاز من الكيان، يفقد الجدوى الاقتصادية للاستثمار في تلك القطاعات الجديدة. كما يمنع الاستثمار في إعادة تأهيل الشبكات القائمة بذريعة أن الإنتاج الحالي للطاقة يفوق الحاجات الظرفية وفقاً لتقارير خبراء في الطاقة في الأردن.

الاستثمارات المباشرة الخارجية
شهد الأردن تدفقاً للاستثمارات الخارجية المباشرة بعد اتفاقية وادي عربة. لكن ليس واضحاً أن هذا التدفق يعود إلى «ثمار» الاتفاقية، بل الأرجح أنه يعود إلى إجراءات إعادة هيكلة الاقتصاد الأردني وفقاً لإرشادات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فرأس المال الخاص لا يتحرّك بموجب قرار سياسي بل بسبب عامل الربح، والربح السريع والمضمون. الإجراءات التي اتُّخذت خلقت «مناخاً صديقاً» للاستثمارات الخارجية بحسب الكثير من التقارير الغربية. إجمالي التدفقات الاستثمارية خلال فترة 1994-2019 وصلت إلى أكثر من 36 مليار دولار وفقاً لموقع «نوردياتراد»، لكن بوتائر مختلفة. كانت ذروة الاستثمارات المباشرة الخارجية في الأردن في عام 2005 مسجّلة نحو 3.5 مليارات دولار، لكنها انخفضت لاحقاً بشكل ملحوظ لتبلغ 830 مليون دولار في عام 2019. كما أن نسبة الاستثمارات الخارجية من الناتج الداخلي وصلت إلى 23.5% لسنة 2005 بينما انخفضت إلى 1.85% لسنة 2019، بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي وتقرير آخر صادر عن «ماكروترندز».
بمعزل عن جدوى هذه الإجراءات التي لا يُعتقد أنها ساهمت في تنمية الأردن، بل أدّت إلى استثمارات في بعض القطاعات فقط ولم ينتج عنها منافع ملحوظة، وفقاً لدراسة أُعدّت سنة 2013 من قبل جامعيين أردنيين. جاء في هذه الدراسة أن الاستثمارات الخارجية، معظمها من الدول العربية، وهذا شيء إيجابي في رأينا، خصوصاً في قطاع الصناعات التحويلية والطاقة والزراعة. وآلية الاستثمارات كانت عبر البورصة الأردنية في عمان. ليست مهمتنا تقييم جدوى السياسة التي تشجّع الاستثمار الآتي من الخارج، بل النظر في ما إذا كان التطبيع مع الكيان ساهم في تنمية الاستثمارات.
في هذا السياق شهدت سنة 2016 تحوّلاً لافتاً للبرلمان الأردني الذي له باع طويل في مناهضة التطبيع الاقتصادي. ففي تلك السنة وافق البرلمان الأردني على قانون يتيح للكيان الصهيوني الاستثمار في صناديق استثمار أردنية تديرها الحكومة الأردنية. هلّلت صحيفة «جيروسليم بوست» بهذا القرار الذي اعتبرته طعنة لحركة «بي دي أس» الفلسطينية التي تدعو إلى مقاطعة البضائع الصهيونية وكلّ أشكال التعاون الثقافي والاجتماعي. هذه الطعنة، بحسب الصحيفة، جاءت بينما يسهم نشطاء أجانب من أكاديميين ومسؤولين في حملة المقاطعة. رغم ذلك، لم يتجاوز حجم الاستثمارات الصهيونية في الأردن ما قيمته 4.7 ملايين دولار في نهاية 2016. والإحصاءات المتوافرة حتى آخر 2017 تفيد بأن الاستثمارات الصهيونية ما زالت بنحو 5 ملايين دولار، أي ليس هناك من استثمار يُذكر في البورصة الأردنية.

تطبيع فوق التطبيع
في الخلاصة، لا يمكن أن نقول بأن التطبيع «نجح» في الأردن، رغم بعض الاختراقات كما حصل في مصر. فالشعب الأردني، كما المصري، كان وما زال رافضاً للتطبيع مع الكيان الصهيوني. والحكومات الأردنية لا تستطيع أن تقدّم كشف حساب إيجابياً لسياسة التطبيع. لكن الخيارات والسياسات الاقتصادية التي اتُّبعت في إعادة هيكلة الاقتصاد الأردني وفقاً لتعليمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أدّت إلى انكشاف الاقتصاد الأردني تجاه الخارج، وخصوصاً تجاه الولايات المتحدة ودول الخليج. هذا يُضعف قدرة الحكومة الأردنية، أيّاً كانت، في مواجهة أي إملاء خارجي بما فيه ما يمكن أن يصبّ في مصلحة الكيان الصهيوني. وما يزيد الطين بلّة، إقدام دولة الإمارات على التطبيع، ما سيؤدّي إلى تراجع ملموس في الاقتصاد الأردني وخصوصاً في مجال الطيران. وفق مجلّة «غلوبس» الاقتصادية الصهيونية، فإن اتفاقات الطيران بين الكيان وكل من البحرين والإمارات ستزداد بشكل ملموس، ليس بهدف نقل السياح فقط، بل كمحطات لنقل الركّاب من الكيان إلى الشرق الأقصى، علماً بأن الشركة الأردنية «العالية» تقوم بتلك المهمة.


** باحث وكاتب اقتصادي وسياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

* هذا المقال هو واحد من حلقات عديدة مقتطفة من الورقة التي أعدّها الباحث والكاتب الاقتصادي والسياسي، زياد حافظ بعنوان: «البعد الاقتصادي للتطبيع: الواقع والمواجهة}، والتي قدّمها في منتدى «متحدون ضد التطبيع} في 21 شباط 2021. يقول حافظ إن مهمة الورقة ليست تعداد المكتسبات التي حققها الكيان الصهيوني من خلال اتفاقيات السلام والتطبيع غير الرسمي الذي تعمّم في التسعينيات، بل التركيز على فكرة أساسية أن هذه الاتفاقيات لم تؤدّ إلى تحسين المشهد الاقتصادي للدول التي أقدمت على تلك الخطوة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام